النظرية الخضراء في العلاقات الدولية "Green theory"

elsiyasa-online.com
النظرية الخضراء في العلاقات الدولية  "Green theory"

عالم اليوم أكثر تعقيداً وديناميكية من أي وقت مضى، وهو ما جعل القضايا العالمية غير المهمة تصبح ذات تأثير في أجندة السياسة العالمية ، ولعل القضايا والإشكالات البيئية تعتبر من أهم المواضيع التي حازت اهتمامات كبرى من قبل المجتمع الدولي في السنوات الأخيرة، ما جعل الحقل النظري للعلاقات الدولية يعيد النظر في مثل هذه الموضوعات الأمر الذي ترتب عنه بروز ما يسمى بالنظرية الخضراء في العلاقات الدولية، كمحاولة لفهم التغييرات البيئية والأيكولوجية التي اصبحت تهدد حياة الأفراد والمجتمعات والدول في العالم ككل
 
.
ضبط مفهوم النظرية الخضراء - Green theory في العلاقات الدولية:
لقد تعددت المفاهيم المستخدمة لوصف النظرية السياسية الخضراء على حد طرح الباحثين باري و دوبسون - Barry and Dobson، من الدراسات الأيكولوجية - Ecologism إلى الدراسات البيئية - Environmentalism، أو النظرية السياسية الأيكولوجية - Ecological political theory أو النظرية السياسية البيئية - Environmental political theory.  



رغم وجود اختلافات بين هذه المفاهيم، وهذه الدراسة ستركز على مفهوم النظرية السياسية الخضراء كمصطلح مناسب أكثر شمولية وملائمة من الدراسات الأيكولوجية أو البيئية.
وتجدر الإشارة إلى أنَّه في حين يستخدم وصف النظرية السياسية الخضراء - green political theory على نطاق واسع في أوروبا وأسترالاسيا Australasia ، يشار إليها في شمال أمريكا عادة باسم النظرية السياسية البيئية - environmental political theory.
وتُعرّف  النظرية الخضراء بأنَّها فرع من فروع حقل العلاقات الدولية التي تسهم في فهم السياسة العالمية في إطار مزيج من القضايا البيئية، فهي تدرس السياسة العالمية عن طريق تركيزها في الحفاظ على البيئة، فهي تتطلب نهجاً تحويلياً سياسياً تجاه المحافظة على البيئة و تقترح مفاهيم التحديث البيئي "ecological modernization" و تصاميم الحل الجماعي "collective solution designs".
وإنَّ غاية النظرية الخضراء في علم العلاقات الدولية هي تقديم تفسير للأزمة الأيكولوجية التي تواجهها الإنسانية، و التركيز عليها باعتبارها أهم قضية على المجتمعات البشرية التعامل معها و تقديم أساس معياري للتعامل مع تلك الأزمة.
وقد وصفت روبين ايكرسلي - Eckersley Robyn النظرية الخضراء بأنَّها أكثر راديكالية في طبيعتها مقارنة بالنظريات الأخرى في حقل العلاقات الدولية و هي مستوحاة من عوامل خارجة عن نطاق نظرية العلاقات الدولية و بالتالي تحاول زيادة الوعي حول العمى ( الجهل ) البيئي "ecological blindness" الذي تعاني منه نظريات العلاقات الدولية.
وتُصنّف النظرية الخضراء بأنَّها تندرج ضمن تقليد النظرية النقدية - critical theory tradition، بمعنى أنَّ القضايا البيئية تثير عدة أسئلة حول العلاقات بيننا وبين الآخرين في سياق المجتمع "in the context of community" وصنع القرار الجماعي  collective decision-making .
ويُستخدم اصطلاح "الخضراء" للإشارة ببساطة الى الاهتمامات البيئية وقد حازت في أوائل  التسعينات النظرية الخضراء على اعتراف بها كنظام فكري جديد في البحث، ولها فرعاً معيارياً يعنى بمسائل العدالة والحقوق والديموقراطية والمواطنة والدولة والبيئة، وفرعاً في الاقتصاد السياسي يعنى بفهم العلاقة بين الدولة والاقتصاد والبيئة.

بدايات نشأة وتطور النظرية الخضراء و أهم روادها: 

لم تكن المشكلات البيئية شاغلًا رئيسياً قط في تخصص العلاقات الدولية الذي ركز تقليديا على مسائل تتعلق بالسياسة العليا كالأمن والصراعات مثلاً، إلا أنَّ التصاعد في المشاكل البيئية العابرة للحدود بداية من 1970 ومابعده قد رأى انبثاقاً لتخصص فرعي مكرس في تخصص العلاقات الدولية يعنى بالتعاون البيئي الدولي، وقد نما هذا المجال البحثي مع تزايد الاعتمادية الاقتصادية والبيئية المتبادلة عولمياً و بروز مشكلات بيئية عولمية كالتغير المناخي وتضاؤل طبقة الأوزون .
ومع حلول العقود الأخيرة للقرن العشرين برزت مجموعة متنامية من النظريات الخضراء التي شككت ببعض الافتراضات الأساسية لحقل العلاقات الدولية ونقد المقاربات العقلانية السائدة (خاصة الواقعية الجديدة و الللبيرالية الجديدة)، لتستند إلى الاقتصاد السياسي الدولية و نظريات العلاقات الدولية المعيارية ذات التوجه الكوزموبوليتاني لتظهر خطابات جديدة حول الأمن البيئي "ecological security" والتنمية المستدامة "sustainable development" والعدالة البيئية "environmental justice“.

وعموما هناك طريقة لفهم تطور النظرية الخضراء من خلال الاستناد لمصطلح الموجات  - waves، بمعنى أنَّ النظرية الخضراء مرَّت بعدة موجات في تطورها. الموجة الأولى  - First wave أين كانت النظرية السياسة الخضراء معنية بتقديم التفسيرات المتميزة للأيكولوجيا "ecologism" كأيديولوجية ونظرية سياسية خضراء باعتبارها نهج متميز في السياسة، ومن روادها (Porritt, 1984; Pepper, 1984; Spretnak and Capra, 1985; Dryzek, 1987; Dobson, 1990; Eckersley, 1992; Paehlke1989, Hayward, 1995). أما في الموجة الثانية "Second wave" فقد تميز الفكر الأيكولوجي بالاهتمام بالمناقشات التي دارت بين النظرية السياسية الخضراء وبين المدارس الفكرية الأخرى كاللبيرالية و النسوية والنظرية النقدية وكذا الإشتراكية... مع التركيز على بعض المفاهيم الأساسية في الفكر السياسي مثل الديموقراطية، العدالة، الدولة، المواطنة ومن أهم روادها (Barry, 1999; Mellor, 1997; Salleh, 1999; Wissenburg, 1998; de-Shalit,1996; Doherty and de Geus, 1996; Sakar, 1999; Lafferty and Meadowcroft, 1996).




في حين أن الموجة الثالثة - last wave فقد ارتبطت بالتطورات الأخيرة التي تسمى بالجيل الثالث - third generation ،أين يلاحظ التركيز التطبيقي والعبر تخصصي للفكر السياسي الأخضر، و في الواقع من الصعب على المستوى الفكري التفكير في العديد من القضايا التي تهم النظرية الخضراء دون الخوض في الجمع بين مختلف التخصصات العلمية الأخرى، وفيما يتعلق بهذا التركيز عبر التخصصي تميل دراسة الجيل الثالث بشأن السياسات الخضراء والإستدامة لأن تكون مستنيرة من قبل مجموعة واسعة من التخصصات المتكاملة مع البحوث التطبيقية و التجريبية، ومن أمثلة كتابات الجيل الثالث للنظرية الخضراء سياسات عدم الاستقرار في الواقع الحالي ل باري The Politics Barry, 2012 of Actually Existing Unsustainability، الاقتصاد الأخضر لمولي سكوت كاتو Green Economics Scott-Cato, 2008، المواطنة البيئية لآندي دوبسون  Andy Dobson Environmental Citizenship (2003  السياسات البيئية والنظرية الديموقراطية لماثيو هيمفري Mathew Humphrey’s Ecological Politics and Democratic Theory Humphrey, (2008  كيف تكون لبيرالية خضراء لسيمون هايلوود Simon Hailwood’s How to be Green Liberal (2004).

المواضيع الهامة في أجندة النظرية الخضراء:

هنالك عدة محاور قدمتها النظرية الخضراء للدفاع عن البيئة منها :

- الدفاع عن البيئة وحمايتها من التلوث والأمطار الحمضية والإشعاعات النووية والمخلفات بأنواعها، خاصة المشعة والنووية (دفن النفايات في العالم الثالث مثلًا).

- النظرة الكلية للكون، أي أن العالم الطبيعي هو وحدة واحدة، وألا يتم التعامل مع أجزائه ومفرداته كل على حدة .

- استدامة التنمية ورعايتها للبيئة، وتحذيرها من الاستهلاك المتزايد غير المحسوب للموارد الطبيعية والمادية، وحثت على التعامل الرشيد والاستهلاك المتوازن، وإعادة استخدام المواد (التدوير)، وأن تكون المشروعات الصناعية وبرامج التنمية مبنية على هذا الأساس.

- الدفاع عن القيم، إذ ركزت على القيم التي يعتنقها الأفراد في تعاملهم مع البيئة، وحرصها على الأجيال القادمة، والمسؤولية الاجتماعية، وحقوق الحيوان، والسلام دفعًا لخطر الدمار النووي الشامل.

المبادئ الأساسية للنظرية الخضراء:

إن النظرية الخضراء والسياسات المرتبطة بها لها العديد من المبادئ والسمات المحددة من بينها الأخلاقيات المتمركزة حول البيئة "ecocentric ethics" ، وحدود النمو limits growth واللامركزية في السلطة "decentralization of power" .

البداية مع الاخلاقيات المتمركزة حول البيئة إذ يرفض مناصرو النظرية الخضراء أخلاق المركزية الإنسانية (أي بوجود بشر في مركز العالم الأخلاقي)، و يفضلون اقتراباً متمركز حول الأيكولوجيا، ووفقا لإيكرسلي Eckersley - هي تتعلق من الناحية الإمبريقية بنظرة للعالم باعتبارها مؤلفاً أنطولوجياً من علاقات بيئية وليست كيانات فردية وجميع الكائنات تضرب بجذورها في العلاقات الأيكولوجية بشكل أساسي.

أما المبدأ الثاني فهو حدود النمو في الأزمة البيئية، و يشرح هذا المبدأ أو هذه الخاصية أن السبب الأساسي للأزمة البيئية الحالية هو النمو الاقتصادي غير المسبوق الذي أدى لتآكل الموارد البيئية لأقصى حد. في حين أن الميزة الثالثة فهي اللامركزية، وهي شكل من أشكال إعادة الهيكلة السياسية العالمية من قبل السياسة الخضراء، فالدول سواء كانت كبرى أم صغرى لا تتمكن من التعامل بفعالية مع الإستدامة وبالتالي فالمركزية هي مطلب ضروري، فالسلطة مطلوبة لكن ليس على المستوى العالمي وإنما من خلال المجتمعات الصغيرة التي يمكنها معالجة التمزقات البيئية والاستخدام الفعال للموارد.

المفاهيم المركزية للنظرية الخضراء:

من الواضح بأنَّ النظرية الخضراء تختلف عن النظريات التقليدية للعلاقات الدولية في نواح كثيرة، وتعتبر مفاهيم الأمن والدولة والاقتصاد من بين أكثر المفاهيم إثارة للجدل بين نظريات العلاقات الدولية، وهي مفاهيم مركزية أيضاً في موضوعات النظرية الخضراء، لكن مع معاني ودلالات وقيم مختلفة ومن الضروري إدراك هذه المعاني لفهم نظرية العلاقات الدولية الخضراء وفيما يلي تفصيل ذلك:

- الأمن الأخضر"Green Security": تتمتع النظرية الخضراء برؤية متمركزة حول البيئة في رؤيتها للعالم، ولا تعطي الأولوية للإنسان أو البنى القائمة على الإنسان للعالم غير الإنساني، والمنظور الأخضر للأمن يشمل أمن الطبيعة كلها لذلك يفضل الخُضُرْ -greens  مصطلح الكرة الأرضية بدلا من الأرض globe instead of earth. و قد تحدى مُنظِّري العلاقات الدولية الخضراء النظرية الواقعية في تفسيرها للأمن القومي وذلك من خلال إطار عمل أكثر شمولا لفهم الأمن، والذي يأخذ رفاهية الفرد وسلامة النظام البيئي كنقطة مرجعية أخلاقية وتحليلية .

- الدولة الخضراء"Green State": لقد أصبح الدور المتحول للدولة في العلاقات الدولية - خاصة في ظل وجود فواعل أخرى - ، والقدرة والمدى الذي يُمَكِّنَها من خلالها الاستجابة للمشاكل البيئية الناشئة مسألة نقاش، بالنظر إلى أنَّ الدول فشلت في الاستجابة للاحتباس الحراري والمشاكل البيئية الأخرى التي بدأت في الستينيات. علاوة على ذلك، يرى أنصار النظرية الخضراء أن جشع الدول هو المصدر الرئيسي للمشاكل البيئية، نظرا لأنَّ الدول تتصرف وفقًا لمنظور المكاسب النسبية relative gains perspective، فهي أكثر حرصا على حل المشكلات البيئية التي تهمها أكثر، لكنها مترددة في حل المشكلات المتعلقة بالموارد المشتركة (مثل الماء والهواء والمحيطات). وبينما تم تحديد موقف أنصار النظرية الخضراء ضد هيمنة الدولة فهم يشككون في نوايا و ضرورة وجود الدول فبعض المفكرين الخُضُرْ يعتبرون الدولة شراً لا بد منه state as a necessary evil

- الاقتصاد الأخضر"Green Economy":  لقد أصبحت العلاقة بين المشكلات البيئية والاقتصاد الدولي أكثر وضوحًا بعد سبعينيات القرن الماضي. وعلى مدار الخمسين عاماً الماضية، نوقشت القضايا البيئية في مؤتمرات القمة الدولية والمؤتمرات ومجموعات الدول لأنه من المقبول على نطاق واسع أن التدهور البيئي والتلوث سواء أكان محليًا أو عابر للحدود القومية أو عالميًا ، يؤثر على الدول بأكملها تمامًا. ومع ذلك  فإنَّ المخاوف الاقتصادية تجعل من الصعب في كثير من الأحيان التوصل إلى قرار مشترك. ووفقاً لوجهة نظر اقتصادية سياسية دولية خضراء، على الرغم من أن الوعي العالمي مهم للغاية ، إلا أنَّه ينبغي اتخاذ إجراءات على المستوى المحلي. باختصار، يجب أن يكون مبدأ " فكر عالميا و نفذ محليا think globally act locally هو المبدأ الرئيسي لحل المشكلات العالمية.

و بعد قمة الأرض في ريو دي جانيرو في عام 1992 ، أصبحت التنمية المستدامة هي الاستراتيجية السائدة للتعامل مع آثار المشاكل العالمية المدفوعة اقتصادياً ، وقد بدأت التنمية المستدامة تؤثر على القوانين البيئية الوطنية والدولية. ومع ذلك، ينبغي الاشارة أنَّ علماء البيئة ومنظري السياسة الخضراء ليسوا مقتنعين بكفاءة استراتيجيات التنمية المستدامة، كما يرى مناصري النظرية الخضراء أن التجارة الواسعة هي السبب الرئيسي لإنهيار الأمن الاقتصادي وهي السبب كذلك للمشاكل البيئية.

و بالتالي ينتقد الاقتصاد السياسي الأخضر الاقتصاد العالمي، ويجلب منهجاً معيارياً وأخلاقياً للعلاقات بين العالمين الإنساني وغير الإنساني.

وفي النهاية فإنَّ النظرية الخضراء تتموضع ضمن نطاق النقدية، وتهدف إلى تقديم تفسيرات للظواهر والمشكلات في السياسة العالمية، وقد ساهمت في فهم العديد من القضايا والموضوعات المتعلقة بالمشاكل البيئية العالمية من خلال إعادة تكوين العلاقة بين الطبيعة البشرية وغير البشرية للعالم، ما يجعلها طريقة جديدة للتفكير في حقل العلاقات الدولية. وقد جمعت بين السياسة والعولمة والبيئة في إطار نظري متكامل أصبح يعرف بالنظرية السياسية الخضراء، والتي أصبحت تحظى باهتمام متزايد في عالم اليوم.





تعليقات