انتصار الخوف: المسلسلات وجيوبوليتيكا العالم الجديد

www.elsiyasa-online.com
انتصار الخوف: المسلسلات وجيوبوليتيكا العالم الجديد
جلال خشيب

في شهر أبريل الماضي عرضت قناة (HBO) الموسم الأخير من المسلسل الأضخم في التاريخ إلى اليوم “لعبة العروش” (Game of Thrones)، مسلسلٌ أسطوريٌ مستوحى من رواية “أغنية الجليد والنار” للروائي الأمريكي جورج آر مارتن، تتصارع فيه عائلاتٌ حاكمة وممالكٌ سبع على العرش الحديدي مستخدمةً في ذلك القوة والشرعية والسلالة والتاريخ. المَشاهد الأخيرة التّي تتمّكن فيها الملكة دنيريس تارغيريان من غزو عاصمة الممالك السبع على ظهر تنينٍ وإحراق المدينة بأكملها تُعبّر حرفياً عن العنوان الذّي اختاره الجيوبوليتيكي الفرنسي دومينيك موَاسِيه لكتابه التجديدي في علم الجيوبوليتيك “انتصار الخوف”، فالملكة المحبوبة، محرّرةُ العبيد وناصرةُ المظلومين التّي تُناضل لتسترجع العرش الحديدي المسلوب من عائلتها ظُلماً لأجل أن يعمّ السلام الممالك السبع، تنتهي ملكةً ناقمةً تُحرق مدينةً بأكملها دون أدنى رحمةٍ لآلاف الأبرياء جاءت أصلا لتحرّرهم من الطغيان، فقط لأنّ بحوزتها تنيناً ضخماً لا يُردع أكسبها شعور القوة فاحتكرت لنفسها معنى الحق وشكلّت لذاتها سُلّماً خاصّاً للقيم تُعرّف به معنى العدالة وفعل الصواب (كما فعلت دولٌ عظمى في التاريخ وتفعلُ اليوم). في نهاية السلسلة انتصرت الملكة دنيريس وهزمت الأعداء وبلغت مرادها ببلوغ العرش الحديدي إلاّ أنّها تركت خلفها عالماً مليئاً بالخراب، والأهّم عالماً مشحوناً بالخوف والرهبة.
لقد عبّر البروفيسور دومينيك مواسيه قبل سنواتٍ عن هذه المعاني التّي تعيشها البشرية أو تُقبل عليها في كتابيْن إثنيْن اعتبرا من أهّم الكتب التجديدية في علم الجيوبوليتيك وهما كتاب: “جيوبوليتيك العاطفة: كيف تُعيد ثقافات الخوف، الإذلال والأمل تشكيل العالم؟” نُشر عام 2009، وكتاب: “إنتصار الخوف: جيوبولتيكا المسلسلات” المنشور سنة 2016 والذّي سوف تدور حوله الورقة التّي بين أيدينا، وكان مسلسل “لعبة العروش” أحد أبرز نماذجه المدروسة.


السنيما باعتبارها مجالاً جديداً للجيوبولتيك:
لقد ظلّ علم الجيوبولتيك لعقودٍ طويلةٍ باعتباره “علم الدولة” الصارم، يهتّم فيه الباحثون وصنّاع القرار بالطريقة التّي تتمكّن بها دولتهم من السيطرة على العالم ومدّ نفوذها عبر أرجاءه، كما ارتبط بشكلٍ خاصٍّ بالقوى الكبرى ذات الطموحات العالمية. من جهة أخرى، استمر الباحثون في هذا المجال بتفسير الطريقة التّي يتحرّك بها التاريخ ويسير بها العالم جاعلين من الجغرافيا كمعطى مادي باعتباره عاملاً محورياً في تفسيراتهم المختلفة.
مع نهاية القرن العشرين وتأثّراً بالتحولات العميقة التّي شهدها النظام الدولي من جهة (على غرار العولمة) والنقاشات الفلسفية والإبيستيمولويجية الجديدة من جهةٍ أخرى (على غرار ثورة المنظورات)، عرف علم الجيوبولتيك تطوّراً في مجالات اهتمامه، بل وحتّى تحوّلاً في مدلول بعض العوامل المفتاحية التّي يرتكز عليها على غرار عامل الأرض/الجغرافيا أو المجال/الفضاء، كما لم يصر هذا العلم مرتكِزاً على المستوى العالمي للتفكير والتحليل، ولكن على المستويين الإقليمي والمحلّي أيضاً، آخذاً بعين الاعتبار مختلف اللاعبين في العلاقات الدولية، وليس فقط  القوى الكبرى، على غرار الأعراق، المنظمات غير الحكومية، الإرهابيين، الأقليّات الإثنية والدينية، ولم تبق الجيوبولتيك منحصرةً في الاهتمام بالدولة وحسب. باختصار، فقد عرف هذا العلم بدوره ثورةً منهجيةً بظهور ما اصطلح على تسميته بالجيوبوليتيك النقدية.
أمّا إذا أردنا أن نختصر جوهر هذا التحوّل، فإنّ الجيوبوليتيك النقدية ترى بأنّ جغرافية العالم لا تُعدُّ نتاجاً للطبيعة (الجغرافيا كمعطى كما في الجيوبولتيك الكلاسيكية) وإنّما نتاجاً لتاريخٍ من الصراع بين سلطاتٍ متنافسةٍ حول القوة/السلطة لتنظيم العالم، احتلاله وإدارته”، وفقا لذلك، فإنّ الجغرافيا النقدية متغيّرةٌ بسبب القرارات السياسية والشخصية، ذلك لأنّها تُحكم وتُقاد من طرف الإنسان. 1
تحدّث الأستاذ مارجين فلوريان غاوريكي (Marcin Florian Gawrycki) عن ثلاثة مناهج أساسية للبحث في الجيوبوليتيك النقدية وهي: الجيوبولتيك التطبيقية (Practical Geopolitics)، الجيوبولتيك الرسمية (Formal Geopolitics)، والجيوبوليتيك الشعبية (Popular Geopolitics/ Folk)، (النمط الذّي يهمّنا في هذه الورقة). تُعنى الجيوبوليتك الشعبية بالطرق التّي يُمكن من خلالها وضع فهمٍ –سائدٍ- للقضايا الجيوبوليتيكية المُنتجة والتّي يُعاد إنتاجها عبر الثقافة الشعبية، فهي تتشكّل أساساً تحت تأثير وسائل التواصل، المسرح والروايات، الجرائد (الثقافة الشعبية)، فتُنشأ، بالتالي، وعياً واسعاً منتشراً للتصوّر الجيوبوليتيكي للمواطنين على حدّ تعبير الأستاذ غاوريكي، لذلك، فإنّ الدراسات المهمّة للصحف، الأفلام، الرسوم الكرتونية والمجلاّت، تُنشر كلّها بعد مراجعات دقيقة. بعبارةٍ أخرى، فإنّ الجيوبوليتيك الشعبية تجعل الأفراد وجماعات الناس ترسم في أذهانها بشكلٍ مستمرٍ خرائط للعالم والإقليم الذّي يتواجدون فيه أو حتّى خرائط لمدنهم أيضاً،2 لذلك صارت الأعمال السنيمائية من أفلامٍ ومسلسلاتٍ أحد أهمّ الأدوات والمجالات المتعلّقة بهذا النمط الجديد من الجيوبولتيك.

المسلسلات باعتبارها أداةً لفهم العالم وإعادة تشكيله:



في كتابه “انتصار الخوف: جيوبولتيكا المسلسلات”، ينطلق البروفيسور دومينيك مواسيه من سؤالٍ مركزي: لماذا تحظى مسلسلاتٌ على غرار “لعبة العروش” بشعبيةٍ عالميةٍ ضخمةٍ إلى هذا الحدّ؟ مجيباً، أنّ الأمر راجعٌ إلى أنّ هذه المسلسلات تعكسُ العواطف المهيمنة في الجيوبوليتيك العالمي اليوم، إذ يُحاجج مواسيه أنّه إذا أردنا أن نفهم العالم، مساراته ومستقبله أيضاً، فبإمكان المسلسلات أن تكون أفضل خيارٍ يجعلنا نفهم ما الذّي يدور حولنا وأيّ العواطف تحكم الأحداث السياسية الراهنة أو المستقبلية على حدٍّ سواء.
يعتمد كتابه هذا على النتائج التّي وصل إليها في كتابه سابق الذكر “جيوبولتيك العاطفة: كيف تُعيد ثقافات الخوف، الإذلال والأمل تشكيل العالم؟”، وفيه يُقسّم مواسيه العالم إلى ثلاثة أقاليمٍ أساسية (الغرب –أوروبا وأمريكا الشمالية-، العالم الإسلامي، وآسيا الصاعدة) بناءً على عواملٍ غير ماديةٍ وهي العواطف، إذ تبرز عاطفةٌ بعينها مهيمنةً على شعوب كلّ إقليم من هذه الأقاليم الثلاث، فالغرب تُهيمن عليه عاطفة الخوف أكثر، بالرغم من اختلاف مصادر الخوف بالنسبة لكلّ من أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية إلاّ أنّ كلاهما تحكمه ثقافة الخوف من الإرهاب، الإسلاموفوبيا، الهجرة غير الشرعية، التغيّر الديمغرافي، التراجع الاقتصادي وقلّة مناصب الشغل، هاجس الخوف من الخضوع لحكم قوةٍ خارجية، الخوف من فقدان السيطرة على الإقليم والأمن وتفكّك الهوية.
أمّا ثقافة الإذلال، فهي الثقافة المهيمنة على رقعة جغرافية كبيرة تضمّ شعوب العالميْن العربي والإسلامي، فالعرب والمسلمين كانوا حضارةً تشّع بالأنوار في الوقت الذّي كانت فيه أوروبا تغرق في ظلمات القرون الوسطى، لكن فجأة ولعوامل كثيرةٍ انقلبت الأوضاع وصارت دولة المسلمين دويلاتٍ متفرقةٍ محكومة بنظمٍ سياسيةٍ مختلفةٍ بعد سنة 1923. إلى جانب هذا الوضع السيء الجديد، حسب مواسيه، فقد نظر المسلمون إلى عملية زرع “دولة إسرائيل” بينهم علامةً على انحدارهم وشعورهم بالمذلّة، كما أدّى عدم تسوية مشكلة الصراع بين المسلمين و”دولة إسرائيل” إلى تحوّل ثقافة الإذلال إلى ثقافة كراهية بين الإثنين، ثمّ تحوّل الصراع مع الزمن من طبيعته الدينية بين المسلمين واليهود إلى صراعٍ أوسعُ نطاقاً بين الإسلام والغرب، كما ساهم الغزو الأمريكي للعراق سنة 2003 وما تبعه من أزمات في الشرق الأوسط في تنامي الشعور بالإذلال لدى شعوب دول هذه المنطقة، بل وأمدت هذه العاطفة لتشمل أيضاً المسلمين المقيمين في الغرب وفقاً لمواسيه، الذّين عبرّوا عنها في شكل احتجاجات مطالبة بحقوقهم الاجتماعية في دولٍ كثيرةٍ كفرنسا مثلاً أو حتّى في شكل تطرّفٍ عنيف وعملياتٍ إرهابيةٍ في عواصم الغرب.
بينما تسود عواطف الخوف والإذلال والكراهية النصف الغربي من العالم، يشهد نصفه الشرقي تتزايداً لعواطف الثقة والأمل، خاصّةً لدى قوى آسيا الصاعدة بقوة، فبعد قرنين من الانحدار النسبي، يرى مواسيه تعافياً صينياً سريعاً وعودة الصين إلى وضعها الدولي الرائد كما كانت في الماضي، كما تفرض الهند نفسها على المسرح الدولي لأول مرّة في تاريخها الحديث باعتبارها قوةً مستقلةً ومهمّةً أيضا، بل إنّ النخب الهندية الصاعدة تُبدي في نظره فخراً وتفاؤلاً أكثر من نظيرتها الصينية. في الأخير يُحاجج مواسيه بأنّ عالمنا لا يواجه حالياً صراع حضاراتٍ فقط وإنّما صراع عواطفٍ أيضاً (The Clash of Emotions).3
إلاّ أنّ عنوان كتابه اللاحق يُوحي بأنّ أستاذ الجيوبوليتيك صار يُرجّح بين كلّ هذه العواطف عاطفةً مهيمنةً بعينها بل قد تظلّ مهيمنةً على العالم مدّةً أطول، ألا وهي عاطفة الخوف، مُعتمداً في ذلك على ما تبرزه جملةٌ من الأعمال السنيمائية التّي صارت تحظى بشعبيةٍ عالميةٍ ضخمة لا نظير لها في تاريخ البشرية. يرتكز كتاب “انتصار الخوف: جيوبوليتيكا المسلسلات” في تحليله هذا على خمسة نماذجٍ من المسلسلات العالمية المؤثّرة، والأمر متعلّقٌ هنا بكلٍّ من: (Game of Thrones, House of Cards, Occupied, Homeland, and Dounton Abbey)، فكلٍّ منها يعكس في نظره عاطفةً مُهيمنة في إقليم معيّنٍ من هذا العالم المضطرب، بينما تتشارك عاطفة الخوف جميعاً.
ففي مسلسل “لعبة العروش”، التمس مواسيه عاطفة الخوف من الفوضى العالمية، والتخوّف من أن يؤول النظام العالمي في المستقبل المنظور إلى حالة اللا نظام المطلق والكلّي. يقول مواسيه أنّه التقى في “لعبة العروش” بكلٍّ من توماس هوبز ونيكولا ميكيافلي، بكلّ ما بشّر به الإثنين من سماتٍ شريرةٍ في الطبيعة البشرية ووضعٍ متشائمٍ يحترس فيه الكلّ من الكلّ في غابةٍ من الفوضى مجهولة الآفاق. لقد سمّى مواسيه السلسلة “بهوبز في زمن أرض التنانين”، يقول: “حينما شاهدتُ لعبة العروش، لم أستحضر أوروبا زمن القرون الوسطى وحسب، ولكنّي استحضرتُ الشرق الأوسط في هذه الحقبة، ففي مشهد الزفاف الدامي بالموسم الأول من السلسلة استحضرت داعش وما تُقدم عليه من إعداماتٍ عشوائية”.[9] إنّها مشاعر الخوف التّي تسود منطقةً مضطربةً من العالم كالشرق الأوسط، فضلاً عن الخوف العالمي ممّا سيؤول إليه النظام الدولي في المستقبل القريب. لقد لاحظ مواسيه في الموسم الأخير من السلسلة ذلك الاختفاء التدريجي لأغلب السمات التّي ميّزت نفسيات شخصيات السلسلة في السابق، حتّى تلك الحوارات العميقة التّي كانت تدور في أروقة القصر الملكي والحضور الطاغي للملذّات الحيوانية البشرية في المواسم السابقة أخذ يتلاشى مُفسحاً الطريق أمام الأفعال البسيطة والحاسمة المشحونة بالعنف والخوف وفقط.5
بالإضافة إلى ملاحظة مواسيه هذه عن السلسلة، فإنّ أيّ قارئٍ لمضمون الجيوبولتيك الكلاسيكية سوف يُلاحظ حضوراً قويّاً لمصطلحاتها وعواملها المركزية، فتنانين عائلة تارغيريان تعكس في صراع الممالك ما يُسمّى في الحقل “بقوى الجو”، أمّا الأسطول الحديدي الذّي يمتلكه آل جريجويز، العائلة الحاكمة لجزر الحديد، فهو يُعبّر عمّا يُسمّى “بقوى البحر”، في حين يُعبّر قوم الدوثراكي المتوحشّين القادمين من الشرق عن قوى البرّ، وهم قومٌ سلاحهم الخيل والمناجل، كما يُعبّر جيش “Insullied” أيضاً عن أهميّة المشاة وقوى البرّ في الحروب، من دون أن ننسى امتلاك عائلة لانستير المتربّعة على العرش الحديدي بعاصمة الممالك السبع لسلاحٍ فتّاكٍ اسمه “النار الخضراء” أي ما يُرادف في هذا العصر قوّة السلاح النووي. تحمل خارطة الممالك السبع المتخيّلة في هذه السلسلة في نظرنا أيضاً دلالاتٍ كثيرة، إنّها تُحدّثنا عن صراع الشرق والغرب في التاريخ والحاضر، قارة ويستروس تُعبّر عن الغرب “واست” أمّا قارة إيسوس فتُعبّر عن الشرق “إيست”، تُشبه قارة ويستروس المتخيَّلة جزيرة بريطانيا (مقلوبةً) في العالم الحقيقي، أي رمز العالم الغربي، في حين تبدو لنا قارة إيسوس شبيهةً بدولة تركيا في عالمنا الحقيقي، أي رمز العالم الشرقي في لحظات قوتّه (الدولة العثمانية ثمّ تركيا)، في السلسلة تشتهر إحدى أقوام الشرق بالقوة والهمجية وركوب الخيل “قوم الدوثراكي”، كما يوجد في الشرق أيضاً قومٌ خضعوا لعبوديةِ طاغيةٍ حولّهم إلى مجرّد جيش يخوض به الحروب أي “قوم الإينسوليت”، وكلا القوميْن تستعين بهم الملكة دنيريس صاحبة التنانين “القوة الجوية” لتزحف بهم إلى قارة ويستروس وتسترجع العرش الحديدي، لاشّك بأنّ أيّ متابعٍ جيّد للسياسة العالمية سوف يستخلص دلالاتٍ سياسيةٍ تاريخيةٍ ومعاصرة لهذه الرمزيات. بالموسم الأخير من السلسلة، تضع العائلات الحاكمة بالممالك السبع خلافاتها جانباً لتقاتل معاً ضدّ تهديدٍ مميت تحمله مخلوقاتٌ غريبةٌ قادمةٌ من منطقة الشمال المتجمّد، لاشّك بأنّها تنبيه من كاتب السلسلة بالتهديدات والمخاطر الجديدة القادمة التّي تُهدّد البشرية جمعاء وتتطلّب حشد كلّ قواها لمواجهتها على غرار مشكلة المناخ والاحتباس الحراري وسوء التغذية وما شابه، وهي المواضيع التّي صار علم العلاقات الدولية عموماً وعلم الجيوبولتيك أيضاً يولي لها مساحةً من اهتماماته المعاصرة.6 

الخريطة المُتخيّلة لقارات وممالك مسلسل لعبة العروش

لاحظ البروفيسور مواسيه تفصيلاتٍ أخرى خاصةً فيما له علاقة بالموسم الأخير من السلسلة، إذ يرى بأنّ ممالك قارة ويستروس في السلسلة قد سلكت طريقاً مشابهاً لحرب البوليبوناز التاريخية، ففي تنافسهما الانتحاري وضعت كلٌّ من أثنيا وإسبرطة اليونان بأكملها أمام الغزو الخارجي، فكانت بسببهما عُرضةً لغزو الفرس ثمّ الرومان. هناك مثال آخر أكثر وضوحاً في نظره، ومتعلّق بالمدن الإيطالية في العصور الوسطى ومطلع عصر الأنوار، إذ مهّد التنافس بينها الطريق للأطماع الخارجية لعائلة الهابسبورغ الجرمانية-النمساوية من جهة وسلالة الفالوا الفرنسية من جهةٍ أخرى. لكن، من سيلعب دور أثنيا وإسبرطة، فلورانسا، ميلان أو جنوا في مقابل نسخة سلسلة لعبة العروش حينما تُدمّر ويستروس نفسها بالحروب؟ يجيب مواسيه: لا يوجد مُرشّحين خارجيين لذلك، مُضيفاً أنّنا نقترب اليوم في عصرنا هذا من مثال ويستروس حينما نُفكّر في مآلات التنافس القائم بين الولايات المتحدة والصين (أي التدمير الذاتي للجميع).7
في نهاية السلسلة تعود السلطة العليا في الممالك السبع إلى الشخص الأضعف بين الجميع، فبعد موت دنيريس أم التنانين يقع الاختيار على الشاب الصغير بران المشلول ليتبوأ العرش الحديدي. شابٌ هادئ الطباع يتميّز بمظهره الضعيف العاجز فيزيولوجيا لكنّه أكثر الشخصيات قدرةً على استشراف المستقبل، فضلاً أنّ له ذاكرةً قويّةً تحتفظ بكلّ تفاصيل قصّة الممالك السبع، إنّ في ذلك رمزيةً واضحة تُشير إلى أنّ امتلاك القوة المادية الضخمة والمحضة فقط لن يكون عاملاً قادراً لوحده على قيادة هذا العالم المضطرب إلى برّ الأمان، فلقدرات العقل البشري كالذاكرة الحافظة للماضي والذكاء القادر على الاستفادة من قصص التاريخ واستشراف المستقبل أهمّ الأدوار في ذلك، لقد عزّز كاتب السلسلة هذه الرمزية حينما اختار الملك المشلول مساعده الأيمن على تسيير عبئ الممالك السبع8، أي القزم تيريون لانستير، الضعيف جسدياً لكنّه أحد أكثر شخصيات السلسلة دهاءً وحكمة.
أمّا بخصوص المسلسلات الأربع الأخرى فقد هيمنت عليها عاطفة الخوف أيضاً كما يرى مواسيه، فضلاً عن مشاعر أخرى ذات دلالاتٍ سياسيةٍ وجيوبولتيكيةٍ عديدة. ففي مسلسل “هاوس أوف كاردز”، لامس مواسييه قضيةً حسّاسة أخرى يُعاني منها العالم الغربي في عقر داره، ألا وهي أزمة الديمقراطية، فمسلسل كهذا من شأنه أن يشرح لنا كلّ الأسباب التّي جلبت شخصاً مثل دونالد ترامب إلى هرم السلطة في الولايات المتحدة، كما من شأنه أن يُعطينا فكرةً صريحةً عن مسائل عديدة على غرار أزمة الاستقطاب المجتمعي في الغرب وأمريكا خصوصا، الطريقة التّي يحدث بها التوزان بين القوى ومؤسّسات صنع القرار داخل الولايات المتحدة، أزمة الإعلام، عزلة السياسيين وفقدان الثقة في النخب.
أمّا مسلسل “أوكيبايد”، فقد لامس -في نظره- مسألة الخوف من روسيا، خاصّةً في مناطق نفوذها القديم في شرق ووسط أوروبا واسكندينافيا. كما يُضيف مواسيه لقرّاءه قائلاً: “لو أردتم تحصيل المبادئ الأوليّة للجيوبوليتيك، شاهدو مسلسل أوكيبايد، فهو مسلسلٌ يجمع في طيّاته كلّ المتغيّرات الجوهرية التّي تُمكنّنا من فهم مسار تطوّر أوروبا من الماضي إلى الآن”.
أمّا مسلسل “هاوم لاند”، فهو يعكس في نظره مشاعر الخوف الغربي والعالمي من الإرهاب، يُجلّي أسبابه، مصادره ويُظهر مدى مساهمة السياسة الأمريكية الخاطئة في الشرق الأوسط في نشوئه وانتشاره.
أخيرا، فإنّ مسلسل “داوتون آبي” يعكس في نظره الخوف الغربي (أوروبا الغربية خصوصاً) من أثر التحوّلات التّي حملتها “العولمة الأمريكية” وما شابه على نمط الحياة الغربية، إذ يلتمس فيه مواسيه نوستالجيا الرجل الأوروبي للنظام الاجتماعي الكلاسيكي القديم الذّي اختفى تدريجيا مع الزمن، فهذا المسلسل يُعبّر في نظره عن “الفلسفة القديمة”، يضعه المسلسل كما يقول أمام عصر أليكسيس دي توكفيل، المفكر الأمريكي الذّي تحدّث عن موت النظام الاجتماعي الكلاسيكي واستبداله بنظامٍ جديد، يقول مواسيه: “فقط فلنقرأ كتاب دي توكفيل ‘الديمقراطية في أمريكا’ الذّي يصف فيه شكل الوضع الذّي ستكون عليه أوروبا، حيث يزحف النموذج الأمريكي إلى هناك ببطء، ليكتسح غرب أوروبا”، إنّه مسلسلٌ يعكس بالفعل قلقاً وجودياً متزايداً في الغرب بخصوص فقدان الهويّة وتفكّك العائلة والأخلاق في عالمٍ يزداد تعقدّاً.
لهذه المسلسلات، كما يُحاجج مواسيه، خاصيّةً قويّةً تكمن في قدرتها على استجلاب ردود فعلٍ عالمية. على سبيل المثال، كانت الشعوب الآسيوية التّي تُشاهد مسلسل “داوتون آبي” مُعجبةً بنمط حياة الرجل الإنجليزي المحترم في قلعته، كما كانت مُعجبةً أيضاً بمُشاهدة نمط حياةٍ يندثر، مُستمتعةً بمشاهدة أسباب اندثار التفوّق الغربي، “إنّهم كانوا يُشاهدون ماضي أوروبا وأسباب انهيار أوروبا في نفس الوقت”، على حدّ تعبيره. إنّ الخلاصة التّي يصل إليها مواسيه هنا أنّ هذه المسلسلات في مجملها تُؤكّد “انتصار عاطفة الخوف على الأمل في عالم اليوم”، فلا شيء في هذه المسلسلات يُرجعنا -كما يقول- إلى تيّار الجناح الغربي التفاؤلي القديم. يُضيف مواسيه أيضاً أنّه لو كتب نُسخةً منقّحةً لكتابه القديم “جيوبولتيكا العاطفة” لأضاف إلى جانب عواطف الخوف (أوروبا)، الأمل (آسيا الصاعدة) والإذلال (العرب والعالم الإسلامي) عاطفةً جديدةً صارت مُهيمنةً أيضاً على أصقاعٍ عديدةٍ من هذا العالم، ألا وهي عاطفة الغضب.9
وبالرغم ممّا قد يُؤخذ على مؤلّفيْ البروفيسور مواسيه هذيْن، إلاّ أنّهما يُعدّان بحقّ محاولةً جديّةً لأجل تحديث حقل الجيوبوليتيك الذّي صار مضمونه كلاسيكياً مُمّلاً جدّاً لعامة الجماهير، الطلبة والباحثين خصوصاً في هذا العصر، لأنّه يحكي عالماً قديماً مختلفاً عن عالمهم الحالي المعاصر. إنّها محاولةٌ منه ليقول لقراءة والجماهير أنّكم إذا لم تهتموا بالجيوبوليتيك، فإنّ الجيوبولتيك سوف تهتم بكم لا محالة [10

تعليقات