توفيق بوستي
نتيجة للقصور الذي طبع إاتجاهات المنظور التفسيري / الوضعي في الإلمام بإتجاه نظري متكامل لظواهر العلاقات الدولية وعلى رأسها مفهوم الأمن، ظهرت إاتجاهات ومقاربات حديثة تولي اهتماما بالغا لفكرة البناء الاجتماعي الذي شكل تحديا لكل من المدرستين الواقعية والليبيرالية، وهو مدخل يركز على دور الثقافة والقيم والأفكار في العلاقات الدولية[1].
أولا-المقاربة البنائية لمفهوم الأمن:
ينظر للبنائية كاتجاه نظري جديد، ولكنها في الواقع اتجاه نظري قديم، ترجع أصوله التاريخية إلى القرن الثامن عشر في كتابات الفيلسوف الإيطالي جيامباتيستا فيكو Giambattista vico، غير أن البنائية كنظرية قائمة بذاتها في العلاقات الدولية برزت مع نهاية الحرب الباردة، وأبرز روادها بيتر كاتزنشتاين Peter katzenstein، فريدريك كراتوشويل Friedrick kartochwil، وألكسندر واندت Alexander wendt
ويعتبر نيكولاس أوناف Nicholas onuf أول من استعمل مصطلح البنائية في كتابه”عالم من صنعنا” Word of our making حيث ركز على انتقاد أعمال الواقعية البنيوية ، التي فشلت بالتنبؤ بنهاية الحرب بطريقة سلمية ، وبالتالي استنادا على مستوى التحليل وفق معطيات من الواقع العملي لتفاعلات الوحدات والفواعل داخل النظام الدولي ، قدمت البنائية تفسيرات وتحاليل مقبولة أثبتت من خلالها دور الأفكار وأهميتها في تحديد طبيعة الواقع ، صياغته ، والتأثير على ممارسات الفاعلين فيه، فالتغيير داخل الاتحاد السوفيتي كان بفعل تغير الأفكار وقيم النخب الحاكمة.
فالتعريف الذي وضعه أدلر وبارنر Adler et Barnett للبنائية يوضح بشكل جلي للاتجاه العام للأغلبية “فهو يدعي بأن الفاعلين الدوليين قد وضعوا في بيئة معيارية ومادية في أن واحد بمعنى أنها تحتوي على قواعد ومصادر وهي تأخذ في الاعتبار احتمال أنه ضمن الظروف الملائمة يستطيع الفاعلون أن يولدوا الهويات والمعايير التي ترتبط بسلام مستقر”[2]
تركز البنائیة على عنصر الهویة Identity الذي أهملته جمیع النظريات التفسيرية إذ تعتبر الهوية مسألة جوهرية في عالم ما بعد الحرب الباردة، وتؤكد على كیفیة تعامل الهویات مع الطريقة التي تستوعبها الوحدات السیاسیة (الدول) وتستجيب لمطالبها ومؤسساتها وعلى هذا الأساس فالهوية تولد وتصقل المصالح، كما تعتبر هذه المقاربة أن العوامل الثقافية تؤثر بشكل مباشر وغیر مباشر على الهوية، وأن المصالح القومية تنبع من بناء خالص لهوية الذات مقابل هوية الآخر، وهو ما یفسر بروز قضايا الأقليات بعدما تحول الصراع من صراع بین الدول أثناء الحرب الباردة إلى صراع داخل الدول بعد نهايتها، وكذا قضايا الإرهاب والتنظيمات الإرهابية بعد تحول الصراع من إيديولوجي إلى حضاري،
فضلا عن تحریك النعرات الطائفية والانتماءات العرقية والثقافية للأفراد وصناع قرار هذه الوحدات السیاسیة وهي كلها مؤثرات تدل على وجود عدة فاعلين ولیس فاعل واحد في النظام الدولي لما بعد الحرب الباردة[3].
كما ترفض البنائية ما يسمى بتصور كرة البلياردو BILLIARD BALL IMAGE للعلاقات الدولية والذي تعتمد عليه الواقعية لأنه فشل في ابراز أفكار ومعتقدات الفاعلين الذين أقحموا أنفسهم في النزاعات والصراعات الدولية، بينما يرغب البنائيون في اختبار ما يوجد بداخل كريات البليار للوصول الى إدراك تصور معمق بشأن تلك الصراعات[4]
كما أنها حسب ألكسندر واندت منهج للعلاقات الدولية، يفترض ما يلي[5]:
1-الدول هي الوحدات الأساسية للتحليل.
2-تذاتانية Inter-Subjectivity البنى الأساسية للنظام القائم على الدول.
3-تتشكل هويات ومصالح الدول في إطار نسق مترابط بفعل البنى الاجتماعية ضمن النظام.
انطلاقا من هذه الافتراضات ومقارنة بالافتراضات التي ترتكز عليها الاتجاهات التقليدية التفسيرية، فإن البنائية تتميز عن الواقعية من حيث عدم تحديدها “للواقع” بناء على توزيع القوى المادية، مرتكزة في ذلك على الأفكار والعلاقات الاجتماعية، وبعكس العقلانيين فإن البنائيين ينظرون للواقع نظرة تذاتانية، فهو موجود نتيجة الاتصال الاجتماعي الذي يسمح بتقاسم بعض القيم والمعتقدات إلا أن البنائية تتقاسم من جهة أخرى بعض الافتراضات مع الواقعية: كالطبيعة الفوضوية للعلاقات الدولية، الاعتراف بالقدرات الاستراتيجية العسكرية للدول، انعدام الثقة في نوايا الآخرين وعقلانية الفاعلين[6].
إن البنائية قد أولت أهمية للبنى المثالية (غير المادية) التي تحكم العلاقات بين مختلف الفواعل في دراسة السياسة الدولية، إذ ركزت على تحليل دور الثقافة والقيم والأفكار في العلاقات الدولية، وكذلك دور وأثر المتغيرات النفسية والفهم الجماعي المشترك في تشكيل مصالح وأفضليات الدول، جنبا إلى جنب مع المتغيرات المادية التي يعتمدها العقلانيون[7].
كما يقترح البنائيون تصورا يقول بأن العالم مبني اجتماعياً، أي أن الناس هم من يصنعون المجتمع ووجوده مرهون بكينونتهم، وبنى المجموعة الإنسانية تحددها أساسا الأفكار المشتركة والمتقاسمة أكثر مما تحددها القوى المادية، وبالتالي فإن البنية الاجتماعية تتشكل من ثلاثة عناصر أساسية هي: معارف مشتركة، المصادر المادية تتخذ شكلها تبعا لتأويلات الفاعلين التي تنعكس على ممارساتهم، ممارسات هؤلاء الفاعلين[8].
كما تعتمد البنائية على أن بنية المجتمعات الإنسانية التي تتشكل وتتحدد إستنادا إلى الأفكار والرؤى المشتركة أكثر من إستنادها إلى القوة المادية، كما أن الهويات والمصالح الذاتية للفاعلين تتحدد ويجري تعريفها وفقا لهذه الأفكار والرؤى أيضا، ويترتب على هذه المقدمات أن الهويات والمصالح ليست حتمية، كما تركز على أهمية الثقافة والقيم والأفكار وتقرر أن هذه العوامل الأساسية هي التي يمكن الإعتماد عليها في تفسير أنماط القوة ومستوياتها أيضا، كما أن السلوك الدولي وتفاعل الدول لا يمكن حصره فقط بالمصالح القومية[9].
كما أن البنائية تعتمد على تأثير الأفكار مما يعني أن البنائية تولي أهمية كبيرة لمصادر التغيير، فهي تعتمد على الوعي الإنساني في الشؤون العالمية، ولذلك فالبنائيون لا يعتقدون بوجود واقع اجتماعي خارجي موضوعي معطى بعينه لأن الواقع الاجتماعي ليس وحدة مادية أو طبيعية أو شيء مادي خارج الوعي الإنساني، فالنظام الدولي غير موجود بالفطرة ولا يشكل نفسه بنفسه[10]
ولكن على الرغم من ذلك فإن البنائيين يشتركون في أنه لا الفرد ولا الدولة ولا مصالح الجماعة الدولية حتمية لكنها أبنية اجتماعية تتشكل من خلال تفاعل مستمر، فسلوك الدولة تشكله معتقدات النخبة والهويات والمعايير الاجتماعية، والأفراد يصوغون ويشكلون ويغيرون الثقافة من خلال الأفكار والممارسات، كما أن الدولة والمصالح الوطنية هي نتاج الهويات الاجتماعية[11].
1-الفوضى الدولية:
تعد الفوضى Anarchy من الإسهامات الأساسية للبنائية، حيث يرى ألكسندر واندت في مقاله الصادر عام 1992 الموسوم بـ الفوضى هي ما تصنعه الدول: البناء الاجتماعي لسياسة القوة Anarchy is what states make of it: The social construction power politics بأن الفوضى في السياسة الدولية تبقى مجرد فكرة لكنها تكتسي القوة والتأثير عندما تعتقد الدول بوجودها[12]، فلا يوجد منطق للفوضوية متأصل بذاته أو عما ترغبه الدول أو تعتقده، فالفوضى هي ما صنعته الدول، وهي ليست حتما مرادفا لحالة الحرب، فالفوضى ليست جوهرا ثابتا بل تتخذ أشكالا متعددة ومختلفة، ذلك لأن الهويات الأنانية والمصالح المرتبطة أو المعبرة عنها هي في حقيقتها ناجمة عن التفاعل ذاته وليست سابقة له[13]، وعليه فإن واندت يفرق بين ثلاث أنواع من الفوضى الدول إلى بعضها البعض كأعداء فإن البنية الدولية مشكلة لفوضى هوبزية، ولما تنظر إلى بعضها البعض كمتنافسة فان البنية الدولية مشكلة لفوضى لوكية، وعندما تنظر إلى بعضها البعض كأصدقاء فإنها مشكلة لفوضى كانطية، ويرى “واندت”بأن هذه الثقافة الهوبزية المحددة للمصلحة القومية لم تعد موجودة في عالم اليوم باستثناء بعض الحالات الشاذة أو الظرفية[14].
كما ترفض البنائية تصورات ومقاربات الفوضى كما قدمها هوبز ولوك ويميلون الى تقبل المفهوم الذي قدمه كانط حول الفوضى وأهمية السعي بين الجماعات بما يحفز للتقدم نحو التعاون والسلام، ووفقا لهذه القناعة فإن الفوضى والحروب والصراعات ليست معطيات مسبقة بل نتاج البنية، وهي ليست بمعزل عن الممارسات المعززة لنمط أو بنية بذاتها من دون غيرها، فالأمن يصبح وفقا لهذا التحليل بنية إجتماعية تعتمد على التفاهمات بين الأفراد حينما تكون على قدر من عدم الثقة في نيات الغير ، هكذا تبرز أهمية الهوية القومية التي لها تأثير قوي ومتواصل مباشر في تحديد المصالح بما يلعب دورا محددا لسلوك الدولة الخارجي، وهو ما يلغي أية أهمية مبالغ فيها لعناصر الفوضى والقوة والطبيعة مثلما جادلت به المقاربات الأخرى[15].
كما أن الفوضى ناجمة عن الهويات والأنانية والمصالح الذاتية، هذه الأخيرة تكون ثابتة ولا تتغير وهي بذلك لا تتضمن تلقائيا ذلك السلوك المصلحي الأناني للدولة مثلما يقرر الواقعيون، وأولئك الذين يرون هذا السلوك جزءا من النظام الدولي[16]، وهي ليست جوهرا ثابتا بل تتخذ أشكالا متعددة ومختلفة ، ذلك أن الهويات الأنانية والمصالح المرتبطة عنها هي في حقيقتها ناجمة عن التفاعل ذاته وليست سابقة كما يحاجج الواقعيون[17]، كما أن بنية المجتمعات الإنسانية تتشكل وتتحدد استناداً إلى الأفكار والرؤى المشتركة أكثر من استنادها إلى القوة المادية، والهويات والمصالح الذاتية للفاعلين تتحدد ويجري تعريفها وفقا لهذه الأفكار والرؤى ، كما أن هذه الهويات والمصالح ليست حتمية ، فضلا عن التركيز على الأهمية التي تكتسبها الثقافة والقيم والأفكار ، وتعتبر أن هذه العوامل الأساسية هي التي يمكن الاعتماد عليها في تفسير أنماط القوة.
وعلى الرغم من ذلك فإن البنائية لا تعتبر الدول كسجناء ضمن تركيبة فوضوية مؤكدين على أن بإمكان التفاعل الإجتماعي أن يقود الى الفوضى التعاونية Cooperative Anarchy، وعليه فلا وجود لشيء حتمي وثابت في السياسة العالمية، فكل شيء حتمي وثابت في السياسة العالمية، فكل شيء تذاناتي وبالتالي مجهول وغير يقيني[18].
أشكال الفوضى الدولية حسب ألكسندر وندت
الواقعية | الليبيرالية | البنائية | |
الفواعل | زيادة القوة لضمان البقاء | تشجيع التعلم الاجتماعي من خلال المؤسسات (الأمم المتحدة)، الأفكار (الديمقراطية والرأسمالية الليبيرالية) | لا يمكن توقعه قبل عملية التفاعل الاجتماعي |
الأهداف | الاعتماد على الذات لأنه لا توجد حكومة عالمية (الفوضى)، التعاون بين الدول لا يمكن الثقة به أو المراهنة عليه | المجتمع الدولي | الهويات والمصالح مكونة بشكل بينداتاني فاذا كانت هويات ومصالح الدول قد أنتجت على شكل تنافسي فهي تنافسية، وإذا كانت مصالح الدول قد أنتجت على شكل تعاوني فهي تعاونية |
منطق الفوضى | نزاعي | تعاوني | الفوضى هي ما صنعته الدول منها |
المصدر: محمد الطاهر عديلة، مرجع سابق، ص 369
2-الجماعة الأمنية:
ضمن هذا السياق يبقى مفهوم الأمن تقليديا عسكريا يتعلق قبل كل شيء بالدول وفقا لكاتزنشتاين وإدلر، فضلا عن محاولة إحياء مفهوم الجماعة الأمنية Communauté de sécurité الذي طرحه كارل دويتش من خلال إعتقادهما بأن الجماعة الأمنية التعددية communauté de sécurité pluraliste تعني ببساطة جهة عبر وطنية تتكون من عدة دول ذات سيادة
“فالدول يمكن أن تصبح منتظمة ضمن مجموعة من العلاقات الاجتماعية التي يمكن أن تفهم بشكل صحيح على أنها جماعة ففي بعض الأوقات تقيم جماعة الدول هذه علاقات سلمية ما يمكنها من تشكيل جماعة أمنية وأحيانا أخرى لا فالجماعات الأمنية هي تطورات نادرة نسبيا، ومع ذلك فوجودها قد غيب مفاهيميا بسبب هيمنة النظريات الواقعية على الأمن الدولي”[19].
من جهة أخرى فقد أعلن كاتزنشتاين تبنيه موسعا وتقليديا للدراسات الأمنية فالشروط المادية ليست المحدد الوحيد للأمن كالقوة العسكرية والاقتصادية، والقوة العسكرية لا تنفع ولا تكفي في تفسير الواقع الدولي، هناك محددات أخرى كالقيم والمعايير الثقافية والإيديولوجية والهوياتية والتي لها القدرة على صبغ هوية النظام الدولي مستقبلا، فمتغيرات الهوية والخطاب السياسي والقيم الثقافية والحقائق وإدراكات صناع القرار تؤدي حسب البنائيين إلى تغيير الوضع الدولي من وضع نزاعي إلى وضع سلمي.[20]
كما تعطي البنائية أهمية قصوى لـفعل اللغة Speech Act الذي يساعد صانع القرار أو الفاعلين على جعل قضية أو مسألة ما أمنية كون الخطاب السائد في المجتمع يعكس ويشكل المعتقدات والمصالح، ويؤثر في السلوكيات والخيارات، فالتهديد أو العدو لا يعرف بمدى إرتباطه بالقوة العسكرية بقدر ما يرتبط أساسا بالأفكار المسبقة عنه وبالفهم الجماعي لقوته، بمعنى أن الأمن في المحصلة يحمل مدلولا اجتماعيا أكثر منه ماديا، وعنصر الإدراك الجماعي يتحكم دوما في تشكيل التهديدات وتوجيهها.[21]
3-المعضلة الأمنية:
تنجم المعضلة الأمنية حسب البنائيون عن الغموض المفترض في السياسة الدولية بسبب أن الدولة يفترض أنها لا تعرف بدرجة كافية نوايا الدول الأخرى ترى البنائية أن الغموض ينبغي أن يعامل كمتغير وليس ثابت، فالهويات تحدد المعاني وبالتالي تقلل الغموض، فالمعضلة الأمنية اللانهائية النابعة من فوضى النظام الدولي وما يترتب عليها من سعي كل دولة بمفردها وراء مصالحها دون الأخذ في الإعتبار لمصالح الأخرين[22]، وترى بأنه يمكن تخفيضها والحد منها عبر معرفتنا بالهويات، ويفترض التصور العقلاني أن الفواعل تحس بالحاجة المستعجلة لحماية أنفسهم في مواجهة اللايقين الذي هو حسب البنائيين متغيرا وليس ثابتا، فإذا كانت الحقيقة الدولية مبنية إجتماعيا فإن كلا من العدو، التهديد والصراعات مبنية كذلك بكلتا العوامل المادية والمثالية، كما تعتبر البنائية بأن الدول تواجه معضلة ذات طبيعة خاصة تسمى المعضلة المعيارية[23].
ثانيا: الأمن من منظار النقدية – الإجتماعية:
يمكن القول بأن النظرية النقدية ليست في الواقع سوى تطويرا للفكر الماركسي، وهو ما يسوغ تسميتها بالماركسية الجديدة التي برزت على يد مجموعة صغيرة من المفكرين الألمان الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة الأمريكية وعرفوا كجماعة بمدرسة فرانكفورت الوثيقة الصلة بمدرسة الإقتصاد السياسي الدولي وبشكل خاص في أعمال هابرماس[24].
وفي هذا الإطار يعتبر بيل ماك سويني Bill McSweeney أنّ الدراسات النقديّة للأمن تمثّل الدراسات “الأكثر تركيزًا” مقارنةً بالدراسات ما بعد الوضعية الأخرى للأمن، أمّا ستيف سميث Steve Smith فيعتبر أنّ النقد الذي تقدّمه هذه الدراسات للدراسات التقليدية للأمن “الأكثر دعمًا والأكثر تناسقًا”، فالهدف الأساسيّ للنقديين من دراساتهم هو فتح النّقاش حول معنى الأمن واحتمالات التفكير فيه بشكلٍ آخر وليس التأسيس لمدرسةٍ جديدةٍ للتفكير في العلاقات الدّولية.[25]
ومن أبرز رواد النقدية الإجتماعية نجد تيودور أدورنو theodore adorno، ماكس هورخايمر max horkheimer، وهاربرت ماكيز herbert marcus، ومن بريطانيا كل من أندرو لينكلاتير andrew linklater وروبرت كوكسrobert coX إضافة إلى مارك هوفمان mark hoffmann، والكنديين كايث كروز Keith Krause ومكايال ويليامز Michael Williams وريشارد واين جونز Richard Wyn Jones.
یرتكز التصور النقدي للسياسة العالمية على رفض القواعد والأسس التي بنیت عليها النظريات التقليدية (التفسيرية)، حیث یدرك النقدیون بأن المعتقدات التي یحملها بعض المنظرین الواقعیین مثلا أثبتت إدعاءاتهم حول الحقيقة Truth والتي سوف تصبح جزءا من الأنماط، الإیدیولوجیة العالمية لشرعنة بعض الترتيبات العالمية، ودعم بعض الأجندات المزعومة للسيطرة، تكون ملائمة لتقديم الإیدیولوجیة متنكرة في شكل نظريات علمية، وعليه فإن مهمة النظرية النقدية هي إماطة هذا اللثام من خلال بناء مفاهيم ومعان أكثر عمقا وهو ما یبرر سعي النظرية النقدية الإجتماعية إلى تشكيل بناء مفهوماتي نظري صلب یقوم على أسس أنطولوجية وإبستمولوجیة مغايرة لتلك المعتمدة وضعیا[26].
كما يشترك النقديون مع البنائيين في الفكرة البنائية التي عبّر عنها ألكسندر وانت Alexander Wendt حين إعتبر أنّ: “الأفراد يصنعون اﻟﻤﺠتمع واﻟﻤﺠتمع يصنع الأفراد، وأنّ بنى اﻟﻤﺠتمع الإنسانيّ هي محدّدةٌ أساسًا بواسطة الأفكار المشتركة أكثر ممّا هي محدّدة بقوى مادّيةٍ، وإنّ هويات ومصالح الفاعلين تتحدّد بواسطة هذه الأفكار أكثر ممّا هي معطاةٌ من الطبيعة[27]“، لهذا تذهب بعض الطروحات إلى تسمية الدراسات النقديّة بـ “البنائية النقدية”، خاصّة في ظلّ الحضور القويّ لفكرة “البناء الإجتماعي للواقع” في طروحات النقديين.
كما يشاطر مارك هوفمان لينكلاتير في رغبته نحو خلق مجتمع ما بعد السيادة يقوم على أسس معيارية – أخلاقية، معتبرا أن الحركات الإجتماعية النقدية كفواعل أساسية في تغيير الحدود السياسية القائمة، تتحدى المسارات الإقصائية، وفي هذا السياق يقول مارك هوفمان:
“إن الأساس المعياري للنظرية النقدية موجود ضمنيا في بنية الفعل الاجتماعي وفي الخطاب الذي تسعى لتحليله”[28].
لقد أكدت النظرية النقدية على أن التهديدات ليست على الإطلاق بموضوعية، أي أنها تتضمن معان ودلالات مختلفة عبر الزمان والمجتمعات عاكسة لهوية معينة بالإضافة إلى إبراز حدود الدولة والنظام الدولي الوستفالي في ضمان أمن الأفراد، وعليه فقد إهتم أصحاب هذه النظرية بكون الأمن إشتقاقيا فكما يرى كين بوث ken booth فإن: فكرة أن الأمن مصطلح إشتقاقي أساسية بالنسبة لنظرية نقدية للأمن … ومن الكافي القول أن التعميق (حركة التعميق في التنظير النقدي للأمن) يتضمن الكشف عن فكرة أن نتائج الأمن (سياسات، وضعيات…) تشتق من وقع الفهوم المختلفة لميزة وهدف السياسة[29].
كما ترفض النقدية الإجتماعية مفاهيم الواقعية الجديدة كمفهوم الفوضى الأبدية للنظام الدولي، مفهوم التوازن في نظام الثنائية القطبية، مفهوم المصلحة الوطنية ومفهوم المأزق الأمني، معتبرة إياها مجرد مجموعة من المفاهيم الإفتراضية والأطروحات الفكرية بشأن الطبيعة السياسية للفاعلين وعلاقتهم بالسيادة فقط[30]،وخلافا للنظرة الواقعية، يعتقد منظروا المدرسة النقدية أن فوضوية النظام الدولي، الدولة الوحدوية والعقلانية، العقد الإجتماعي، معضلة الأمن وكذا الحروب الدولية هي بناءات تاريخية وإجتماعية، وعليه فعالم التهديدات يجب دراسته كبناء إجتماعي مستخدمين التاريخ، الثقافة، الإتصالات، الإيديولوجيات، والعلاقات التي تنشأ بين هذه الأبعاد في تحليله[31].
إن نقطة الإنطلاق إذًا بالنسبة للدّارسين النقديين للأمن هي البحث عن كيف يبنى التهديد ويعرّف؟ فعلى غرار الأمنيين الموسّعين، يرى هؤلاء أنّ الأمن ليس واقعًا موضوعي كما في الطرح الواقعي بل هو بناءٌ إجتماعيّ يصنع عبر عمليّةٍ خطابيّةٍ لغوية Speech Act وعليه، إذا كانت السياسات الأمنيّة نتيجةً لخيارات سياسيّةٍ وتدابير إجتماعيةٍ من طبيعةٍ عارضةٍ وغير ثابتةٍ، فهذا معناه أننّا يمكن أن نغيّرها، فالأمن كما يقول كان بوث Ken Booth ليس ذاتيا ولا موضوعيا “الأمن هو ما نفعله… إنهّ ظاهرةٌ تنشأ تذاتانيًا تقدّم مختلف […] الخطابات حول السياسات آراءً وخطاباتٍ مختلفةً حول الأمن” ، معنى هذا أنّ التغيّر في هوية الفاعلين يؤثرّ على المصالح، وهو ما يؤثر على سياسات الأمن القومي/الوطني[32]
غير أن معرفة كيفية بناء موضوع الأمن في حد ذاته هي مسألة ملازمة للخطاب حول التهديدات يعكس بناء سياسيا، بمعنى استجابته للمصالح والقيم والمعايير المكونة لهوية النخبة التي لها السلطة في تأمين مجال أو مسألة معينة وكذا تحديد العدو، من هذا المنطلق يقوم الخطاب بشرعنة والدفاع عن هوية الدولة بخلق ثنائية نحن والأخر وبهذا يكون الخطاب هو الموضوع الذي يجب تأمينه[33].
وهي بذلك تكون قد رسمت لنفسها إطارا نظريا للعلاقات الدولية، تسعى من خلاله النظرية النقدية إلى إقامة نظام دولي على أنقاض النظام الدولي القائم على مركزية الدولة كوحدة تحليل أساسية، حيث أنه على عكس الواقعيين الذين ركزوا إهتمامهم على الدولة كموضوع مرجعي للأمن فإن النظرية النقدية تعتبر الفرد كموضوع مرجعي أساسي له، حيث أن العمل على حماية الإنسان أو الجماعة البشرية بصورة أشمل تجعل الهدف الأساسي هو البحث عن وسائل وإستراتيجيات لضمان الأمن العالمي الشامل Security Global World والأمن الإنساني Human Security وهما المفهومان الأساسيان اللذان تقترحهما النظرية النقدية الإجتماعية في إطار الدراسات الأمنية، وعلى حد تعبير باري بوزان، فإن الأمن العالمي وأمن الأفراد وجهان لعملة واحدة[34].
وفي هذا الإطار يعتقد كل من كيث كروز keithe krause وميكائيل وليامز Michael C .Williams أن أمن الأفراد يمكن دراسته على ثلاث مستويات مختلفة: كأشخاص ، كمواطنين وكأعضاء في المجتمع والإنسانية ، ففيما يتعلق بالأشخاص ، فالدولة تتبدى على أنها لا تستطيع إحترام الحقوق الأساسية للأشخاص ، الحريات الشخصية ولا حتى ضمان المصادر الغذائية الضرورية ، أما فيما يخص أمن المواطنين فإن الدولة ومؤسساتها يمكن أن تشكل التهديد الأساسي لأمن الأفراد ، وأخيرا كون الأفراد أعضاء في الجماعة الإنسانية ، فإن الدولة غير قادرة على حمايتهم في مواجهة القوى الشاملة كالتدهور البيئي والاقتصادي إذا لم تشكل هي ذاتها تهديدا شاملا للبيئة بواسطة أسلحتها النووية والكيميائية[35].
من أجل هذا، إنشغل النقديّون بتغيير السياسات الواقعيّة الموجودة القائمة على المرجعيّة الدولتيّة، وأوّل ما يثبت إنشغالهم هذا هو إقتراحهم رؤيةً جديدةً للأمن مرجعيّتها الأساسيّة هي الأفراد والشعوب، فهم لم يرضوا بتوسيع بسيطٍ لهذا المفهوم، فحسب رأيهم “التفكير الجديد في الأمن ليس توسيعًا للموضوع فحسب (توسيع أجندة القضايا إلى قضايا غير عسكريّةٍ)، لأنّ الاعتماد البسيط على تشكيلةٍ واسعةٍ من التهديدات لوجود ورفاهيّة الانسانيّة […] لا يحدث نقلةً في الدراسات الأمنيّة وإهتماماتها التقليديّة” ، لذا ذهب النقديون إلى حدّ جعل الإنسان وليس الدّولة أو اﻟﻤﺠتمع الوحدة المرجعيّة الأساسيّة للأمن، بل أبعد من هذا، تذهب الدراسات النسويّة كتيّار من تيّارات النظرية النقديّة إلى حدّ جعل “النساء”موضوعًا للأمن، وهو ما تثبته طروحات سينثيا أونلو Cythia Enloe وآن تيكنر Ann Tickner[36].
كما أن النظام الدولي مبني إجتماعيا وليس ماديا، وبنية هذا النظام هي التي تحدد سلوكيات الدول إما تعاونا أو تنافسا، وبدوره هذا السلوك يتبع الطريقة التي تفكر بها الدول، أي أنه متغير تابع لعنصر الإدراك، بالإضافة إلى عنصر المعرفة بين الدول وخبرة التعاطي مع حالات التفاعل، وهنا تظهر أهمية عوامل أخرى غير القوة والفوضى في فهم الأمن الدولي وهي الأفكار والقانون والمؤسسات والمعرفة، كلها عوامل تفيد في تشكيل النظام الدولي ومساراته التفاعلية[37].
وبالمقابل قد قدم ألكسندر واندت Alexander Wendt مفهوما بديلا للمعضلة الأمنية وهو “الجماعة الأمنية” كبديل مؤسسي لحالة الفوضى الدولية، عن طريق سياسات الطمأنة التي تساعد على تحقيق بنية للمعرفة تستطيع أن توجه الدول نحو تشكيل “جماعة أمنية” تتمتع بقدر أكبر من السلام أي أن المعرفة هي إنعكاس لرغبات الإنسان وهنا يظهر مفهوم الإنعكاسية Reflexivility في المنهجية المابعد وضعية وفي النظرية النقدية[38].
كما يرفض النقديّون المسلّمات الواقعيّة حول الأمن على غرار الأمنيين الموسّعين، ويؤكّدون على ضرورة توسيع هذا المفهوم نحو مجالاتٍ غير عسكريّةٍ، من جهةٍ لأنّ السباق نحو التسلّح كما يرى كين بوث المتولدّ عن المعضلة الأمنية بين الدول أصبح يشكّل عبئًا أثقل يومًا بعد يوم على إقتصاديات الدول ولم يؤد إلاّ إلى إنتاج مستويات عاليةٍ جدًا من قدراتها العسكرية التدميرية دون أن يرفع من الأمن؛ ومن جهة أخرى “لأنّ التهديدات اليومية المؤثرة على حياة ورفاهية أغلبية الشعوب والأمم […] لا تنجم غالبًا عن القوات المسلّحة للدول اﻟﻤﺠاورة، بل من الركود الإقتصاديّ، من الجور السياسيّ، من ندرة الموارد، من المواجهات الإثنيّة، من تدمير البيئة، من الإرهاب، من الجريمة والأمراض[39].
-الأمن والإنعتاق: الفرد كموضوع مرجعي للأمن
بعد تفكك الإتحاد السوفيتي تصاعدت الفكرة الطامحة إلى إنشاء “دولةٍ عالميّةٍ” أو “دولة قانون دوليّ” المستوحاة من الفكر الإيتوبي لكانط، والقائمة على ظهور مجموعةٍ كوسموبوليتانية أخلاقيّةٍ تحترم وتدافع عن حقوق الإنسان، وقد تدّعم هذا الطموح بإرادةٍ في تأسيس محكمةٍ جنائيّةٍ دوليّةٍ سنة 1995، والتي سبقها إنشاء محكمتين جنائيّتين دوليّتين الأولى TPIY خاصّة بيوغسلافيا سنة 1993 والثانية TPIR خاصّة برواندا سنة 1994.
غير أن حجم الفظائع الإنسانية أكّدت خياليّة هذه الفكرة لهذا لم يعمّر مفهوم الأمن كإنعتاقٍ طويلاً وفقد طابعه العمليّ بعد أن فقد سنده في الواقع، وسرعان ما ترك مكانه لمفهوم “الأمن الإنسانيّ” الذي إستحدث كمفهومٍ جديدٍ ضمن مفاهيم العلاقات الدّوليّة، حيث كان أول إستعمال رسمي له في عام 1994 في تقرير صادر عن برنامج التنمية للأمم المتحدة الذي حرره كل من الباكستاني محبوب الحق Mahbub Alhuq والهندي أمارتيا سن A.Sen[40].
يعتقد أنصار النظرية النقدية بأن الوحدة المرجعية هي الفرد أو الإنسان، حيث يرتكز مفهوم الأمن الإنساني على إتخاد الفرد وحدة التحليل الأساسية وذلك في سياق ما أصبح يواجه أمن الأفراد من مصادر التهديد التي لم تعد الدولة المسؤول الوحيد عليها حيث يعرف الأمن الإنساني وفقا لـ ليود أكسوورثي Lioyd Axworthy الكندي وزير الخارجية السابق بأنه: “حماية الأفراد من التهديدات المصاحبة وغير المصاحبة بالعنف، إنه يتعلق بوضع أو بحالة تتميز بانتفاء المساس بالحقوق الأساسية للأشخاص، بأمنهم وبحياتهم”[41]
كما تعرفه الباحثة خديجة عرفة محمد بأنه: “السعي لتحقيق أمن الأفراد وذلك من خلال الإصلاح المؤسسي، وهو ما يمكن تحقيقه من خلال إصلاح المؤسسات الأمنية التقليدية، بما يمكنها من إقتراب إنساني في التعامل مع المشكلات الأمنية، وكذا إنشاء مؤسسات أمنية جديدة تعنى بالأساس بوضع السبل الكفيلة بحماية جوانب حياة الأفراد كافة، هذا بالإضافة إلى البحث في السبل الملائمة لإلزام الدول بتنفيذ تعهداتها القانونية المنصوص عليها في الإتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان”[42].
ويقوم مفهوم “الأمن الإنسانيّ” على فكرة الأمن المستدام الذي يسعى بالدّرجة الأولى إلى توفير حمايةٍ لصالح الشعوب وليس لصالح أقاليم الدّول، فالأمن الإنسانيّ يرتبط قبل كلّ شيءٍ بإشباع الحاجات الأوّليّة للأفراد ويتجاوز الأولويّة الممنوحة من طرف الدول لإمكانيّاتها الدفاعيّة على حساب أمن أفرادها، وقادت هذه الفكرة إلى تحوّلاتٍ جذريةٍ في صياغة السياسات العالميّة لأنّها تقتضي إعطاء الأسبقيّة لحاجات أمن الأفراد قبل الدفاع عن مصالح الدّولة[43].
كما يعتبر مفهوم الأمن الإنساني أن الإنسان هو الموضوع المرجعي للأمن، والدولة هي وسيلة لتحقيق هذه الغاية، وبالتالي الإنتقال من المستوى الدولتي إلى المستوى الفردي للأمن، وذلك بإعتبار أن الدولة تراجعت قدرتها في مواجهة التحديات الجديدة التي أفرزتها مسارات العولمة المتسارعة، إضافة إلى أن الإهتمام بمسألة الأمن الإنساني يرجع إلى تدفقات الهجرة القادمة من الدول الفقيرة إلى الدول الغنية، وهو ما يؤدي عادة إلى خلق توترات إجتماعية وإلى تنامي الصدامات داخل الدول والمجتمعات، فتتحول الدولة إلى وسيلة لحماية أمن الأفراد والمؤسسات الحكومية في المناطق المزدهرة من تدفق المناطق الفقيرة[44].
وعليه يكون الأمن عند النقديين هو عبارة عن بناء إجتماعي مرادف للإنعتاق Emancipation والتحرر، جاء كفكرة مضادة للنظريات الأمنية التفسيرية لما قبل نهاية الحرب الباردة ومسايرة مع تطورات العولمة ومتطلبات النظام الدولي الجديد، حيث يعرفه كين بوث بأنه: “كخطاب للسياسة، يسعى الإنعتاق إلى حماية الناس من الجور والقيود التي تحد من تنفيذهم لما إختاروه بحرية بالتوافق مع حرية الأخرين، إنه يمنحنا إطارا ثلاثيا للسياسة، كمرسى فلسفي للمعرفة، نظرية لتطور المجتمع وممارسة لمقاومة الظلم فالإنعتاق] إذا[ هو فلسفة ونظرية وسياسة لإكتشاف الإنسانية”[45]
أبرز هذه التحوّلات هو ظهور مفهوم “التدخّل الإنساني”، إذ “تلفت عقيدة الأمن الإنسانيّ الإنتباه إلى أنهّ يُسْتَلْزَمُ تطبيق (في ظروفٍ معينة) حقّ تدخّل إنسانيّ في الشؤون الداخليّة للدول والذي يمكن أن يأخذ شكل هجوماتٍ عسكريّةٍ” ، وعليه، فإنّ الأمن الإنسانيّ يكرّس في جزءٍ منه إرادةً دوليّةً للتدخّل ترتكز على الإعلان العالميّ لحقوق الانسان لسنة 1948 ، وبالتالي إحتمال تقويض مبدأ إحترام السيادة الدولتيّة، فالدّولة التي لا تستطيع حماية مواطنيها من المحتمل أن يُحَلَّ محلّها لضمان هذه الحماية من منظار الأمن الإنسانيّ إذاً، كلٌ من مفهوم الأمن كإنعتاقٍ والأمن الإنسانيّ يعتبر أنّ أمن أغلبيّة البشر “مهدّدٌ أكثر بسياسات ومحدوديّة حكوماتهم الخاصّة وليس بالطموحات النابوليونية لجيرانهم” ، إنّه الأكثر إحتمالاً بالنسبة لأغلبيّة النّاس أن يكون شعورهم باللا أمن متولدًّا أكثر عن الخوف الذي تتسبّب فيه الحياة اليوميّة وليس عن أحداثٍ عالميّةٍ فضيعةٍ[46].
-مدرسة ويلز Welsh School لدراسات الأمن النقدي:
يعد كين بوث Ken Booth من أبرز مفكري مدرسة ويلز لدراسات الأمن الدولي، حيث تحاول هذه الأخيرة تعميق مفهوم الأمن من خلال إضافة وحدات مرجعية فوق قومية وما دون دولاتية، حيث يرى كل من كين بوث وهوركهايمر ضرورة توسيع مفهوم الأمن ليضم التهديدات التي تحد من حرية الإنسان وإنعتاقه، وليس فقط التهديدات التي تمس أمن الدولة، فالتهديدات غير عسكرية مثل الفقر والتدهور البيئي، خرق حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، وعدم المساواة بين الدول وداخلها، هي تهديدات تتجاوز أخطارها حدود الدولة وتهدد الإنسانية جمعاء[47].
وبالمقابل يعتبر واين جونز بأن إلهامات المدرسة النقدية مستمدة من أعمال كل من غرامشي ومنظري مدرسة فرانكفورت (هابرماس، هوركايمر، هونث) هذا الربط أنتج حسب واين جونز مجموعة معينة من المضامين: النظرية، والمنهجية، والمعيارية، حيث تستلزم هذه المضامين توسيع وتعميق وإمتداد وتركيز للدراسات الأمنية حيث يشير التوسيع إلى مفهمة الدراسات الأمنية لتتضمن مجموعة من القضايا تتجاوز القوة العسكرية، أما التعميق فيتضمن مقاربة نظرية للأمن تربط فهمنا للأمن بالفرضيات الأساسية حول طبيعة الحياة السياسية أين تظهر الدول ونظام الدولة كإستجابة طبيعية، فالإمتداد يشير إلى توسيع أجندة الدراسات الأمنية ليس فقط لإدراك تعدد القضايا ولكن لتعددية الفواعل على غرار الدولة أكثر الموقع عمقا للاأمن ، حيث تدعي الدراسات الأمنية النقدية تبني مقاربة للأمن تركز على إنعتاق الأفراد كهدف معياري[48].
إن موجة التحليل الأولى التي شكلها طلاب مدرسة ويلز لدراسات الأمن النقدي كانت بهدف تعميق فهمنا للأمن بكشف السياسة من خلال المفاهيم العلمية والأجندات السياسية ما يسمح للمحللين من إماطة الصفة المركزية عن الدول، والنظر في مرجعيات فوق وتحت دولاتية، أما موجة التحليل الثانية فقد سعت إلى توسيع فهمنا للأمن لأجل الإهتمام بجملة من التهديدات والأخطار التي تواجه مجموعة من الوحدات المرجعية، وبهذا يكون طلاب مدرسة ويلز لدراسات الأمن النقدي قد قاموا بتسيس الأمن Politicize Security بدلا من أمننة القضايا Securitize Issues [49].
كما ترتكز مدرسة ويلز على الأعمال التي قدمها كين بوث وريتشارد واين جونز وتبنيهما لإعتبار: ” الموضوع الرئيسي للدراسات الأمنية يجب أن يكون إنعتاق الأفراد”[50]
لقد جادل كل من بوث وهوركهايمر بضرورة توسيع مفهوم الأمن ليضم كل تهديد من المتوقع أن يحد من إنعتاق الإنسان وحريته، وبهذا يكون المفهوم النقدي للأمن شاملا وأكثر عمقا لكونه يتشكل من تهديدات شاملة تتطلب إستجابات شاملة وغير مقتصرة حصريا على الدولة، وتوسيع الأمن النقدي إنطلاقا من البحث عن فهم التهديدات المبنية إجتماعيا وتاريخيا والمتحولة في المكان والزمان، حيث أنه وإن كان الأمن في صورته العسكرية/ الدولاتية لا يزال يحتفظ بكامل مزاياه ضمن نموذج النظام الدولي الوستفالي ، فإن العديد من التهديدات غير العسكرية كالفقر ، اللامساواة بين الدول وداخلها ، التدهور البيئي والإيكولوجي ….تتجاوز أخطارها حدود الدول مهددة بذلك مصير الإنسانية ومتجاوزة قدرة الدولة الواحدة على مواجهتها[51].
كما أشار كين بوث إضافة إلى فكرة الإنعتاق) ذات الجذور العميقة في النظرية النقدية (إلى تأثّره بالباحثين في معهد أبحاث السلام من أمثال: كينيث بولدينغ K.Boulding يوهان غالتونغ Y.Galtung وريتشارد فالك R.Falk لتركيزهم ليس فقط على تحقيق الأمن السلبي الذي يعني غياب الحرب، ولكن على فكرة الأمن الإيجابي أي تحقيق العدالة الإجتماعية والإقتصادية كوسيلة لتحديد الأسباب الضمنية للنزاعات ، كما فتح هذا النقاش ووضع في الواجهة قضايا كالرفاه الإقتصادي والصحة والإستقرار البيئي موازاة مع التركيز على القضايا العسكرية كالأسلحة النووية[52].
ويمثل الإنعتاق حسب كين بوث قلب النظرية النقدية للأمن العالمي، ويقصد بالإنعتاق عموما في هذه النظرية الحرية من جميع القيود التي يمكن أن تعيق الأفراد والشعوب من تجسيد خياراتهم، فهو السعي نحو تحقيق الرفاهية المادية والعيش الكريم، والتحرر من قيود الطبيعة والندرة والحرية من الجهل والخرافات، وهو يسعى إلى العدالة والحرية من الإستبداد بمختلف أشكاله السياسي والإستغلال الاقتصادي[53].
-تصورات الجندر وما بعد الحداثة عن الأمن:
1-التصور النسوي للأمن:
واجهت العلاقات الدولية مقاومة شديدة من طرف شريحة واسعة من المجتمع تسمى “نساء” في سبيل فتح أبوابها للتحدي الذي فرضته النسوة المتمحورة في بلورة نظرية نسوية تهتم بالجنس في العلاقات الدولية Gender، وكان ذلك التحدي ناتجا عن عدم منح العلوم الإجتماعية أهمية لمتغير الجنس وإستمرت في تجاهله، وهو ما منح الفرصة في أواخر الثمانينات للأصوات النسوية النقدية لإقحامها في دراسة العلاقات الدولية[54].
إذا برزت الأدبيات النسوية بقوة في مجال العلاقات الدولية في التسعينات، وقدمت إسهاماتها النظرية من قبل باحثات من أمثال “سيلفيستر Christine Sylvester وويتورث Sandra Whitworth وتيكنرTickner Ann J و”توربن Jennifer Turpin قدمت النسوية أعمالا مختلفة ومتنوعة فيما يتعلق بالعلاقات الدولية، ولكنها تتفق فيما بينها في الفكرة الأساسية التي مفادها أن النوع Gender تشكل قضية في فهم كيفية سير العلاقات الدولية وبشكل خاص في القضايا المتعلقة بالحرب والأمن الدولي[55].
رغم إختلاف إتجاهات النظرية النسوية وتشعبها، فإنها تتقاسم معظم الإفتراضات الأساسية للنظرية النسوية المتعلق بالأهمية القصوى للجنس Gender في فهم ومعرفة السياسة العالمية حيث تعتقد بأن:
“الرجال وليس النساء هم من كتبوا نظريات العلاقات الدولية وأصبحوا بالتالي يراقبون صناعة القرار فالواقعية مثلا تعتبر في نظر النسويين والنسويات نظرية جنسية لأنها قائمة على الجنس الذكري وأسست من قبل الرجال لوصف وتفسير عالم عدواني من الدول وغير مراقب من قبل الرجال وعلى هذا الأساس ترى النظرية النسوية أن السياسة العالمية ستكون أقل تنافسية وأقل عنفا إذا تمكنت النساء من الوصول أو السيطرة على مواقع القوة خاصة قوة الدولة المرتبطة بالمعرفة، ولتحقيق هذا الهدف تواصل هذه النظرية مجهوداتها متبنية مواقف فلسفية نظري على غرار ما يسمى بالنظرية النقدية”[56]
إن كل التيارات الفكرية للنظرية النسوية تؤكد على تهميش دور ومكانة المرأة في السياسة العالمية ونتيجة لذلك حاولت منظرات وجهة النظر النسوية تفكيك مجالات العلاقات الدولية وتقويض أسسها ومبادئها من خلال إعادة تقويم نظرة توماس هوبز حول حالة الطبيعة كونها حسبهن اللبنة الأساسية للنظام الدولي القائم على الدولة، أما بعض المنظرات ضمن النزعة النسوية التجريبية فقد قدمن دراسة نسوية حول النساء وإقتصاد الميزانية العسكرية يوضحن فيها مساهمتهن الفعالة في تسيير وإدارة شؤون التعاون الدولي وإرساء قواعد السلم والأمن العالميين[57].
كما أن الإلتزام النسوي بالهدف الإنعتاقي والتحرري من أجل إنهاء تبعية المرأة متسق مع التعريف الموسع للأمن الذي يجعل من الفرد المنتمي إلى بنيات إجتماعية واسعة ، من هذا المنطلق تسعى الدراسات النسوية إلى فهم كيف أن أمن الأفراد والجماعات معرض للخطر من طرف العنف الجسدي والهيكلي على جميع المستويات[58]،حيث تجادل بعض الباحثات النسويات بأن الفرضيات الجوهرية للواقعية تلك المتعلقة بالفوضى الدولية وسيادة الدولة تعكس وبشكل خاص الطريقة التي يتعاطى ويتفاعل بموجبها الرجال من العالم، ووفقا لهذه الرؤية فإن النظرية الواقعية تعبر عن المشاركين من الرجال في صنع السياسة الخارجية ومبدأ سيادة الدولة وإستعمال القوة العسكرية[59].
لذلك فقد حاولت أن تيكنر Tickner Ann J أن تتحدى الإتجاهات النظرية الكبرى، ولاسيما منها الواقعية بتوجيهها إنتقادات لاذعة لها وإعادة صياغتها لمبادئ الواقعية الكلاسيكية الستة من وجهة النظر النسوية، لكي تثبتن جدارتهن جنبا إلى جنب مع المنظرين الرجال وكانت صياغتها لهذه المبادئ على النحو التالي[60]:
1-الموضوعية مرتبطة بالذكورية، وبالتالي فإن القوانين الموضوعية هي بالضرورة جزئية،
2-المصلحة الوطنية هي مفهوم متعدد الأبعاد، وبالتالي لا يمكن تعريفها فقط بمفهوم القوة،
3-تعريف القوة بالهيمنة والمراقبة هو تعريف محدود وذكوري،
4-أنه من الإستحالة بمكان ومن غير المستحسن فصل الأخلاق عن الممارسات والسلوكيات السياسية،
5-الهدف هو التركيز على القواسم المشتركة للطموحات الإنسانية المتعلقة بتخفيف حدة الصراع وتعزيز الروح الجماعية،
6-المجال العام ليس مستقلا، مدعيا بأنه من الضرورة بمكان إبعاد إهتمامات وإسهامات النساء
وعلى غرار أن تيكنرTickner Ann J حاولت صاندرا ويتوارث Sandra Whitworth أن تنظر للجنس/ النوع من خلال إستعمال مقتربات نظرية موجودة فهي لا تحاول إقحام النساء في العلاقات الدولية لأنهن في إعتقادها موجودات أصلا فيها، وإنما تسعى للتنقيب عن أسباب إستمرار التنظير والتأريخ للعلاقات الدولية في تدعيم الغياب الخرافي للنساء، وهي في ذلك تتهجم على الأنطولوجية الواقعية لأنها تقف في نظرها حجرة عثرة أمام أي تحليل للعلاقات الدولية يقوم على أساس الجنس/النوع[61]، وبالمقابل ترى صانتيا أونلو أنه إذا كان للتحليل النسائي تأثيرا بسيطا على السياسة الدولية فإن ذلك راجع إلى تجاهل وإغفال متغير الجنس/النوع في دراسات العلاقات الدولية، ولذلك فهي تدعو المنظرين في العلاقات الدولية إلى ضرورة أخذهم بعين الإعتبار التجارب النسوية بجدية إن أرادوا أن يتحصلوا على تفسير وفهم واسعين حول كيفية إدارة وتسيير الشؤون الدولية[62].
لقد سعت النظرية النسوية في مجال الأمن الدولي إلى البحث كيف تكون الدولة مشاركة في حالة اللاأمن الموجه نحو مواطنيها ، كما قامت بطرح إستفهامات مهمة حول الطريقة التي جعلتنا في مجموعنا نعتبر الدولة الحكم النهائي المقرر للأمن والحرية ، غير أن المقاربات النسوية لا تقتصر على النساء فقط في تحليل الأمن ، ولكنها تدمج النوع من أجل فهم كيف أن بعض المعايير الأنثوية والذكورية تؤثر في تصور ماهية الأمن ، كما يساعد أيضا في توضيح مسألة إعتبار أصوات النساء في أغلب الأحيان غير مشروعة ومسموح بها في المسائل المتعلقة بالأمن القومي[63]
2-تصورات ما بعد الحداثة للأمن الدولي:
تعتبر ما بعد الحداثة نظرية إجتماعية تجد أصولها عند مجموعة من الفلاسفة الفرنسيين الذين رفضوا فلسفة الوجودية التي كانت مهيمنة في فرنسا في أواخر الأربعينيات وبداية الخمسينات من القرن العشرين، ولكن ولوج ما بعد الحداثة عالم العلاقات الدولية لم يتم إلا مع أواخر الثمانينات من القرن الماضي، وهي تمثل إحدى النظريات الهامة في المحاورة الثالثة، حيث يطلق عليها رونالد بلايكر صفة التحول الجميل the Aesthetic turn [64]،كما يعود الإستخدام الأول لمصطلح ما بعد الحداثة إلى الثلاثينيات من القرن العشرين في نص كتبه الإسباني فريدريكو دي أونيس إلا أنه إستخدم بصورة منهجية في حقل الدراسات النقدية الأمريكية في كل من كتابات: ارفنغ هاو، هاري ليفين، ليزلي فيدلر، وقد ظهر هذا المصطلح في البداية في ميدان الهندسة المعمارية (العمارة والفنون) ثم إنتقل وإمتد إلى حقول معرفية أخرى منها حقل العلاقات الدولية[65].
ويعتبر كل من دريدا، Derrida فوكولت Foucault بارتز باودريلار Baudrillard ليوتارد Lyotard والى جانب كل من فوكولت foucault ولاكان lacan وكريستيفا kristeva، baudrillard أصحاب إسهام مركزي في هذا المجال[66]، كما تبرز أسماء أخرى ساهمت وبدرجات متفاوتة في تطوير أسس هذه النظرية، لكن رغم هذا الإمتداد والتجذر فإن بروز ما بعد الحداثة كنظرية في حقل العلاقات الدولية تدعم مع أواخر الثمانينيات من القرن العشرين، بعد ترجمة كتاب “الوضع المابعد الحداثي” لجون فرانسوا ليوتار إلى الإنجليزية عام 1984 ويعد كتاب العلاقات التناصية /الدولية من تأليف كل من جيمس دار دريان Derian James Der ومايكل شابيروMichel Shapiro جامعا لكل قراءات وأفكار ما بعد الحداثة للسياسية الدولية، ومن بين أهم المفكرين المساهمين في بلورة هذه النظرية[67].
كما تنطلق ما بعد الحداثة كبناء نظري معقد من إفتراضات أساسية تعتمد على إعادة النظر في مفاهيم كالتنوير، الحداثة، العلم، العقل، …وفي ذات السياق فإن جيم جورج Jim George يعتقد بأن ما بعد الحداثة:
“تعد صياغة المسائل والقضايا القاعدية (الأساسية) للإدراك الحداثي، لا بالتركيز على الفاعل ذي السيادة (مثل الكاتب، الدولة المستقلة) أو الموضوع (العالم، النص المستقل) بل على الممارسات التاريخية الثقافية واللغوية التي ضمنها يبنى الفاعل والموضوع (النظرية والممارسة والأفعال والقيم) “[68]
كما تعتمد ما بعد الحداثة على تحليل الخطب والتناصintertextuality ، وفي هذا الصدد يسعى ما بعد الحداثيون إلى بناء تصور مفيد للعلاقات الدولية يصلون من خلاله إلى الحقيقةtruth التي تتشكل من خلال اللغة، حيث أن توظيف مفهوم التناص يعني منح اللغة الدور المركزي في إستيعاب وإدراك الواقع الدولي، وهو ما يعبر عنه لاسيj.w.lacey بقوله: “أفضل مجاز للحقيقة هو النص”[69]
كما تدعو عقیدة “التناص”، من خلال ما بعد الحداثة إلى ضرورة تضمین الخطاب في العلاقات الدولیة “أصواتا كثیرة ومتعددة”، حیث أن توظیف هذه العقیدة یعني إعطاء دور أساسي للغة في فهم وإدراك العالم الإجتماعي أو الواقع، وعلى هذا الأساس یعتقد ما بعد الحداثیون أن اللغة لا تعكس الواقع، بل الواقع یبنى ویصاغ من خلال إستعمال اللغة في مسار لا نهائي من التفسیر.[70]
كما أنه ليس صحيحا القول وفقا لما بعد الحداثة بإمكانية بناء مؤسسات عادلة تعامل الجميع بمساواة وبدون تمييز، وهو ما يؤسس لرفض كل سرديات الواقعية الجديدة والليبيرالية الجديدة ولمنطلقاتهما وخلاصاتهما النظرية والمنهجية أيضا، ووفقا لها فلا معنى أو أهمية لكل النظريات والتفسيرات بما فيها الواقعية الجديدة وإفتراضها ثبوت بنية السياسة الدولية فالعلوم الإجتماعية ليست محايدة بل إنها تاريخية، ثقافية وسياسية ومنحازة بالنتيجة، فالمسألة تتعلق بحقيقة كون كل نظرية تقرر ما يناسبها وتعده حقائق بينما ليس هناك موقف محايد أو مستقل يمكن بواسطته تقدير أي الإدعاءات الإمبريقية المتنافسة هو الأفضل والأصح، حيث لا مجال للقول بالحقيقة الموضوعية، فكل ما له صلة بالبشر هو ذاتي بإمتياز[71].
وفي هذا الإطار يرى دريدا Derrida بدوره أنه توجد حقائق منفصلة وليس حقيقة كلية حيث يقول:
“إن حقيقة الأمر أنه لا يوجد شيء يسمى الحقيقة في ذاتها، فالحقيقة يستحيل الوصول إليها، باعتبار أن العقل لا يمكنه محاكاة الواقع، وهو ما دعا نظرية ما بعد الحداثة إلى رفض احتكار الحقيقة “[72]
بداية، انطلق منظري ما بعد الحداثة الدولية من فرضية الارتباط الوثيق بين القوة والمعرفة لميشال فوكو لإعادة النظر فيما اعتبرته النظريات التقليدية “حقائق موضوعية” في العلاقات الدولية من خلال توضيح كيف أن المفاهيم والادعاءات المعرفية التي هيمنت على الحقل تتوقف إلى حد كبير على علاقات القوة الخاصة، حيث أن كل قوة تتطلب معرفة، ككل معرفة تعتمد على علاقات القوة الموجودة وتعمل على تدعيمها[73].
وفي هذا الصدد، يرى المفكر الأمريكي الماركسي فريديريك جيمسون Fridirik Jimpson في كتابه: “ما بعد الحداثة أو المنطق الثقافي للرأسمالية في مرحلتها الراهنة Post-Modernisation or The Cultural Logic of Capitalism in its Contemporary Phase: ” أن الأفكار التي تدعو لها نظرية ما بعد الحداثة هي بنية فوقية، ورؤيتها النقدية للنظريات التفسيرية التقليدية هي تعبير عن إفلاس هذه النظرية، ومع ذلك فهي تمثل إحدى أهم المقتربات الفكرية المنهجية التي يتوقع لها مستقبلا أن تمهد لنقلة نوعية في مجال العلوم السياسية والعلاقات الدولية، خاصة نحو مرحلة ثقافية وحضارية تخدم البشرية جمعاء”[74].
وبالرغم من كل الإسهامات لنظرية ما بعد الحداثة، كنزعتها لتحرير الإنسان في إطار موقفها المضاد للشمولية السياسية والأحادية الفكرية من جهة ، وبالرغم من الكثير من النماذج التي تعكس بوادر النجاحات الأولى لمبادئ هذه النظرية على مسرح السياسة العالمية، والتي تتعلق بتزايد وتنامي المطالب الهوياتية في كثير من الدول الاشتراكية السابقة، والجمهوريات السوفياتية على إثر انهيار الاتحاد السوفيتي ومناطق أخرى، وذلك لإدراج مسألة الهوية ضمن اهتمامات الدارسين في مجال العلاقات الدولية ،إلا أن مساهمتها في تقديم تصور جديد للعلاقات الدولية تبقى متواضعة وضئيلة ،وذلك لكونها بقيت متمحورة أساسا حول النقد الإبستيمولوجي والمنهجي للمقاربة العقلانية، القائمة على أساس الفلسفة الوضعية والتجريبية والعقلانية[75]
يرى جون ميرشايمرMersheimer John أنه في حين يرى الواقعيون إمكانية وجود عالم ثابت يمكن معرفته، فإن أنصار ما بعد الحداثة: ” يرون إمكانية وجود تفسيرات لا نهائية للعالم الذي يحيط بهم … لا توجد ثوابت ولا معان ثابتة، ولا أراض أمنة، ولا أسرار عميقة ولا بنى نهائية ولا حدود للتاريخ، لا يوجد إلا التفسير، والتاريخ نفسه يفهم على أنه سلسلة من التفسيرات المفروضة على تفسيرات – ما من واحد منها أساسي وجميعها إعتباطية”[76].
أما عن التصور الأمني لهذه النظرية المفككة للأطر والمقاربات التقليدية، فتنطلق ما بعد الحداثة في تقديم منظورها الأمني على أساس نقد الطرح الأمني الواقعي الذي يعاني برأيها حالة قصور منهجي في التعامل مع الظاهرة الأمنية، حيث تمثل في حد ذاتها إحدى المشكلات الأساسية لإنعدام الأمن العالمي بسبب خطابها المفعم بالقوة والمشجع على المنافسة الأمنية، وهو ما أدى بها إلى العجز عن التفكير في أطر وتفسيرات أمنية بديلة، حيث يوجه ريتشارد آشلي Richard Ashley في دراسته المعنونة بـ ” بؤس الواقعية الجديدة the Poverety of Neorealism إنتقادا شديدا للتصور الواقعي للسياسة العالمية حيث يقول: “إن النيوواقعية كنظرية وضعية تتعامل مع بنية النظام الدولي كقانون طبيعي ترهن التنوع الزماني والمكاني وتجرد التفاعلات السياسية من إمكانية القدرة على التغيير، إنها إيديولوجية توجه مشروعا شموليا Totalitarian لأطراف العالم وأجزائه[77].
وبهذا تكون الواقعية عقبة أمام إرساء معالم نظام دولي أمن وعادل يحفظ الأمن ويعززه، حيث يعتمد على متغير القوة في التحليل، فإن جون فاسكيز John Vasquez ويرى بالمثل أن: ” سياسة القوة هي صورة للعالم الذي يشجع السلوك الذي يأتي بالحرب، وبهذا المعنى فإن محاولة القوة هي بحد ذاتها جزء من السلوك ذاته جزء من السلوك نفسه الذي يؤدي الحرب …كما أن التحالفات لا تنتج السلام بل تؤدي إلى الحرب”[78].
استنادا للبناء النظري لما بعد الحداثة يمكن القول بأننا أمام منظور أمني مختلف أو على الأقل متناسب والأبعاد الإبستمولوجية والأنطولوجية لهذه النظرية المفككة للأطر والمقاربات التقليدية، وانطلاقا من قيمة الخطاب فإن ما بعد الحداثين يعتبرونه المنظار الوحيد لفهم سلوكيات الدول وسياساتها، ولذلك فالدراسات الأمنية بحسبهم ماهي إلا دراسة مقارنة لخطابات أمنية متباينة، من هنا وكما طرحنا سابقا فإن جل النظريات التي أعقبت النظرية الواقعية حاولت رسم تصورها للسياسة العالمية على خلفية نقد التصور الواقعي وحتى تهديمه (بروز الترعة التهديمية في العلاقات الدولية).
وفي ذات السياق فإن الفكر ما بعد الحداثي للدراسات الأمنية يرى ضرورة الدعوة إلى خطاب إجتماعي يؤكد على السلم والأمن والمعايير الجماعية وكذا التعاون عوضا عن الخطاب الواقعي المكرس للصراع والتنافس وهي المهمة التي يرى ما بعد الحداثيون أنها ممكنة إذا أدى الساسة والأكاديميون والجماعات المعرفية دورها في عملية إعادة صياغة اللغة والخطاب عن السياسة وبعث خطاب بديل يركز على نشر المثل العليا للجماعات[79].
وفي هذا الإطار، يمكن الإشارة إلى نقطتين مهمتين في فهم التفسير المابعد حداثي للدراسات الأمنية أو لنقل النقد المابعد حداثي للمنظور الأمني الواقعي[80]:
-1 البديل للخطاب الأمني الواقعي هو خطاب أمني جماعي يرتكز على متغيرات التعاون والسلم والعدالة والفهم المشترك من جهة، ويعمل على نزع بذور التفكير الواقعي المغروسة في أذهان الساسة والأكاديميين من جهة ثانية.
-2 تصميم الدراسات الأمنية من خلال التركيز على القضايا الأمنية الجديدة التي أهملها الواقعيون، عبر طرح فكرة الخطاب الجماعي ودوافعه.
كما أن هذه النظرية تبحث عن تفسيرات متعددة للعالم لا كما هو الحال عند الواقعيين الذين يبحثون عن تفسير واحد لعالم واحد، فكل شيء بحسب أنصار ما بعد الحداثة قابل للتفسير والتأويل من الأمن والقوة والفوضى والنظام الدولي، بل وحتى التاريخ الذي يفترض أنه مسار تطوري من الأحداث المتعارف عليها، كما أن ذاتية المعرفة لا موضوعيتها يدفعهم إلى تشكيل خطاب أمني ذو بعد معياري، فالقيمة الأساسية للمقاربة النظرية هي خلق بيئة أمنية ومسالمة إستنادا إلى خطاب تعاوني سلمي، حيث أن المشكلة في الخطاب الأمني الواقعي أنه قدم رؤية صلبة ومتماسكة عن الأمن الدولي تتميز بالإنغلاق والحجر المعرفي الذي يتعامل مع العقل الإنساني بإعتباره عقلا واقعيا لا يمكنه التفكير في أطر وتفسيرات أمنية بديلة.[81]
كما حاول المابعد حداثيون وتأسيسا على حالة القصور المنهجي للواقعيين في التعامل مع الظاهرة الأمنية عبر تطوير أجندة بحثية أمنية جديدة مختلفة عن تلك التي تناولتها الأطر النظرية والتحليلية السابقة، وذلك بإعادة تفكيك المسلمات التقليدية في النقاش الأمني كمسلمة الفوضى في النظام الدولي ومسلمة القوة في توجيه سياسات الدول،حيث أن المهارة الواقعية تكمن في القدرة على ترويج وتبرير مقدمات معينة بالشكل الذي يوصلنا إلى النتائج التي تريدها الواقعية نفسها، فمثلا إذا تعاملنا مع معطى الفوضى كإحدى مسلمات السياسة الدولية، فلا نحتاج لأن نكون واقعيين حتى نقر بأن إستخدام القوة هو الأداة الأمثل لتحقيق الأمن[82].
كما أنه إنطلاقا من قيمة الخطاب، فإن الدراسات الأمنية بحسب الما بعد حداثيين هي دراسة مقارنة لخطابات أمنية متباينة، والبديل للخطاب الأمني الواقعي هو خطاب أمني جماعي يرتكز على متغيرات التعاون والسلم والعدالة والفهم المشترك، وبالإعتماد على ذاتية المعرفة يتم تشكيل خطاب أمني تعاوني سلمي، ذو بعد معياري يهدف إلى خلق بيئة أمنية مسالمة ، ویقترح مفكرو ما بعد الحداثة العديد من الأدوات لتطوير خطاب الأمن الجماعي لعل أبرزها اللجوء إلى الجماعات المعرفية Epstemic لنشر القیم الأمنية المشتركة والأفكار التعاونية والسلمية بین الدول لأن هذه الجماعات تعبر عن إدراكات موضوعية للسياسة الدولیة بعیدا عن الإستقراءات الوضعیة للواقعیین[83].
فالفوضى إذن ليست مبدأ ثابت بل الفوضى كما يقول واندت هي ما تصنعه الدول، وربما هذه المهارة بالذات هي التي أوقعت الما بعد حداثيين في مأزق نظري عند بناء تصورها للدراسات الأمنية، فالمقدمات التي نسلم بها تتحكم في النتائج التي نصل إليها، ولكن لأن الفوضى عند المابعد حداثيين ليست حقيقة مطلقة، فإن النهج الواقعي ليس المذهب الأمني الأسلم بالضرورة، كما أنه من بين أهم الأدوات التي يقترحها مفكرو ما بعد الحداثة في تطوير خطابهم الأمني الجماعي اللجوء إلى نشر القيم الأمنية المشتركة والأفكار التعاونية والسلمية بين Epistemic الجماعات المعرفية الدول[84]، لأن هذه الجماعات تعبر عن إدراكات موضوعية للسياسة الدولية بعيدا عن الاستقراءات الوضعية للواقعيين[85].