حرب الأفكار الجديدة: تأثيرات "التضليل الرقمي" في مكافحة الغرب للإرهاب

www.elsiyasa-online.com
حرب الأفكار الجديدة:  تأثيرات "التضليل الرقمي" في مكافحة الغرب للإرهاب
كارولين سايج

أضحى الفضاء الإلكتروني بفضل ثورة المعلومات والإنترنت أحد العناصر الأساسية التي تؤثر على النظام الدولي بما یحمله من أدوات تكنولوجية قادرة على القیام بعمليات حشد وتعبئة حول العالم، بجانب تأثيراته في القیم السیاسیة وأشكال القوة المختلفة (القوة الصلبة أو الناعمة). وقد أضحى البعض یربط بینه والأمن الدولي، ولا سيما بعد توسع العديد من الدول -خاصة المتقدمة منها- في تبني الحكومة الإلكترونية، مما یعرضها لخطر الهجوم الإلكتروني. 
وتستخدم الأنظمة المعارضة للديمقراطية التقنيات الناشئة في التأثير على الجماهير، وزيادة سيطرتها على سكانها. كما تعمل دول أخرى على تقويض وتآكل ثقة الجمهور في العمليات الديمقراطية من خلال الدعاية والاستهداف الدقيق، في حين نجح عدد من الفاعلين من غير الدول -في بعض الأوقات- في تأجيج التوترات السياسية من خلال نشر معلومات خاطئة عبر الإنترنت.
وفي هذا السياق، نشر مركز الأمن الأمريكي الجديد في يونيو 2019 تقريرًا بعنوان "حرب الأفكار الجديدة: دروس مكافحة الإرهاب لمحاربة التضليل الرقمي" لـ"كارا فريدريك" (الزميلة المشاركة في برنامج التكنولوجيا والأمن القومي بالمركز)، يؤكد على أن مستقبل النظام الدولي يتوقف على تأثيرات الحملات الممنهجة التي تستهدف عقول وقلوب الشعوب. وترى الباحثة أنها غالبًا ما تستهدف النظام الليبرالي الدولي القائم والمؤسسات التي تدعمه. فضلًا عن كونها تُنذر باضطرابات جيوسياسية محتملة. 
ومن ثم سعى التقرير إلى وضع حلول وتوصيات من أجل تقويض فعالية هذه الحملات، وإحباط محاولاتها لتقويض الديمقراطيات الغربية، ومساعدة شركات التواصل الاجتماعي والحكومة الأمريكية على تطبيق الاستراتيجيات التقنية والتنظيمية والتكتيكية الأساسية التي تم تعلمها في السنوات التي تلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر، على حملات التأثير الأجنبي.
حملات التضليل:
تُعرّف "فريدريك" حملات التأثير، التي يُمكن أن تعتمد اعتمادًا كبيرًا على المعلومات المضللة والخاطئة المتعمد نشرها، على أنها الاستخدام المنظم للمعلومات لإرباك الرأي العام للسكان المستهدفين، أو تضليلهم، أو تحويلهم عن قصد لتحقيق أهداف استراتيجية. 
وترى الباحثة أن القوى المعارضة للديمقراطية المعارضة أيديولوجيًّا للأنظمة الديمقراطية هم أهم الفاعلين في حملات التأثير والتضليل الرقمي. فعلى سبيل المثال، زعم عدد من النشطاء السوفيت إبان الحرب الباردة أن الجيش الأمريكي خلق فيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز) كسلاح بيولوجي. وقد ترسّخت تلك السردية حتى منتصف الثمانينيات. وتضيف أن الصين تعمل على توسيع تكتيكاتها لخنق المؤسسات الديمقراطية في تايوان عن طريق زرع الخلاف في السياسة الداخلية لتايوان. 
وعلى جانب آخر، يؤدي الفاعلون من غير الدول -وفقًا للتقرير- مثل المنظمات غير الحكومية، ووسائل الإعلام المحلية، دورًا في المحاولات الأجنبية لتقويض المؤسسات الديمقراطية. وتزعم الباحثة أن بعضهم يتلقون تدريبات للتحريض على العنف البدني وأعمال الشغب ضد المصالح الغربية. فيما يستخدم فاعلون آخرون من غير الدول حملات التأثير على الإنترنت لتحدي مبادئ ديمقراطية معينة، مثل المعارضة وسيادة القانون. ويستشهد التقرير بجماعة "Legion Holk" وهي مجموعة ذاتية التنظيم من المتصيدين عبر الإنترنت من المكسيك، والتي تستهدف الصحفيين عمدًا، وترتبط بوسائل التواصل الاجتماعي التي تروج للعنف والنهب والاضطراب العام داخل المنطقة.
العوامل المساعدة:
يرى التقرير أنه يمكن للقوى المعارضة للديمقراطية أن تجمع بين عددٍ من التكتيكات، مثل: التضخيم، والاستهداف الدقيق لتعظيم آثار حملاتها. فقد خلص تقييم عام 2016 لنشاط الروبوت عبر الإنترنت من قبل شركة الأمن السيبراني في الولايات المتحدة إلى أن الروبوتات تشكل أكثر من 50٪ من إجمالي حركة المرور عبر الإنترنت. وتُضيف الباحثة أن الروبوتات السياسية تستهدف الرأي العام من خلال تضخيم القصص أو صرف الانتباه عن بعضها من خلال مجموعات من مستخدمي الإنترنت يقومون بتنسيق مشاركتهم مع مستخدمين آخرين بقصد مضايقة الجماهير المستهدفة أو نشر معلومات مضللة. كما يمكن لهؤلاء الفاعلين إخفاء هوياتهم، وخداع بروتوكول الإنترنت. ويمكن استغلال البيانات الوصفية التي يتم إنشاؤها بواسطة مستخدمي الأنظمة الأساسية عبر الإنترنت لأغراض تضليلية أيضًا. 



بالإضافة إلى إمكانية الاستفادة من بيانات المستخدم لأغراض الاستهداف الدقيق. وبدلًا من إعلانات المستهلكين، يتم تغذية المستخدمين بإعلانات سياسية بناءً على تفضيلهم الأيديولوجي على النحو الذي يُحدده نشاطهم على الإنترنت.
وتضرب الباحثة مثلًا بالنشطاء من ذوي الصلة بروسيا الذين استخدموا هذه التقنيات في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2016 لإطلاق حملة تأثير برعاية موسكو تهدف إلى زرع الفتنة داخل الولايات المتحدة على حد وصف التقرير. وتضيف أنه منذ عام 2016 على الأقل، استخدم الروس العاملون في شركة أبحاث الإنترنت حسابات البريد الإلكتروني (المسروقة) المرتبطة بسكان الولايات المتحدة، والشبكات الخاصة الافتراضية لتوفير وصول آمن ومشفّر أثناء نقل البيانات عبر الشبكات المشتركة. واستخدم هؤلاء العملاء أيضًا الخوادم لإخفاء مواقعهم في سان بطرسبرج لغسل الأموال من خلال عمليات التبادل عبر "PayPal" والعملة المشفرة.
أما خارج الولايات المتحدة، فيُشير التقرير إلى أنهم عملوا على تقويض التحالفات الديمقراطية، واختراق العمليات الانتخابية، مثل الانتخابات الفرنسية لعام 2017، إذ استهدف هؤلاء العملاء حملة "إيمانويل ماكرون" الرئاسية، واخترقوا شبكتها، واستخرجوا معلومات حقيقية، وزرعوا مستندات مضللة في تلك المواد.
أدوات التأثير:
ترصد الباحثة عددًا من أدوات التأثير التي تستخدمها تلك الحملات ضد مستخدمي الإنترنت في الولايات المتحدة بشكل خاص، ومنها:
أولًا- قرصنة البريد الإلكتروني والإفصاح عن المعلومات: يمكن استخدام المعلومات الحقيقية كسلاح في حملات التأثير الأجنبي، إذ يمكن للجهات الفاعلة "الخبيثة" تقويض المؤسسات الديمقراطية من خلال عمليات القرصنة والإفصاح عن المعلومات (المعلومات الحقيقية) بطريقة انتقائية تضر بمصالح الدولة. 
ثانيًا- تضخيم الاستقطاب السياسي: ترى الباحثة أن الشعب الأمريكي في الوقت الراهن منقسم أيديولوجيًّا أكثر من أي وقت مضى، وذلك على مستويات عدة، منها الدخل والتعليم، وكذلك بين الريف والحضر. ويدعم هذا الانقسام -من وجهة نظر الباحثة- نشر معلومات شديدة الحزبية في وسائل الإعلام التقليدية والاجتماعية. وترى أن التفكير التآمري يُعزز عدم الثقة في المؤسسات الحكومية ووسائل الإعلام الأمريكية، مما يخلق تربة خصبة للفاعلين الحكوميين وغير الحكوميين لزرع "الفتنة"، ونشر "الأخبار المزيفة". وتشكل وسائل التواصل الاجتماعي أرضًا خصبة لها، فمع ضعف الرقابة على وسائل التواصل الاجتماعي، بات من السهل على الجهات الفاعلة "الضارة" نشر محتوى ودعاية كاذبة شديدة الحزبية لتشكيل بيئة المعلومات. 
وبالإضافة إلى ذلك، كشفت دراسة أُجريت عام 2018 أجراها باحثون من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أن "الأخبار المزيفة تنتشر بشكل كبير وأبعد وأسرع وأوسع نطاقًا عن الحقيقية على موقع تويتر، خاصة فيما يتعلق بالأخبار السياسية. كما اكتشف تحقيق نُشر في عام 2018 من قبل صحيفة "وول ستريت جورنال" أن خوارزميات توصية يوتيوب توجه المستخدمين إلى قنوات ذات وجهات نظر حزبية ومقاطع فيديو مضللة.
ثالثًا- قرصنة واختراق البنية التحتية: وفقًا للتقرير، سعت الجهات الفاعلة الأجنبية "الخبيثة" إلى اختراق البنية الأساسية للانتخابات الأمريكية التي تتضمن قواعد بيانات تسجيل الناخبين مباشرةً، لا سيما أن الاعتماد المتزايد على المعدات الإلكترونية لإدارة الانتخابات يقدم نقاط ضعف رقمية واضحة في النظام الإلكتروني للتصويت. وقد أقرّت وزارة الأمن الداخلي الأمريكية بأن خصوم الولايات المتحدة في الخارج استهدفوا 21 ولاية في فترة الإعداد للانتخابات الرئاسية لعام 2016، ونجحت في الوصول إلى بعض قواعد بيانات تسجيل التصويت.
خمسة دورس مستفادة:
واستنادًا إلى ما سبق، قدمت الباحثة في تقريرها عدد من الدروس المستفادة من الجهود السابقة للحكومة الأمريكية لمكافحة الإرهاب لكي تسفيد منها في جهودها لمواجهة حملات التضليل المتعمد التي تستهدف ديمقراطيتها، ولا سيما مع قرب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر من العام القادم.
الدرس الأول- تحسين الأساليب الفنية لتحديد محتوى حملات التأثير الأجنبي: وذلك من خلال تحديد شركات وسائل التواصل الاجتماعي الأساليب التي تجعل منصاتها "معادية" للمحتوى الإرهابي، ثم تطبقها على الحملات التي ترعاها الدولة العدو. وتعتقد "فريدريك" أن تقييد المساحة التي يمكن أن تعمل في إطارها لها أشكال متعددة، بما في ذلك تحديد المحتوى وإزالته باستخدام تطبيقات التعلم الآلي، وتقليل عدم الكشف عن الهوية، وزيادة تقييم سلامة الحساب. ويمكن الاستفادة في ذلك من الأساليب التي تم اختبارها في مجال مكافحة الإرهاب لتقليل انتشار الشبكات الخبيثة.
الدرس الثاني- زيادة التعاون بين الشركات: يرى التقرير أن التعاون بين الشركات كان ضروريًّا لمكافحة الإرهاب، وبالمثل ينطبق الأمر على هذه المعركة الجديدة للمعلومات، ومن ثم يوصي التقرير شركات التقنية بإنشاء وتمويل اتحاد دائم بينها لاكتشاف المعلومات المزيفة، والتحرك نحو وضع معايير الصناعة بشأن ما يشكل معلومات مضللة.
الدرس الثالث- بناء شراكات بين الحكومة والقطاع الخاص من خلال تبادل المحللين: تتزايد دعوات الخبراء لهيئة أو هيكل شامل لتنسيق تبادل المعلومات، وتبسيط عمليات مكافحة المعلومات المضللة. ويؤكد التقرير أن هذه الهيئات البيروقراطية كانت ولا تزال آليات فعالة لتكامل الاستخبارات في مجال مكافحة الإرهاب. ولأن قطاع التكنولوجيا سيكون محددًا رئيسيًّا للقوة في حروب المستقبل، يمكن سد الفجوة بين القطاعين العام والخاص عن طريق تعيين خبراء من كلا القطاعين في هيئة مختصة لزيادة الاستجابة للتهديدات الإرهابية، وفي الوقت ذاته تقويض حملات التأثير الأجنبي.
ومن ثم يجب على الحكومة الأمريكية التنسيق مع القطاع الخاص لتشكيل هيئة من ممثلي الوكالات المشتركة لإنشاء وتمويل خلايا تدمج محللين من القطاعين العام والخاص طوعيًّا لمعالجة تهديدات الحملات الأجنبية الخبيثة في المجال الرقمي.
الدرس الرابع- استمرار الضغط: تشدد الباحثة على أهمية أن تستفيد الولايات المتحدة من تجربتها في الحرب على الإرهاب من خلال اتخاذ موقف هجومي استباقي، وتخصيص الموارد اللازمة لإبقاء الخصم مدافعًا دائمًا، وتجبره على تحويل الموارد إلى الدفاع والحد من الهجمات. لذا يوصي التقرير الحكومة الأمريكية بأن تتوسع في استراتيجية الأمن السيبراني للقيام بعمليات إلكترونية عاجلة وفعالة تفرض تكاليف على الخصوم.
الدرس الخامس- الاستفادة من خبرات حلفاء الولايات المتحدة: تقول "فريدريك" إن حلف الناتو كان عضوًا مهمًّا في التحالف الدولي لهزيمة تنظيم "داعش" الإرهابي، كما أسس خلية الاستخبارات الإرهابية لمشاركة المعلومات في مقره الرئيسي في بروكسل. وتقوم 38 دولة بالإضافة إلى الولايات المتحدة بتزويد قواتها بعملية دعم القرار في أفغانستان لمواجهة التهديد الإرهابي. وهذا التعاون الدولي أسفر بشكل كبير عن نجاح العمليات الأمريكية ضد الإرهاب، ومن ثم يمكن الاستفادة من هذا الدرس في عقد تحالف بين واشنطن وعدد من الدول الديمقراطية لتبادل أفضل الممارسات من تجربتهم الخاصة في مواجهة الحملات الأجنبية، والعمل بها.
وختامًا، يوصي التقرير بضرورة أن تتعاون شركات التكنولوجيا، والجهات السياسية والقانونية والاقتصادية الأمريكية، للحفاظ على الإيمان بالمؤسسات الديمقراطية التي تسعى القوى المعارضة للديمقراطية إلى تقويضها عبر عمليات ممنهجة للتأثير على الرأي العام الأمريكي.
المصدر: 
Kara Frederick, “The New War of Ideas Counterterrorism Lessons for the Digital Disinformation Fight”, Center for a New American Security, June 2019.

تعليقات