السياسة الخارجية الجزائرية في إفريقيا: التطورات والمحددات

Algeria's foreign policy in Africa: Developments and determinants


قط سمير

مقدمة:
تشكل إفريقيا فضاء جيوسياسيا بالغ الأهمية والحساسية بالنسبة للسياسة الخارجية الجزائرية. وقد اكتشف صناع القرار الجزائريين ذلك منذ السنوات الأولى للاستقلال. لذلك فقد شددوا على حضور الجزائر في هذا المجال على جميع الصعد. غير أن السياسة الخارجية الجزائرية في إفريقيا عرفت تحولات من حقبة لأخرى، فقد ميزها في فترة الستينيات والسبعينيات البعد الأيديولوجي في إطار الاستقطاب الاستراتيجي العالمي شديد الحدة بين الشرق والغرب. وفي منتصف السبعينيات تميزت هذه المرحلة بانفجار قضية الصحراء الغربية، والتي مثلت متغيرا جديدا يحكم السياسة الخارجية الجزائرية في مجالها الإفريقي. فقد عرفت تجند الجزائر من أجل كسب الدعم الإفريقي لموقفها بشان هذه القضية. ثم دخلت السياسة الخارجية الجزائرية في حالة من الأفول عالميا وبالخصوص في إفريقيا سيما في سنوات التسعينيات، بفعل عوامل عديدة.
لكن مع وصول نخبة جديدة للحكم بقيادة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في الجزائر عمل جاهدا على بعث الحضور الجزائري في القارة من جديد على أسس جديدة وبسبب متغيرات وعوامل مختلفة سيما الأمنية منها، وقد نجح الرئيس في الكثير من مساعيه تلك. ضمن هذا المنظور، تسعى هذه المقالة إلى تحليل عدة تساؤلات مرتبطة بالموضوع: ما هي أهم التطورات التي عرفتها السياسة الخارجية الجزائرية في إفريقيا؟ ما هي أهم المتغيرات التي حكمت السياسة الخارجية الجزائرية في إفريقيا في كل مرحلة؟ كيف تعاملت الجزائر مع التحولات الأمنية في جوارها الإقليمي المباشر؟
مبادئ السياسة الخارجية الجزائرية: ثبات في ظل التحولات
تبنت الجزائر ومنذ استقلالها سنة 1962، سياسة خارجية قائمة على عدة مبادئ رسختها الثورة الجزائرية. التي ألهمت صناع القرار آنذاك صياغة هذه المبادئ. وقد حافظت الجزائر على هذه المبادئ رغم التطورات التي حصلت في النظام الدولي من حقبة إلى أخرى. ولعل أكبر وأخطر هذه التطورات، ما يعرفه المحيط الجيوسياسي للجزائر سواء المغاربي أو الساحلي الصحراوي في الوقت الراهن، إلا أن الجزائر لا تزال تصر على إدارة كل هذه التحولات والأزمات بنفس العقيدة والمبادئ التي أفرزتها الثورة الجزائرية بداية الستينات.
تتلخص مبادئ السياسة الخارجية الجزائرية في: دعم حق الشعوب في تقرير مصيرها، عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، التسوية السلمية للنزاعات. تبلورت هذه المبادئ في إطار برنامج طرابلس في جوان 1962، المقترح غداة الاستقلال من طرف المجلس الوطني للثورة، الذي كرس التزام الدولة الجزائرية في سياستها الخارجية بمهمة الكفاح ضد الامبريالية، ومساندة الحركات التحررية في العالم. فبخصوص مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها؛ فقد ساهمت الثورة الجزائرية، في إصدار القرار الأممي رقم 1514، المتعلق بحق الشعوب في تقرير المصير والاستقلال،  وذلك في 14 ديسمبر 1960. وكان ذلك بفضل عاملين أساسيين وهما؛ أولا: جهود دبلوماسية مناضلي الخارج الذين خاضوا معارك كبيرة كان لها صدى واسعا في اجتماعات اللجنة السياسية للأمم المتحدة، في دورتها الخامسة عشرة، التي تزامنت مع أحداث 11 ديسمبر 1960، التي أكدت للعالم إصرار الشعب الجزائري على تقرير المصير، وقد وصل هذا الإصرار أروقة الأمم المتحدة.([1])
كما ضمَن بعد ذلك، كل من دستور 1976 ثم دستور 1986، مبدأي عدم الانحياز وعدم المشاركة في أي تدخل عسكري خارج الحدود الجزائرية. فالمادة 90 من دستور 1976 تنص على: “وفقا لمبادئ عدم الانحياز وأهدافه، تناضل الجزائر من أجل السلم، التعايش السلمي، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول.” وتنص المادة 89 الخاصة على عدم مشاركة الجيش الجزائري خارج الحدود الجزائرية فورد فيها ما يلي: “تمتنع الجمهورية الجزائرية، طبقا لمواثيق الأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الإفريقية، والجامعة العربية، عن الإلتجاء للحرب قصد المساس بالسيادة المشروعة للشعوب الأخرى وحريتها…”)[2](
ظلت هذه المبادئ توجه السياسة الخارجية الجزائرية، طيلة عقود بعد الإستقلال. وبفضل من مثلوا الدبلوماسية الجزائرية في ذلك الوقت، خاصة في عهد الرئيس بومدين، جعلت من الجزائر أحد أقطاب العالم الثالث بفعل خطابها الثوري، ما دفع الزعيم الإفريقي الثائر “أميلكال كابرال” إلى التصريح “إذا كانت مكة قبلة المسلمين، والفاتيكان قبلة المسيحيين، فإن الجزائر تبقى قبلة الثوار والأحرار.” لقد كان هذا فعلا، زمن العصر الذهبي للسياسية الخارجية الجزائرية.
غير أن بداية الثمانينات بدأت السياسة الخارجية الجزائرية تتراجع، لتصل إلى حد الإنكفاء على الذات مع نهاية الثمانينات بسبب نهاية الحرب الباردة والحرب الأهلية التي عرفتها. فقد طرأت تطورات على صعيد العلاقات الدولية، خاصة منها انهيار نظام ثنائي القطبية، التي ضيقت من هامش مناورة الجزائر الخارجية. وتقوقع الجزائر على نفسها، بانشغالها بأوضاعها الداخلية السياسية والأمنية. لتزداد الأوضاع تعقيدا في الوقت الراهن، خاصة ما تعلق بجوار الجزائر المضطرب، مع تبعات الربيع العربي والساحل الافريقي بأزماته المتعددة، والتزام الجزائر بشراكات استراتيجية وأمنية مع القوى الكبرى.. دفعت البعض إلى الاعتقاد بأن الجزائر قامت/عليها أن تقوم بمراجعة مبادئ سياستها الخارجية([3]) التي لم تعد تتماشى والأوضاع الدولية والإقليمية والمحلية التي تعيش في خضمها الجزائر.
تبدو الجزائر متمسكة بالإطار المرجعي الذي رسمته الثورة الجزائرية في سياستها الخارجية، رغم كل التحولات المذكورة. وذلك ما يؤكده المسؤولون الجزائريون، في كل مناسبة.([4]) فهم يتعاملون مع الأوضاع الحالية بسياسة خارجية ثابتة، ويظهر ذلك جليا فيما يتعلق بالقضيتين الفلسطينية والصحراوية، والتأكيد على الحلول السلمية بخصوص الأزمة الليبية، والتأكيد على عدم التدخل العسكري في المشاكل الأمنية التي يعرفها الجوار، خاصة ما يحدث في مالي من تمرد للطوارق وانتشار للجماعات الإرهابية..
1- أسس السياسة الخارجية الجزائرية في إفريقيا
أهمية البعد الإفريقي للجزائر على كافة الصعد: السياسية، الدبلوماسية، الاقتصادية الإستراتيجية والأمنية، ليست جديدة. فالجزائر أدركت أهمية الدائرة الإفريقية لحركتها الجيوسياسية، منذ الثورة التحريرية. أين شكلت القارة؛ قاعدة خلفية لها في سياق التضامن الثوري، الذي ساد بين دولها. فقد لعبت الدول الإفريقية، دورا مهما في الضغط (الدبلوماسي خاصة) على فرنسا؛ لإجبارها على الاعتراف باستقلال الجزائر.
تجد السياسة الإفريقية للجزائر أساساتها في الجغرافيا والتاريخ. فقد أدرك صناع القرار الجزائريين  أهمية الدعم الإفريقي منذ مؤتمر باندونغ 1955. أين أيدت الدول الإفريقية المطالب الجزائرية الشرعية. فسنوات الستينيات والسبعينيات؛ -والتي شكلت العصر الذهبي للسياسة الخارجية الجزائرية- تميزت بتكثيف حركتها في القارة الإفريقية على الخصوص. وترجمت هذه التصورات، في النصوص الأساسية للدولة والحزب الجزائريين والتي كان بعضها في غمار الثورة الجزائرية كما أشرنا. فمن خلال تحليل كلا من ميثاق طرابلس، دستور 1963، ودستور 1976؛ يمكن استخلاص عدة أسس حكمت هذه العلاقات لخصها “سليمان الشيخ” في أولا: التضامن السياسي في إطار كفاح الدول الإفريقية من أجل التحرر، ومحاربة التمييز العنصري والامبريالية. ثانيا: المتغير الأيديولوجي والسياسي كان المحدد الأساسي الذي دفع الجزائر على التركيز على إفريقيا، في سياستها الخارجية.([5])
فرغم أن النصوص الأساسية -المشار إليها أعلاه- وضعت إفريقيا في المرتبة الثالثة بعد المغرب العربي والعالم العربي، لاعتبارات هوياتية أساسا لتأكيد ارتباطها بالدائرتين الأخيرتين، التي يجمعها بها الدين واللغة.. بيد أن الملاحظ أن الحركة الدبلوماسية الجزائرية، كانت نشطة أكثر على الصعيد الإفريقي. ويمكن تفسير ذلك؛ بأن الجزائر كانت مدركة لضيق مجال حركتها عربيا ومغاربيا بسبب هيمنة مصر عبد الناصر على الشؤون العربية. فكما يلاحظ بهجت قرني، أن الفكر القومي كان مشرقيا أصلا عبر الفكر الناصري والبعثي في سوريا والعراق. فضلا عن الصراعات العربية-العربية، التي دفعت الجزائر نحو إفريقيا كمجال حركة جيوسياسي مفضل.([6]) ثالثا: وظفت الجزائر دورها الريادي في القارة الإفريقية في كثير من الأحيان مطالب اقتصادية؛ خاصة باستكمال دول العالم الثالث لاستقلالها الاقتصادي واستغلال مواردها بنفسها، وإعادة النظر في النظام الاقتصادي العالمي. والتي لاقت تأييد كل دول العالم الثالث سيما الإفريقية. من هنا تأكد للجزائر الدور الدبلوماسي الإفريقي فقد طبقت قاعدة (دولة- صوت).
تجلى النشاط الدبلوماسي الكثيف للجزائر إفريقيا في الكثير من المسائل. فالجزائر كانت من بين الدول الإفريقية القليلة، التي نفذت القرار الوزاري لمنظمة الوحدة الإفريقية الصادر عام 1965. والقاضي بقطع العلاقات مع لندن، في أعقاب إعلان روديسيا الاستقلال من طرف واحد. كما كانت الجزائر مسرحا للعديد من لقاءات منظمة الوحدة الإفريقية على مستوى القمة أو على المستوى الوزاري، وكذلك المؤتمرات الإفريقية غير الحكومية، مثل المهرجان الثقافي الإفريقي في 1969. كما لعبت الجزائر دورا نشيطا في لجنة التحرير بالمنظمة منذ نشأتها، فضلا عن أنها كانت المقر الرئيسي لعدد كبير من حركات التحرير.([7])
العلاقات المتوترة بين الجزائر والمغرب كان لها حضور كذلك في القارة الإفريقية استغلته الجزائر لصالحها. فبعد تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية بأشهر، واجهت النزاع الحدودي بين الجزائر والمملكة المغربية، بسبب توغل القوات المغربية في الأراضي الجزائرية. ومن ثمة أعلنت الجزائر عن رغبتها بأن تتكفل المنظمة، بتسوية النزاع، حيث طلب وزير خارجيتها من أمانة المنظمة في 23 أكتوبر 1963، بعد دورة عاجلة لمجلس وزراء المنظمة للبت في موضوع النزاع. واستطاعت المنظمة من خلال وساطة إمبراطور اثيوبيا “هيلاسي لاسي” أن تتوصل إلى وقف إطلاق النار، وتكوين لجنة عسكرية لمتابعة انسحاب القوات المغربية. كما شكلت المنظمة لجنة خاصة بباماكو لمتابعة النزاع في 15 يناير 1969. انتهى النزاع بتوقيع اتفاقية “ايفران” بين الرئيس الجزائري بومدين وعاهل المغرب الحسن الثاني. وفي القمة الإفريقية الثامنة في الرباط عام 1972، أعلن الملك المغربي على توصل لبلدين إلى تسوية النزاع الحدودي فيما بينهما.
تعليقات