ماهر القدارات
ـ الاحتجاج على الأوضاع الاقتصادية المتأزمة وعلى الفساد:
ربما نجح اتفاق الطائف في القضاء على الحرب الأهليّة التي اندلعت في لبنان قبل 30 عاما وأرسى نوعا من الاستقرار، لكنّه استقرار هشّ خلق فوضى سياسية وأزمة اقتصادية، وهو القشّة التي أجّجت فتيل الاحتجاجات في لبنان.
حيث أبدى اللبناني تمردا غير مألوف ضدّ جميع السياسييّن من خلال المظاهرات التّي امتدّت طيلة أسبوع كامل أُغلقت على إثرها المدارس والجامعات والمصانع والإدارات والمرافق الحيوية في البلاد تزامنا مع تزايد أعداد المتظاهرين في قلب العاصمة بيروت وفي مناطق أخرى كصيدا وطرابلس بسبب الضريبة التّي فرضتها حكومة سعد الحريري على قطاع الاتّصالات والتي تراجعت عنها في ما بعد.
هذا الإجراء لم يستطع أن يُخمد فتيل الاحتجاجات و لا أن يحتوي غضب الشارع اللبناني الثائر على الركود الاقتصادي والفساد المُستشري في كامل مفاصل الدولة وغياب الخدمات العامّة الأساسية إضافة إلى انقطاع الماء والكهرباء وارتفاع ثمن المحروقات والضرائب التّي أثقلت كاهل المواطنين.
لكن اللاّفت في هذه الاحتجاجات أنها خرجت عن الخطوط الطائفية التي كانت قدر لبنان طيلة عقود من الزمن، ورُفع فيها فقط ولأول مرّة العلم اللبناني لا علم حزب الله أو الوطني الحُر أو تيار المردة أو الكتائب بعيدا عن ألوان الأحزاب والطوائف في مشهد وطني يبيّن مدى تمسّك اللبناني بالهُويّة الوطنية الجامعة ورفضه لسياسة التخندق الطائفي الذي ساهم في تفتيت النسيج الدولتي.
أدرك اللبنانيون أخيرا أن المسيحي الذي يعيش في فقر مُدقع لا يختلف عن السُنّي أو الشّيعي الذي يعيش نفس الحالة وأدركوا أيضا أن الانتماءات السياسية لا تُوحّد بل تُفرّق ولا يمكن لها أن تبني دولة وطنية تُلبّي حاجيات المواطن.
2ـ لبنان والطائفية السياسية:
ومن أسباب هذه الاحتجاجات الفساد والمحسوبية والطائفية السياسيّة والمُوالاة لإيران ولسُلطة الوليّ الفقيه كما هو الحال في الاحتجاجات العراقيّة التي اندلعت قبل شهر.
يحصد حسن نصر الله اليوم الذي يتبع تعاليم المرشد الأعلى ضريبة تمسكه بالأجندة الإيرانية وابتعاده عن الخيارات الوطنية والعربية، إذ لم يكتف بالسيطرة على مواقف لبنان الخارجية وتحويلها نحو المحور الإيراني بل تغوّل في الشأن الاقتصادي ومارس الفساد على جميع المستويات وتلاعب بمستقبل اللبنانيين وبقُوت يومهم وبمعيشتهم وبأوضاعهم الصعبة مستغلا شعار المقاومة الذي يسكت به كل معارض لسياساته، فكأنّ سلطة المقاوم تفوق سلطة القانون والدستور والدولة وتُبيح له التعامل مع دول ومخابرات أجنبية.
لم يتصوّر نصر الله بل ولم يٌقدّر حجم الغضب الشعبي المتزايد يوما بعد يوم والذي ندّد صراحة بأفعاله ودوره المشبوه في السياسة اللبنانية، كما لم يتخيّل أن تُرفع شعارات ضدّه ومن أنصاره بالذات في بيروت وطرابلس ومعقله بالضاحية الجنوبية، ولم يستطع خطابه الأخير تهدئة غضب الشارع كعادته كل مرة بل أشعل فتيل الأزمة من جديد وقوبل بالمُقاطعة الشعبية وبحملات من الاستهزاء والرفض.
وكُلّ من يراقب الشأن اللبناني خلال السنوات الماضية يعرف جيدا مشكلة الدولة اللبنانية التي تتمثل في بناء حزب الله دولة داخل دولة وجيشا موازيا للجيش النظامي يحتكر السلاح إضافة إلى ميليشيات تموّلها إيران تحت عنوان فضفاض هو المقاومة يُشرّع به هيمنته ووُجوده.
اكتشف المواطن اللبناني أخيرا أن مصلحة الوطن تفوق كل انتماء آخر فأظهر عدم الثقة في نُخبته السياسية، حيث طال الغضب أيضا الرئيس ميشال عون الذي عجز عن حلّ مُشكلات لبنان المتفاقمة منذ توليه الرئاسة وسلم واجهة الرئاسة إلى وزير خارجيته جبران باسيل الذي تميّزت شخصيته بالتصادم وبنوع من الاستعلاء في التعامل مع المواطنين والصحفيين، وطال النقد أيضا رئيس الحكومة الذي باع دم والده الشهيد رفيق الحريري من أجل رئاسة الحكومة وتغاضى عن تجاوزات الوزراء والنواب.
ولم يعدّ يُصدق المواطن أيضا خطابات وليد جُنبلاط ولا سمير جعجع ولا سليمان فرنجية ولا وعودهم المتكررّة بالإصلاح ومُحاربة الفساد والقطع مع نظام المحاصصة الطائفي.
3ـ دولة المواطنة كبديل سياسي واجتماعي للطائفية:
طالب المحتجون زعماتهم بالاستقالة بعد فشلهم في إخراج لبنان من أزمته الاقتصادية رغم إعلان رئيس الحكومة عن حزمة من الإصلاحات الاقتصادية منها خفض رواتب السياسيين والاستثمار في مجال الطاقة والتراجع عن الضرائب وفرض ضرائب على المصارف للمُساعدة في خفض حجم الدّين العام، لكن هذه الإجراءات جاءت مُتأخرة ولم تعد تُلبي مطالب المحتجّين الذين تعهدوا بالبقاء في الشوارع بهدف إسقاط النظام، وقفزوا لأول مرّة فوق حاجز الخوف من سلاح نصر الله الذي أغلق به يوما طُرقات بيروت ومطارها الدولي لأنهم اكتشفوا أخيرا أن المُحاصصة السياسية لا تضمن حياة كريمة للمواطن اللبناني، وأنهم مُجرد أداة وأتباع للزعماء السياسيين يستعملونهم في الحشد متى أرادوا ذلك.
صفوة القول إن غياب الديمقراطية ومعها المواطنة في لبنان أثرا سلبا في العملية السياسية وعطّلا عملية بناء الدولة الوطنية على أساس القوانين ومواثيق حقوق الإنسان وأفسدا التداول السلمي على السلطة، فالأغلبية الحاصلة في الانتخابات هي نتيجة للولاءات الدينية والسياسية الضيّقة ولا تُعبر عن الإرادة الشعبية وإنمّا تُعبر عن عصبية (عند ابن خلدون) وغلبة سياسية تجعلان الشرعية لفائدة الطرف الأقوى بغض النظر عن برنامجه والمبادئ التي ينطلق منها، وتضمن بذلك سيطرة العصبية الحاكمة على الدولة التي هي في حقيقتها طائفية تمنح الامتيازات لأنصارها مقابل التضييق على معارضيها، وتمارس كافة أنواع التطييف على شعبها حيث تمنع حرية الانفتاح على خيارات أخرى مخالفة للنظام السياسي القائم، وكلّ محاولة للخروج عنه تؤدي إلى القتل والتعذيب.
لن يتحقق التحرّر السياسي ولن تُبنى الدولة الوطنية دون مشروع ديمقراطي ذاتي خاص بمشاكل الشعب وهُمومه وقضاياه التي تؤرقه (فقر، جهل، مرض، تنمية) لأن الوحدة الداخلية أساس الوحدة الخارجية وأساس التحرّر من الهيمنة الأجنبية، أيضا لا يمكن تأسيس أو إنشاء نظام ديمقراطي من دون ديمقراطيين يؤمنون بهذا المشروع ويستميتون من أجل الدفاع عنه، كما إن ثقافة التسامح لا تكف المطلوب هو المساواة الكاملة وبناء دولة المواطنة، يجب أن تكون مساواة تامة بين المواطن المُسلم والمسيحي، الشيعي والسُنّي، العلماني والمُتديّن، فلا يُعقل مثلا اضطهاد ما يسمّى “الأقليات” المسيحية (ليسوا مجرد أقلية بل هم جزء لا يتجزأ من النسيج الوطني وهم السُكّان الأصليين)، كما لا يُعقل التحريض على الشيعة ونشر الكراهية ضدّهم ولا التحريض على العلمانيين واتهامهم بالعمالة للغرب ولا التحريض على الإسلامييّن واتهامهم بالتطرّف والإرهاب، فالمُساواة بين الجميع أمام القانون في دولة الإنسان أي الدولة المُتعدّدة هي غاية ما ينشد المواطن اللبناني اليوم .
هذه التجربة الفريدة نشأت بإرادة اللبنانيين واندلعت على نحو عفوي وغير مُنظّم وخارج عن نطاق الأحزاب، وإن لم يُكتب لها النجاح فسيكون مُستقبل لبنان مخيفا وسيدخل في طريق مجهول يُهدّد استقراره واستقرار الشرق الأوسط ككُلّ ويُعيد من جديد تجربة الحرب الأهلية الدمويّة.
ويبقى السؤال مطروحا هل سينجح اللبنانيون في فصل الطائفة عن الدولة وتحييدها كما فصلوا الدّين عن الدولة؟