سارة عبدالعزيز سالم
أسفرت الثورة التكنولوجية الرقمية عن خلق اقتصادات جديدة، تغيرت فيها أساليب وطرق ممارسة الأعمال. فقد تمكنت شركات التكنولوجيا العملاقة من تصدر المشهد الاقتصادي العالمي من خلال ما حققته من أرباح طائلة وزيادة قيمتها السوقية إلى مستويات أصبحت تتعدى معه ميزانيات بعض الدول. وهو الأمر الذي أدى إلى العديد من الاختلالات في المشهد الاقتصادي العالمي من هيمنة تلك الشركات أمام تراجع نفوذ الشركات الصناعية الكبرى، وقد وضع ذلك قواعد جديدة للسوق، وغيّر توقعات العملاء. ويتناول التحليل الحالي أهم مؤشرات الهيمنة الاقتصادية لشركات التكنولوجيا العملاقة، هذا إلى جانب محاولة حصر الأسباب التي ساهمت في تصدرها للمشهد، وتداعيات ذلك على الاقتصاد العالمي.
صدارة المنتديات العالمية:
تصاعدت هيمنة شركات التكنولوجيا العملاقة على المحادثات التي تجري في المنتديات الاقتصادية العالمية، ومنها منتدى "سان بطرسبرج الاقتصادي" الذي عُقد في الفترة من 24 مايو إلى 26 مايو 2018، حيث اختار منظمو البرنامج 4 موضوعات أساسية للنقاش، وهي: الاقتصاد العالمي في عصر التغيرات، وروسيا: استخدام إمكانيات النمو، وتكنولوجيات من أجل القيادة، ورأس المال البشري في الاقتصاد الرقمي.
وركز قسم "روسيا: استخدام إمكانيات النمو" على التحديات الرئيسية التي يواجهها الاقتصاد الروسي، وآليات الصعود الروسي إلى المراكز القيادية في مجالي التكنولوجيا والطاقة العالميين، فيما تناول قسم "تكنولوجيات من أجل القيادة" تأثير الذكاء الاصطناعي والبلوك تشين على الاقتصاد العالمي.
وخلال المنتدى اتفقت شركة الاتصالات الروسية الحكومية (Rostelecom) مع شركة نوكيا العملاقة على إنشاء مشروع مشترك يهدف لإيجاد حلول لتكنولوجيات الاقتصاد الإبداعية، كما وقعت شركة سامسونج مذكرة تفاهم مع بعض سلاسل متاجر التجزئة الكبرى في روسيا بهدف إدخال التكنولوجيا في مجال صناعة التجزئة، كما تم الاتفاق على إنشاء صندوق أسهم روسي خاص مشترك للابتكار والتكنولوجيا لدعم شركات التكنولوجيا الروسية والهندية في الأسواق العالمية بشكل عام، ودول البريكس، والاتحاد الأوراسي، ودول الآسيان.
ولم يختلف الأمر كثيرًا فيما يتعلق بمنتدى دافوس الاقتصادي الذي انعقد في يناير الماضي، حيث استحوذ قطاع التكنولوجيا على نسبة تصل إلى نحو 26% من إجمالي الموضوعات التي تمت مناقشتها في جلسات المنتدى، وهي ثاني أكبر نسبة بعد المناقشات حول الشئون المجتمعية.
وهنا جاء الحديث حول مسئوليات الشركات التكنولوجية العملاقة ليقتطع 7% من إجمالي المناقشات الدائرة في مجال التكنولوجيا. وهو ما يعني أن تغيرًا نوعيًّا قد طرأ على طريقة تناول المنتدى للشركات التكنولوجية، ففي حين كان يتم النظر إلى تلك الشركات على أنها تؤدي دورًا مجتمعيًّا إيجابيًّا ومؤثرًا في حياة الأفراد والمجتمعات، بدأ المجتمع يدرك أيضًا الجوانب السلبية لهذه الشركات، وهو ما وضعها في موقف الدفاع لتبرير مجموعة من الأمور، مثل: الهيمنة الاقتصادية، والتوسع في عمليات الاستحواذ والممارسات الاحتكارية، ورغبة الدول في فرض الضرائب على هذه الشركات، بالإضافة إلى مناقشة تأثيرها السياسي المتمثل في انتشار ظاهرة الأخبار الكاذبة عبر منصات التواصل الاجتماعي، وكذلك التأثير في نتائج الانتخابات التي جرت في العديد من الدول خلال العامين الماضيين.
أما عن أهم الشركات التكنولوجية التي تم تسليط الضوء على مناقشاتها من خلال وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، فقد أتت شركة فيسبوك في المقدمة بما يقدر بحوالي 189 تغطية إعلامية، وذلك على الرغم من عدم حضور الرئيس التنفيذي "مارك زوكربيرج" لجلسات المنتدى هذا العام. كما تلقت ألفابت الشركة القابضة لجوجل تغطية كبيرة من جانب الوسائل الإعلامية، 130 تغطية مدفوعة بحضور الرئيس التنفيذي لشركة جوجل "ساندر بيتشاي" والرئيس التنفيذي لألفابت "كفو روث بورات" عددًا من الجلسات. وأعقبهما في ذلك كل من تويتر وأمازون. في حين جاءت شركة (Alibaba) الصينية في المؤخرة، وذلك بحسب تقديرات شركة "برونزويك" الاستشارية العالمية في أحد تحليلاتها المعنونة "لماذا هيمنت شركات التكنولوجيا على دافوس؟" .
كما اهتم المنتدى كذلك بشكل خاص بأهمية وضع الضوابط والتشريعات الحاكمة لعمل الشركات التكنولوجية العملاقة، في محاولةٍ لمواجهة التداعيات السلبية السياسية والاقتصادية والمجتمعية التي بدأت تترتب على آليات عمل تلك الشركات في الأسواق وداخل المجتمعات.
مؤشرات "الهيمنة الاقتصادية":
شهد العقد الحالي تراجع الشركات النفطية عن كونها الشركات الأكثر قيمة في العالم، وذلك في مقابل تصاعد الشركات التكنولوجية. ففي عام 2006، تصدرت شركة "إكسون موبيل" العملاقة للنفط قائمة الشركات الأكثر قيمة في العالم، وكانت شركة مايكروسوفت هي الشركة التكنولوجية الوحيدة بالقرب من القمة . إلا أنه منذ عام 2012 تربعت شركة أبل التكنولوجية على قائمة الشركات الأكثر قيمة في العالم حتى عام 2018.
ووفقًا للبيانات التي يقوم بإعدادها كل من مؤسستي بلومبرج و(Pwc) عن أكبر 100 مؤسسة عالمية من حيث القيمة السوقية، فإن قطاع التكنولوجيا يعد من أكبر القطاعات من حيث القيمة السوقية في عام 2017، وذلك بإجمالي بلغ 3.582 مليارات دولار، بينما يأتي في المرتبة الثانية القطاع المالي 3.532 مليارات دولار، كما جاء قطاع السلع الاستهلاكية 2.660 مليار دولار في المرتبة الثالثة .
يضاف إلى هذا تصدر الشركات التكنولوجية للمراكز الخمسة الأولى، محققة بذلك أعلى قيمة سوقية، وذلك على النحو التالي: أبل (754) مليار دولار، ألفابت الشركة القابضة لجوجل 579 مليار دولار، ومايكروسوفت 509 مليارات دولار، وأمازون 423 مليار دولار، وفيسبوك 411 مليار دولار .
أما من حيث الأرباح السنوية، فنجد أن شركة أبل حققت خلال عام 2017 حوالي 215.6 مليار دولار، لتكون في المرتبة السابعة ضمن القائمة التي تعدها مجلة فورتشين (fortune) لأكبر الشركات من حيث الأرباح السنوية المتحققة. تليها في ذلك شركة أمازون في المرتبة 26 محققة أرباحًا تصل إلى حوالي 136 مليار دولار. فيما حققت كل من ألفابت ومايكروسوفت وفيسبوك عوائد تصل إلى 90.3 و85.3 و27.6 مليار دولار على الترتيب . كما أنه من المتوقع أن تضاعف هذه الشركات حجم المبيعات المتحققة بينها بحوالي 100 مليار دولار خلال عام 2018، وذلك بمعدل نمو جماعي قدره 14% .
صعود "عمالقة التكنولوجيا":
ترجع الهيمنة الاقتصادية لشركات التكنولوجيا الكبرى إلى مجموعة من العوامل التي يمكن توضيحها فيما يلي:
1- البيانات العملاقة: ويُعد من أهم عناصر الأفضلية التي تتمتع بها تلك الشركات، حيث تتحكم في قواعد ضخمة من البيانات، وتمتلك القدرة على تتبع حركة هذه البيانات وتخزينها ونقلها. وهو ما يتيح لها فرصة استغلال تلك البيانات وتوظيفها في تحقيق أرباح طائلة من خلال معرفة تفضليات المستخدمين، واستخدامها في عمليات التسويق المختلفة. فسيطرة كل من شركتي جوجل وفيسبوك على سوق الإعلانات الرقمية تحقق من خلال امتلاك هذه الشركات لبيانات المستخدمين، والعمل على تجميعها وتحليلها، ومن ثم تسويق المنتجات بكفاءة فائقة .
2- الابتكار التكنولوجي: حيث تركز شركات التكنولوجيا بشكل كبير على استثمار نقاط القوة لديها في تقديم الابتكارات بوتيرة متسارعة، كما تسعى نحو تشكيل الشراكات غير التقليدية، سواء خارج نطاق الصناعة، وأحيانًا مع منافسيها أنفسهم، وذلك لتحقيق الاستفادة القصوى.
3- الاستقلالية المؤسسية: يرى بعض المحللين أن هذه الشركات قد فرضت شكلًا جديدًا من الاقتصاد السياسي، تتمتع فيه بالاستقلالية والسيادة المؤسسية. ومن ثم، فإن بعضها لا يخضع لسيادة الدول، حيث لا تنطبق عليها التشريعات والإجراءات التنظيمية الملزمة للشركات الأخرى من حيث دفع الضرائب، ورفع الدعاوى القضائية ضدها، ومنع الممارسات الاحتكارية وغيرها. وهو الأمر الذي تحاول الدول حاليًّا تجاوزه من خلال التنظيم أو التشريع .
4- تصاعد التأثير: فهذه الشركات أصبحت تلعب دورًا كبيرًا في حياة الأفراد والمجتمعات، وهو ما يعني امتلاكها القدرة على التأثير المجتمعي. هذا بالإضافة إلى أن ميزانياتها أصبحت تماثل ميزانيات بعض الدول. وإذا أضفنا إلى هذا التأثير السياسي الذي أحدثته هذه الشركات على نتائج الانتخابات في العديد من الدول؛ فإننا نخلص إلى أننا أصبحنا أمام كيانات تماثل تأثير الحكومات، من حيث امتلاكها عناصر القوة والتأثير السياسي والاقتصادي والمجتمعي .
5- الانطباع الإيجابي: حيث توصل أحد الاستطلاعات إلى أن كلًّا من أبل، وجوجل، وفيسبوك، وأمازون؛ تعد من أكثر العلامات التجارية ذات الانطباع الإيجابي لدى المستخدمين في العالم؛ حيث إن 86% من الأمريكيين لديهم انطباع إيجابي عن شركة جوجل، فيما تصل النسبة إلى 80٪ فيما يتعلق بشركة أمازون، وقد يرجع السبب في ذلك إلى أن منتجات هذه الشركات تعتمد على الترفيه، ويمكن الوصول إليها بسرعة وذلك بدون تحمل أي تكلفة تذكر أو تكلفة محدودة .
6- اتساع قواعد المستفيدين: حيث ساهمت التكنولوجيا الرقمية، وما تتيحه من سرعة في الوصول لكافة المستفيدين في الوقت نفسه، وتخطي الحدود الجغرافية للدول، في اتساع قواعد المستفيدين من خدمات هذه الشركات بشكل كبير غير متناهٍ، وهو الأمر الذي قد لا يتوفر بالدرجة نفسها للشركات الأخرى.
7- الاستهلاك المرن: حيث استطاعت شركات التكنولوجيا بسرعة كبيرة تحويل نماذج الأعمال الخاصة بها لاستيعاب احتياجات العملاء المتغيرة، من خلال ما يمكن تسميته بنموذج "الاستهلاك المرن" (flexible consumption) . كما توقع جارتنر (Gartner) أنه بحلول عام 2020، فإن 80% من الشركات التكنولوجية ستستند على نماذج الاستهلاك من جانب المستخدمين في تطوير البرمجيات.
تكلفة "الإرباك التكنولوجي":
تتمثل أبرز تداعيات الهيمنة الاقتصادية لشركات التكنولوجيا العملاقة فيما يلي:
1- افتقاد التنوع: حيث إن استحواذ النظم الإيكولوجية الرقمية والشركات القائمة عليها بسرعة كبيرة على نسب ضخمة من الأسواق والتعاملات التجارية بها، وكذلك تحول التدفقات المالية إليها، قد يؤدي إلى تراجع تأثير القطاعات الاقتصادية المختلفة، ومن ثم افتقاد الاقتصاد العالمي لعنصر التنوع .
2- اختلال تدفق الأموال: إذ إن تدفق الأموال أصبح يتوجه بشكل أساسي إلى القطاعات التكنولوجية. وهو ما قد يخلق ثغرات في مصادر تمويل القطاعات الأخرى، ويمكن التدليل على ذلك من خلال تباطؤ رأس المال المؤسس (Capital Seed) في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية .
3- تغيير أنماط جني الأرباح: أصبحت التكنولوجيا الرقمية هي إحدى الآليات الأساسية في جني الأرباح. وهو ما جعل من شركات التكنولوجيا وسيطًا أساسيًّا في تحقيق هذا الهدف، بل إنها أصبحت تحتكر هذه الآلية، فجميع الشركات في القطاعات الاقتصادية الكبرى أصبحت تلجأ إلى الشركات الكبري لتعظيم أرباحها، والوصول إلى قطاعات أوسع من المستفيدين. فعلى سبيل المثال، يحتاج أي تطبيق جديد مثل أوبر الوصول إلى عملائه من خلال جوجل، وهو الأمر الذي يجعل جميع الأنشطة المالية والتجارية للأنشطة الجديدة مجرد واجهة لهذه الشركات التكنولوجية الكبرى أو تابعة لها .
4- اختلال قواعد المنافسة: حيث إن نمط عمل هذه الشركات يمكنها من العمل وجني الأرباح من خلال تقديم الخدمات الرقمية للمستفيدين دون أن يلزمها بوجود مقار رسمية أو كيانات قانونية في جميع الدول التي تمارس فيها أنشطتها، كذلك فإن عدم وجودها بشكل قانوني فعلي داخل الدول قد لا يجعلها تخضع للتنظيم القانوني الذي يتم فرضه على الشركات الأخرى، وهو ما يعني اختلال قواعد المنافسة بين هذه الشركات وغيرها داخل السوق الواحد .
5- توسع الهيمنة الاحتكارية: حيث إن الممارسات الاحتكارية لهذه الشركات لم تقتصر على القطاع التكنولوجي فقط، وإنما امتد لقطاعات أخرى، حيث تسعى أمازون للسيطرة على أسواق التجزئة، في حين تسيطر أبل على غالبية سوق التوزيع الموسيقي .
6- احتكار الإعلانات الرقمية: سيطرت شركة جوجل وحدها على حوالي 49% من أرباح الإعلانات عبر الإنترنت في عام 2016، في حين ذهبت 40% من الأرباح لفيسبوك، فيما اقتسمت شركات الإعلانات الأخرى الـ11% المتبقية . كما توقع منتدى دافوس في عام 2018 استمرار سيطرة تلك الشركات حتى في ظل الإجراءات التي تتوسع الدول في فرضها، ومن أهمها الاتحاد الأوروبي.
7- تقليص الوظائف: تركز هذه الشركات على تطوير تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي والتي من المتوقع أن تحل محل ملايين الوظائف في العالم، كما أن تطوير التكنولوجيا والخوارزميات الرقمية لم يعد يستدعي الحاجة إلى الوظائف الروتينية، حيث يتم التركيز على استقطاب ذوي المهارات التقنية العالية.
8- اجتذاب الشركات التكنولوجية: على الرغم من أن الولايات المتحدة تعد من أكبر الأسواق في احتضان الشركات التكنولوجية العملاقة وشركات اليونيكورن (UNICORN)، وهي الشركات الخاصة التي تبلغ قيمتها السوقية حوالي مليار دولار أو أكثر؛ إلا أنها لا تعد الوحيدة في هذا المجال، حيث تعد الصين أيضًا موطنًا لبعض شركات التكنولوجيا الكبرى في العالم مثل شركة التجارة الإلكترونية العملاقة علي بابا (Alibaba)، ومحرك البحث بايدو (Baidu).
وتأتي أوروبا لتقدم نفسها كأرض خصبة على نحو متزايد لأصحاب المشاريع التكنولوجية. ففي بريطانيا، بلغت القيمة السوقية لشركات التكنولوجيا العملاقة مجتمعة حوالي 49.9 مليار دولار. وذلك في مقابل 27.3 مليار دولار و8.1 مليارات دولار في كل من ألمانيا وفرنسا على الترتيب، وذلك في عام 2017. وهو ما يعني أن ثمة اختلالات كبيرة قد تتشكل داخل أسواق الدول وليس على المستوى العالمي فقط، نتيجة المنافسة على جذب استثمارات الشركات التكنولوجية .
ختامًا، يمكن القول إن هناك توجهًا من جانب شركات التكنولوجيا العملاقة لتحقيق الهيمنة الاقتصادية، وهو الأمر الذي ينطوي على العديد من التداعيات السلبية على المشهد الاقتصادي العالمي، ويستدعي هذا ضرورة تبني مجموعة من المعايير والقواعد الدولية لتنظيم وحوكمة العالم الرقمي .
وبشكل عام، سوف تشهد السنوات القادمة محاولات عديدة للتصالح بين هذه الشركات والدول من أجل الاستفادة من المكاسب الاقتصادية التي تحققها هذه الشركات. وفي الوقت ذاته ستسعى هذه الشركات للحفاظ على ميزة الاستقلالية، حتى وإن تنازلت عن جزء من أرباحها في سبيل ذلك .