الشباب والنزاعات السياسية |
د.عدنان الأمين
شهدت البلدان العربية تظاهرات عارمة في العام 2011 من أجل تغيير النظام، وهو ما سُمّي بـ"الربيع العربي". وما لبثت الأمور أن انقلبت إلى حروب أهلية في بعضها، وشكّل الشباب الحشد الأساسي فيها وبخاصةٍ حمَلة السلاح. ونحن في لبنان خبِرنا مثل هذا الانتقال من الحراك المدني للشباب ما بين الستينيات ومنتصف السبعينيات، إلى الحراك العسكري عند اندلاع الحرب الأهلية، من المواجهة بين الشباب والدولة إلى المواجهة بين الشباب من هنا والشباب من هناك على جهتَي خطوط التماس.
منذ سنوات قليلة، ومع انقلاب الوضع في البلدان العربية المجاورة، لم يعد الشباب اللبناني بمنأى عن النزاعات المسلحة، وعن شعاراتها ومحفّزات الانخراط فيها. وقد تبدّى ذلك إمّا من خلال انتقال أفواج من الشباب إلى سوريا للمشاركة في القتال، أو من خلال أحداث شهدتها طرابلس أو مناطق أخرى لم تكن سوى صدًى لما يحصل في سوريا.
إنّ النزاع في سوريا دفع أكثر من مليون سوري للنزوح إلى لبنان، والعيش في ظروف اقتصادية صعبة ومواقف سياسية مكبوتة. علمًا أنّ الشباب من عمر 15-25 يشكّلون 16% من النازحين السوريين[1]. لم تشهد تجمعات النازحين السوريين بعد مرور عدة سنوات على النزوح، نزاعات مسلحة بين بعضهم البعض. لكن هذا لا يعني أنّ احتمالات اندلاع مثل هذه النزاعات وامتدادها إلى المحيط غير قائمة. يتعلّق الأمر بتوافر شروط هذه النزاعات، واستعداد الشباب للانخراط فيها.
قبل ذلك، ومنذ احتلال العدو الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية في العام 1948 استقبل لبنان اللاجئين الفلسطينيين. وصارت المنظمات الفلسطينية أحد محاور الحرب الأهلية لاحقًا. يضم لبنان اليوم 174,422 فلسطيني، في المخيمات وخارجها. ويشكّل الشباب 20.6% منهم[2]. وهي نسبة قريبة جدًا من نسبة الشباب اللبناني (19.8%)[3]. وما زالت بعض هذه المخيمات مكانًا رحبًا للنزاعات المسلّحة المتنقلة في الزمان والمكان، أبطالها أيضًا شباب تدفعهم ظروف الفقر وصراعات النفوذ بين الفصائل السياسية للانخراط فيها. آخرها كان في مخيم المية ومية في العام 2018.
ثمة قضيّتان هنا:
1) نزاعات سياسية ذات أبعاد عسكرية على أشدّها في المنطقة العربية عمومًا وفي الجوار خصوصًا، تتشابك مع نزاعات بين الجماعات السياسية اللبنانية.
2) الشباب هم المخزون الذي تنهل منه النزاعات.
لست هنا بصدد البحث في القضية الأولى، بل في موضوع الشباب، بصفته مخزونًا للتغيير، عن طرق الانخراط في النزاعات السياسية في وجهها العسكري أو عن طريق الإبداع، أو غيرهما من الطرق، ومخزونًا للمستقبل المتطوّر أو المتخلّف. هو بحث عن الشباب وشروط ذهابه في هذا الاتجاه أو ذاك.
أولًا: ملامح الشباب
"الشباب" مفهوم يعبّر عن واقعة اجتماعية حديثة تاريخيًا، هو نتاج الحداثة، رغم أنّ الفئة العمرية التي يمكن أن نعتمدها للشباب اليوم (15-24 أو غيرها) كانت دائمًا موجودة، منذ نشوء البشرية.
الشباب بدرجة الصفر
تفيد الدراسات الأتنولوجية أنّ المجتمعات البدائية كانت تجعل من البلوغ حدًا فاصلًا بين الطفولة والرشد عن طريق طقوس التأهيل initiation rites، التي تعني، من جملة ما تعني، أنّ المجتمع يتكوّن من فئتين فقط لا ثالثة لهما: الأطفال والراشدين[4].
إذا تصفّحنا كتاب دوركهايم حول "التطوّر البيداغوجي في فرنسا"[5]، الذي يبتدئ فيه باليونان صعودًا حتى عصره (توفي في العام 1917) فلن نجد فيه أثرًا لمصطلح الشباب، لا مباشرة ولا مداورة. وكما لدى دوركهايم، كذلك لدى ابن خلدون (توفي في العام 1406)، الذي يتابع فيه تطوّر العمران واختلافه بحسب البلدان، فأنت لن تجد في كل مقدمته كلمة شباب.
إنّ مفهوم الطفل والطفولة أيضًا، قد تبلور في الغرب حديثًا منذ القرن السادس عشر، كما كشف ذلك فيليب أرييس في كتابه المعروف "قرون من الطفولة"[6]. مفهوم الشباب بدأ بالظهور بعد مفهوم الطفولة مع الابتعاد التدريجي بين عمر البلوغ الجسدي وعمر الرشد adulthood الذي يتزوّج فيه المرء ويمارس الأبوّة أو الأمومة ويعمل. ارتبط هذا الابتعاد بانتشار التعليم، وبقاء المزيد من الطلاب في المدرسة وصولًا إلى الجامعة، مع قضاء أوقات أطول فأطول بعيدًا عن الأبوين، بخلاف ما كان عليه الحال سابقًا[7]. وقد حدث ذلك أيضًا في وقت ارتفعت فيه متطلّبات سوق العمل من المهن القائمة على مزيد من التخصص.
شباب الشغب
إنّ تعبير "المراهقة" هو الذي استُعمل أولًا. فهناك من يدّعي أنّ اختراع مصطلح "المراهقة" تمّ في الوقت نفسه مع اختراع الآلة البخارية، تلك مع روسو (1762) وهذه مع واط (1765)[8]، لكنّ الإجماع حاصل على أنّ المراهقة كمفهومٍ هي بنت القرن التاسع عشر، بل بنت نهاية ذلك القرن مع ستانلي هول (توفي في العام 1924) الذي وصف المراهقة بأنّها مرحلة عاصفة وقلق Storm and Stress [9]. وقد حدث ذلك في فترة ظهرت فيها أشكال من العنف في أوروبا مرتبطة بظروف العالم الصناعي، أخذت أحيانًا شكل عصابات وجرائم، وأُلصقت بأبناء الطبقة العاملة، وهذا ما دفع جيفري بيرسون إلى اعتبار أنّ أول إطلالة للشباب أخذت شكل الشغب troublesome youth, youth-as-trouble [10].
بإمكاننا التعرّف إلى شباب الشغب في الكثير من بلدان العالم، اليوم وبالأمس. لكن تُعدّ أحداث شهر أيار من العام 1968 في فرنسا أقوى مثال عليه. ابتدأت بإضراباتٍ طالبية عارمة ما لبث أن انضمّ إليها العمال والاشتراكيون والشيوعيون، في أكبر إضراب شهدته فرنسا في تاريخها الحديث. وقد أدّت تلك الأحداث إلى حلّ الجمعية العمومية، وإلى إصلاحات جوهرية في التعليم العالي وغيرها من القطاعات في فرنسا. وقد أطلقت الاحتجاجات حركة فنية، شملت الأغاني والغرافيتي والملصقات والشعارات.
إذا كان تعبير "الشغب" ما زال مستعملًا هنا وهناك، فإنّ تعابير مثل "النضال" (اليساري) و"الاحتجاجات والمظاهرات"(الذي تستعمله وسائل الإعلام)، أو تعبير "الحراك المدني" (الذي بدأ يروَّج عالميًا)، هي تعابير تحمل الدلالة نفسها، دلالة الضغط الذي يمارسه الشباب على الدولة والمجتمع ومحاولة التغيير عن طريق الظهور الجماهيري السلمي في الشارع.
شباب اللهو
بعد الحرب العالمية الثانية، شهدت أوروبا وأميركا ما يُسمّى بـ"طفرة المواليد" baby boom واستُعمل آنذاك تعبير "العشريون" Teenagers. وما لبث أن استُعمل لاحقًا تعبير "الجيل إكس X"[11]، وهو الذي ساد خلال عقود لوصف هذه النزعة من نزعات الشباب. استُعمل التعبير من قبل علماء سكان وأنتروبولوجيا وروائيين ومصمّمي المعارض وألبومات الصور،... وقد تفاوتت الحدود الزمنية لظهور هذا الجيل، بدءًا من العام 1961 حتى العام 1980 [12]، وهي الفترة نفسها التي شهدت معدلات طلاق عالية وصلت إلى ذروتها في العام 1980في البلدان المعنيّة. كان الحرف X يعني المتغيّر المجهول (كما في معادلات الرياضيات). وتمّ التعبير عن تمرّد شباب هذا الجيل على السلطة التقليدية بواسطة الفن، وبخاصةٍ الرقص والموسيقى والغناء (البانك روك، الروك أند رول، موسيقى الجرونج، الهيب هوب،...). وسُمّيت هذه النزعة بشباب المرح (Youth-as-Fun)[13]. كما تجسّد تمرّد الشباب في ما سُمي بالثورة الجنسية (حرية الحب، الحق بالإجهاض، المثلية الجنسية، الحركة الهيبية)، واقترن بحركة تحرير المرأة وحركة المساواة بين الأعراق.
شباب المسؤولية
بعد الجيل إكس (X) استُعمل تعبير الجيل واي(Y) الذي عنى شباب الألفية الجديدة، لكن سرعان ما شاع تعبير الجيل زد (Z)، الذي ظهر من استقصاء أجرته جريدة يو أس إي تودي (USA Today) في العام 2012.
أمران أسهما في تميّز الشباب الذين وُلدوا بعد منتصف التسعينيات في الولايات المتحدة، مقارنة بالجيلين السابقين:
الأول هو تكنولوجيا الاتصالات بما فيها وسائل التواصل الاجتماعي. فقد استُعملت تعابير أخرى لتسمية هذا الجيل، معظمها يُحال إلى هذه التكنولوجيا (IGeneration, Gen Tech, Net Gen, Digital Natives, Plurals, Data Generation, Delta etc.)، تمامًا، مثلما أصبح الاسم الشائع للهاتف آي فون (iPhone)، علمًا أنّ تعبير دلتا Delta يشير إلى التغيّر واللايَقين في العلوم والرياضيات.
أما الثاني فهو اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر 2001. فمع أنّ هذا الحدث غير موجود في ذاكرة أبناء هذا الجيل المباشرة، لأنّ معظمهم بالكاد كان قد وُلد في هذا التاريخ، إلّا أنّه ترك فيهم بصورةٍ غير مباشرة شعورًا بعدم الأمان. وكذلك الأزمة الاقتصادية التي عزّزت هذا الشعور في أميركا (2008)، ما أدّى إلى الانخراط في نوع من المسؤولية الاجتماعية، بخلاف الجيل إكس (X).
يصف تقرير بعنوان "الجيل زد (Z) يذهب إلى الجامعة" أبناء هذا الجيل بأنّهم "موالون، متعاطفون، مكترثون، منفتحون ذهنيًا، مسؤولون، ومصممون"، فضلًا عن أنّهم "ملتزمون بمن حولهم ومتحمسون لإحداث الفرق"[14]. لذلك تصحّ فيهم تسمية "الشباب المسؤول" أو "الشباب الملتزم".
شباب المأساة
تعبير "المأساة" يُحال إلى الشعور العميق بالأسى والخسارة أو الصدمة نتيجة الموت المفاجئ. لا يوصف موت رجل مُسنّ بالمأساة لأنّه متوقّع. لكن المأساة تبلغ أوجها في موت الشباب، لأنّ الشباب مفعم بالحب والحياة. وقد تعلّق الجمهور وبكى مع الأفلام والروايات والمسرحيات التي تنتهي بموت الأبطال في عز سن الحب. موت الشباب مأساوي في الواقع والخيال الأدبي على السواء. والبطل، في الحقيقة أو في الخيال الروائي، يموت وهو يقوم بواجبه أو يُنجز مأثرته. والرحلة التي جوهرها الانتقال إلى مستقبل موجود في مكان آخر، تجسيدًا لفكرةٍ معيّنة يجسّدها البطل أو الشباب[15].
لم أجد مفهوم "شباب المأساة" متداولًا في الأدبيات. وأظن أنّه يصحّ إطلاقه واستخدامه ليس لأنّ موت الشباب هو مأساة فحسب، بل لأنّ هذا الموت يتمّ عن طريق قتل يمارسه شباب آخرون. شباب المأساة هو ما بين قاتل ومقتول، بطل وشهيد. هذا، غير الانتحار الفردي الذي يُعزى لأسبابٍ نفسية وينتشر أيضًا عند الشباب أكثر من أي فئة عمرية أخرى. وهو غير إطلاق النار الذي يقوم به أفراد على مجموعة من الناس كطلاب مدارس، جمهور سينما، ومتعبّدين، والمنتشر بكثرةٍ في الولايات المتحدة الأميركية. الفرق بين الاثنين أنّ الحافز أيديولوجي في شباب المأساة وهو فردي - نفسي في الانتحار أو إطلاق النار على الحشد mass shooting.
يمكن متابعة شباب المأساة في ثلاثة أشكال من الحضور. الأول، عندما ظهرت مجموعات شبابية ثورية تستعمل السلاح من أجل تغيير النظام السياسي في سبعينيات القرن الماضي، كما كانت الحال مع التوباماروس في الأوروغواي، والألوية الحمراء في إيطاليا، ومجموعة بادر مينهوف الجيش الأحمر في ألمانيا وغيرها. والشكل الثاني هو القائم على الهوية، كما هي الحال في الصراعات المحلية العرقية في أميركا بين السود والبيض، وأفريقيا أي الصومال، راوندا، بوروندي، الكونغو، والدينية في إيرلندا، والطائفية في لبنان. والشكل الثالث والأحدث تاريخيًا ذو طابع عالمي، انطلق مع اعتداء الحادي عشر من أيلول 2001، الذي كان أبطاله 19 شابًا، جميعهم غير أميركيين جاؤوا من الدول العربية (15 سعوديًا، ومصري ولبناني واثنان من الإمارات العربية المتحدة). وقد ذهب ضحية هذا الاعتداء، الذي أعلن تنظيم القاعدة المسؤولية عنه، حوالى 3000 شخص. ثم أصبح الإرهاب والتنظيمات المتطرفة هما التسميتان الشائعتان لهذا الشكل من المأساة التي كان الشباب أبطالها. وظهرت أسماء عدة تنظيمات من هذا النوع أشهرها "داعش"، التي طاولت عملياتها هي والقاعدة مناطق متعددة في العالم كأوروبا وأميركا مع تمركز في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، سوريا، العراق، اليمن، ليبيا والصومال.
ثقافة الشباب
لقد استعملت الأدبيات الأميركية تعبير "جيل" لوصف التطوّر الذي حدث في نزعات الشباب بين الستينيات ونهاية القرن الماضي وبداية القرن الحالي إلى اليوم. لكن هذه التطوّرات لا تعني أنّ نزعة من هذه النزعات حلّت محل الأخرى تمامًا. إنّها تعني أنّ واحدة منها كانت ظاهرة بصورةٍ أقوى مقارنة بالحالات الأخرى.
إنّ هذه النزعات ليست متماثلة القوة والظهور في الحقبة نفسها في عدة بلدان أو في مناطق أخرى من البلد نفسه، فما حدث في أميركا لا يشبه بالضرورة ما حدث في بلدان أخرى. يقول إنّ الأمر يختلف بين البلدان، وبين الطبقات الاجتماعية وما بين المدينة والريف، فيمكن تخيّل استمرار عدم وجود الشباب في مجتمعات كثيرة أخرى، في مناطق ريفية في آسيا وأفريقيا، حيث يتمّ الزواج في سن مبكّر، وتُترك المدرسة باكرًا أو لا يتمّ الالتحاق بها أصلًا. كذلك، فإنّ الانتقال من نزعة إلى أخرى أمر ممكن. مثلما هو حال الانتقال من اللامبالاة إلى المأساة، لأنّ اللامبالاة قد تكون ناتجة عن عنف سياسي[16].
فكرة الجيل فكرة خصبة إذا ما نظرنا إلى ما حدث في الماضي من جيل إلى جيل، وهي خصبة أيضًا إذا ما تأمّلنا في أحوال الشباب اليوم، باعتبارهم جيل المستقبل. لكن جيل المستقبل يجب النظر إليه من زاوية نظر ما نسميه فئة الشباب ضمن بنية المجتمع ككلٍ. يجب النظر إلى الفئة العمرية الشبابية باعتبار أنّها تضمر وجودًا مستقلًا، كأنّها شريحة اجتماعية لها ثقافتها الفرعية الخاصة بها.
أستعير تعبير الثقافة الفرعية sub-culture من رالف لنتون، الذي ميّز بين الثقافة التي هي روح المجتمع والثقافة الفرعية التي تخص أصحاب المهن. تتكوّن الثقافة والثقافة الفرعية من مجموعة من العناصر: اللغة، القيم والمعتقدات، أنماط السلوك والتقاليد والرموز،...[17]. وهذه العناصر تنطبق جميعها على الشباب. من جهته، قدّم تالكوت بارسونز بعض سمات ثقافة الشباب، منها تَشَاركهم في ما هو مختلف عن أهاليهم، ورغبتهم العارمة في الاستقلال عنهم بل رفضهم لثقافة الراشدين، ونَزْعتهم نحو معاداة النشاط الفكري anti-intellectualism [18]. ونفهم هذه النزعة مع قول هيبديج بأنّه يمكن النظر إلى الشباب كما يُنظر إلى العلاقة بين التابع والمسيطر، والمسيطر هنا هم الراشدون[19].
وقد ذكر المتابعون لموضوع الشباب كثقافةٍ فرعية أنّه مصطلح حديث صاحب ظهور مصطلح شباب المرح. يقول بيتر لويس[20] إنّ ثقافة الشباب ظهرت في مطلع الخمسينيات، مع تطوّر موسيقى الروك أند رول Rock and Roll، وما تلاها من فنون موسيقية شبابية[21]. تتكوّن عناصر هذه الثقافة من رموز، وأنماط من اللباس واللغة والفن وأساليب عيش المجموعات.
تشكّل المجموعات المكوَّنة من الأقران، الخلية الصغرى للحياة الشبابية والتي تتّصل بباقي الجيل عن طريق الأنماط التي تميّزهم في عدة حقول مثل الموسيقى والرقص واللباس والاحتفالات والفرق الرياضية والمغامرات على أنواعها، والرحلات. ويمكن رصد عناصر هذه الثقافة في المدارس الثانوية والجامعات والحانات الليلية والحفلات العامة والاحتفالات الخاصة والمباريات الرياضية، والمظاهرات على أنواعها.
مع التكنولوجيا، توسّعت المساحات التي ينضمّ إليها الشباب ويمارسون فيها ثقافتهم، لكأنّها صارت ثقافة فرعية عالمية. لقد دخلت المساحة الخارجية بقوةٍ في ثقافة الشباب المحلية. هذه المساحة تضمّ رفاقًا عن طريق الإنترنت من خلال الدردشة والتجمعات الشبابية الإقليمية والدولية، وعن طريق نماذج الاقتداء التي تضمّ أشرارًا أو أبطالًا، جميلات أو عارضات أزياء، علماء أو مهندسين أو رجال دين، ممثّلي سينما أو مطربين، وغيرهم. ولم تعد موسيقى السود في أميركا خاصة بهم ولا بالبيض في ذلك البلد، بل انتشرت عبر العالم، ولم تبقَ لعبة مثل كرة السلة أو الاتحاد الوطني لكرة السلة N.B.A. في أميركا مقتصرة على أميركا... وفي الوقت نفسه يحصل تمرّد الشباب ليس ضد الراشدين والسلطات المحلية فقط، بل ضد جهات خارجية تُعدّ مراكز للسلطة العالمية. فبعض الشباب منخرط في متابعة كرة السلة الأميركية ونجوم الفن فيها، والبعض الآخر منخرط في الحرب على أميركا، كجزءٍ من معاداته لمجمل النظام العالمي. وكل لديه مزاجه وروايته. وأصبحت الحدود بين الثقافة الفرعية والثقافة المضادة counter culture صعبة الرصد أحيانًا.
الميزة الأساسية لثقافة الشباب هي أنّها غير امتثالية، وهي بالتالي منجم للبدائل وإقبال لاحقًا على التغيّر الاجتماعي. بل تجري معاقبة الامتثاليين الملتزمين بالواجبات المدرسية وتنفيذ تعليمات المعلمين والأهل، عن طريق إقصائهم والتهكّم عليهم وإطلاق النعوت عليهم. وبغضّ النظر عن مدى تقدير خطورة ما يقوم به الشباب من وجهة نظر الراشدين أو وصفهم بالرعاع، فيمكن القول إنّ النزعة إلى التغيير في المجتمع هي إرث شبابي، يمارسها الشباب بطريقةٍ قد تكون مستنكرة من قبل الراشدين، ثم ما يلبث الراشدون اليوم الذين كانوا بالأمس شبابًا أن يمارسوها ضمن النظام أحيانًا، أو ضده أحيانًا أخرى، مستعينين بالجيل الجديد من الشباب في سبيل تحقيق أهدافهم.
ثانيًا: الشباب العربي
لا زالت هناك مناطق جغرافية كبيرة في العالم العربي ترتفع فيها نسبة الأمية إلى ما فوق الـ50% ويحصل فيها الزواج في وقت مبكّر، وهي عمومًا مناطق ريفية ومحافِظة. فيها يُستدل على غياب الشباب في حالاته المذكورة، إلّا إذا انضم بعض مَن هم في سن مبكّر (منذ عمر العاشرة أحيانًا إلى شباب المأساة بسبب الفقر). وقد يكون اليمن اليوم حافلًا بالظاهرتين معًا.
يمكن الاستدلال على شباب المرح في البلدان العربية في شكلَيْه: المرح كصدًى للنموذج الغربي، والمرح كإبداعٍ داخل الثقافة الشعبية.
صدى مرح الشباب الغربي لدى الشباب العربي أظهرته أفلام السينما والروايات في المدن العربية. وهو يخص على الأرجح أبناء الطبقات الوسطى والعليا. وهو لم يكن موضوع إشهار ودراسات لأنّه مجرّد صدى، أو تفاعل مع الرقص والموسيقى والغناء والأزياء، وسائر الفنون الشبابية الغربية التي بدت جميلة في أعين أبناء هذه الطبقات تستحق المحاكاة.
أما المرح الشعبي فقصته مختلفة، بل هو مناقض أو معاكس للمرح البرجوازي العربي. تقدّم لنا بيترسون عرضًا غنيًا لمثالٍ عن هذا المرح وهو أغاني المولد في مصر. هناك عدة أمثلة عن شباب يمارسون الرقص والغناء ارتجالًا ويستخدمون حركات مأخوذة من الرقص الشرقي البلدي، الفنون الحربية، التمثيل الجسدي التعبيري الصامت، البريك دانس break dance، والتحطيب الذي هو أداء حركي صعيدي...، وتصفه بـطاقةٍ شبابية مبدعة[22].
الطابع الشعبي لهذا المرح يظهر في أنّه يتمّ في الأفراح (الخطبة، الزواج،...) وبخاصةٍ الحفلات التي تجري في الشارع، حيث الزحمة، وحيث يتجمع أفراد العائلة والشباب والبالغون والصغار. ويظهر في أنّه ينهل من الصوفية واستحضار الولي والسيرة الهلالية والموشّحات الدينية. كما يظهر في أنّ الراقصين-المغنين ذكور فقط. وأخيرًا هو فن معياري أخلاقي، حيث يذهب نص الأغنية إلى غواية الشيطان حول متع الدنيا كالخمرة والجنس ولعب القمار لينتهي بأن يقرّر العبد أن "يزور النبي ويعود للصلاة ويتوب، مخاطبًا هذا الشيطان قائلًا: "وما دام هارجع أصلّي، مش هتعرف توصل لي، والناس بقى تتعلم، من كل اللي حصل لي"[23]. وكلها سمات تتفق مع ما وصفه بورديو بالذوق الشعبي[24]. ومن هذا القبيل تنقل المؤلفة عن شاب آخر يأنف فيه من هذا "الفن البلدي الرخيص...الذي يردّد أي هراء"[25]، تمامًا كما يصف بورديو استنكار أصحاب الذوق البرجوازي للذوق الشعبي. وفي موضوع المرح والفقر يقول محمد صالح بلطي (أحد مغني الراب من المناطق الشعبية في تونس) "عندما تنشأ في منطقة فقيرة كهذه وسط الجريمة والبطالة والكحول والمخدرات لا يبقى أمامك سوى خيارين: إمّا أن تصبح مجرمًا، أو تجد مخرجًا من هذه الظروف من خلال الموسيقى أو الرياضة"[26].
أما شباب الشغب فهو أقوى حالات الشباب ظهورًا في المنطقة العربية حتى العام 2011 ضمنًا. يمكن الاستدلال عليه من المظاهرات الطالبية التي انتشرت فيها خلال ثلاثة عقود من الخمسينيات حتى السبعينيات وهي كانت موجّهة قوميًا، أي تأييدًا لقضايا عربية (قضيتا فلسطين، والجزائر قبل استقلالها). بعد أن شهدت قبلًا مظاهرات وطنية مطالبة بالاستقلال. لاحقًا، تحوّل المشهد إلى مظاهرات صاخبة احتجاجًا على قضايا داخلية مطلبية ونقابية وسياسية. وفي مصر قُدّر مثلًا عدد الذين ساروا في انتفاضة 18 و19 يناير في العام 1977 بما لا يقلّ عن 7 مليون شخص. وفي هذا البلد شكّل ظهور حركة "كفى" في العام 2004 ظاهرة فريدة. وقد لاقت الحركة صدًى واسعًا بين المثقفين ووسائل الإعلام، مصريًا وعربيًا وعالميًا. وفي كتاب "سِيَر عشر جامعات حكومية عربية"[27] شواهد كثيرة على شباب الشغب والنضال والاحتجاجات بالترتيب نفسه، من تحركات وطنية وقومية إلى تحركات احتجاج ضد الحكومات والأنظمة في بيروت ودمشق والخرطوم وليبيا واليمن وتونس، وغيرها.
كان لا بد من الانتظار حتى العام 2011، حتى يتحوّل ما يقوم به شباب الشغب في كل من مصر وتونس إلى ظاهرة تفوق الوصف في قوتها وفعاليتها. وقد أسهمت وسائل التواصل الاجتماعي مساهمة فعّالة في التحريض والتنظيم[28]. وهي أدّت كما هو معروف إلى الإطاحة بالحكام في البلدَين. ثم جاءت المظاهرة المليونية الضخمة في مصر (قيل فوق العشرين مليون) في 30 يونيو 2013 في الذكرى السنوية الأولى لانتخاب محمد مرسي لتطيح بحكم الإخوان المسلمين في مصر. وعلى منوال حركة "كفى" في مصر ظهرت حركات جنينية تحمل الاسم نفسه أو ما يشبهه "كفى، كفاية، خلاص" في كل من فلسطين وتونس وليبيا واليمن، وكذلك في الأردن "ذبحتونا".
والتواصل بين نزعتَي الشغب والمرح قائم. ففي مصر ذاعت أغاني الشيخ إمام في الستينيات والسبعينيات. وفيها تهكّم على السلطات وإبراز للامساواة الاجتماعية. وفي العام 2011، تكاثرت في ميدان التحرير الفنون كالغرافيتي والأغاني والاسكتشات والموسيقى[29].
في العام نفسه (2011)، خرجت مظاهرات سلمية في كل من سوريا وليبيا، رافعة الشعار نفسه الذي رُفع في تونس ومصر "الشعب يريد إسقاط النظام "شباب الشغب". لكن بدل أن يسقط النظام سقط المجتمع في البلدَين وفي اليمن في أتون حرب أهلية، لم تنتهِ حتى اليوم (2019). والحرب الأهلية تعني اندراج المتقاتلين في جماعات على أساس الهوية المذهبية والعشائرية. هكذا انتقلنا من شباب الشغب إلى شباب المأساة.
كانت بداية شباب المأساة في تسعينيات القرن الماضي في الجزائر، مع موجة عنف أهلي، ذهب ضحيتها عشرات الألاف. وفي صلب هذا العنف شعارات إسلامية رفعها "الأفغان الجزائريون" العائدون من حرب أفغانستان بقيادة ما لا يقل عن اثني عشر أميرًا بعد تدخّل الجيش لإلغاء نتائج الجولة الأولى من الانتخابات التي فازت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ في يناير 1992. وفي تلك الفترة ظهرت منظمة القاعدة.
أما الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) التي ظهرت ابتداءً من العام 2014، فتفوّقت على المنظمات السابقة جميعها في استقطاب حشد من الشباب العربي وغير العربي في مدى زمني قصير، ليشاركوا في حمل السلاح وقتل المدنيين وذبحهم داخل سوريا والعراق وخارجهما[30].
لقد كتبت مقالات كثيرة عن سبب إقبال الشباب على الالتحاق بداعش، استخرجتُ منها ثلاثة أسباب رئيسية:
أ- وجود رواية:
عنوان الرواية: الخلافة الإسلامية، وهي تقول إنّ العالم المعاصر مليء بالكفر والظلم والعنصرية، والمتهمون هم أميركا وأوروبا واليهود والمسيحيون عمومًا في ظلمهم للمسلمين، والحكام العرب المسلمون في ظلمهم لشعوبهم، وإنّ البديل هو تهديم الدول الحالية وبناء الخلافة الإسلامية على أنقاضها. والطريق إلى ذلك، اعتماد الأسلوب الذي سلكه أبو بكر الصدّيق إثر تسلّمه الخلافة بعد الرسول وبدء الارتداد عن الإسلام، وأسلوب الذبح بالسيف بلا هوادة لبثِّ الرعب في نفوس الآخرين. الرواية كاملة وبسيطة، إذ تنتقي من التاريخ الإسلامي والفقه ما يناسبها وتعمّمه على ظروف معاصرة، وتقدّم خطابًا سطحيًا يحوّل الصراع إلى ما يشبه روايات الخيال العلمي الموجّهة إلى الأطفال والشباب، التي يقتل فيها الأبطال المؤمنون الأشرار الكفار. ولكلٍ رموزه وشعاراته. فداعش ليست مؤسسة فقهية تجتهد في شؤون الدين. هذه الرواية استخدمتها منشورات تنظيم داعش الورقية والإلكترونية، كما استخدمها الدعاة في المساجد وأماكن تجمعاتهم لتجنيد الشباب الذين يقومون بدورهم بدعوة بعضهم البعض (الأقران) للانضمام إلى متابعة الرواية، تمهيدًا للانخراط في التنظيم.
تقع الرواية بمفاعيلها في باب الصراعات السياسية أو الأيديولوجيا السياسية[31]. وهو باب يشمل الروايات الأخرى المتصارعة، بين داعش وغيرها من المنظمات السياسية، السنية والشيعية. فقد تمّ تجييش فئات من الشباب اللبناني للمشاركة في الحرب في سوريا تحت شعارات مثل "حماية المقامات الشيعية في سوريا" أو "لن تسبى زينب مرتين". وأفتى السيستاني المرجع الشيعي العراقي بحمل السلاح والتطوّع في الحرب ضد الإرهاب، معدًا إيّاها حربًا مقدسة، ومن يُقتل فيها فهو شهيد[32].وقد ركّز تنظيم داعش عملياته في سوريا والعراق ضد الدولة والقرى والبلدات والتجمعات الشيعية والعلوية. وفي لبنان استهدف التنظيم، فضلًا عن الجيش اللبناني[33]، التجمعات السكانية الشيعية والسفارة الإيرانية.
ب- الفقر:
الفقراء ليسوا قلة في هذا العالم. قد تكون فرضية أنّ الملتحقين بداعش يأتون من بلدان ذات ظروف اقتصادية متفاوتة، قابلة للتصديق[34]، إذا أخذنا بالاعتبار جاذبيتها للشباب المشار إليها أعلاه. لكن التقارير كافة تفيد بأنّ الفقر هو المنجم الأساسي لتجنيد المقاتلين في داعش. وقد تسنّى لها ذلك من خلال الإغراءات المالية التي تقدّمها للشباب في المناطق الفقيرة. كانت قدرات التنظيم المالية كبيرة، وهذا ما ميّزها أيضًا عن القاعدة. يقال إنّ الرواتب التي كان تنظيم داعش يدفعها للمجاهدين الجدد تساوي أكثر من أربعة أضعاف ما يتقاضاه عسكري عادي في دولة فقيرة، وتقدّم حتى ألف دولار أميركي كراتبٍ شهري لتجنيد شباب من بلدان يتقاضى فيها بعض أقرانهم دولارًا واحدًا في اليوم مثل تشاد ومالي والسودان[35]. ويقال إنّ راتب شهر لامرأة من تونس أو المغرب تشارك في جهاد النكاح في سوريا كان يساوي دخلها في بلدها لمدة سنة.
ج- الغواية الذكورية:
من المعروف أنّ التنظيمات المسلحة، بما في ذلك العصابات تجذب الشبان الذكور المهمّشين، لأنّها توفّر لهم هوية فيها قدر من القوة، والانتماء إلى مجموعة، والولاء والإثارة وصورة ذات إيجابية. داعش كانت توفّر كل ذلك إنّما عن طريق الصور وأفلام الفيديو عن العنف الوحشي الذي تمارسه كقطع الرؤوس، حرق الأشخاص وهم أحياء، ... وتنقلها إلى الشباب عن طريق وسائل التواصل الحديثة. كان هذا ابتكارًا داعشيًا تفوّق فيه التنظيم على أي تنظيم إرهابي آخر عرفه التاريخ المعاصر. طبعًا يكون متلقّو هذه الصور كُثرًا، وتسبّب لهم مشاعر متناقضة، لكن الرسالة التي تتلقاها فئة من الشباب المهمّش عبر العالم، هي دعوة صريحة للانضمام إلى التنظيم، لممارسة القوة وتحقيق الذات والبطش بما هو سائد، والانتماء إلى عالم جديد يهدم أركان العالم القائم. وهذا مغرٍ طبعًا لمن كان على استعداد مسبق لتصديق الرواية من المسلمين، ولكنّه مغرٍ أيضًا لغير المسلمين من الشباب الذي كان يبحث عن معنى لحياته لظروف تهميش وفقر يعيشها. وهذا هو مغزى ما نُقل عن داعشي عندما قال: "بالأمس كنت عاملًا في ورشة بناء، اليوم أقوم بأشياء تلفت انتباه رئيس الولايات المتحدة الأميركية"[36]. ثمة غواية مزدوجة للشباب الذكور المهمّشين: التمتع بالقوة والبطش والانتقام من جهة، ومن جهة ثانية التمتع بالنساء اللواتي يتمّ سَبْيُهن بعد كل غزوة، ما استرجع تنظيم داعش من الإسلام الأول. أما إذا استشهد الواحد منهم فيكون جزاؤه الجنة حيث الحوريات بالعشرات والمئات.
أسباب إقبال الشباب على الالتحاق بداعش هذه أظهرتها أيضًا دراسة المؤشر العربي 2017-2018 مؤخرًا. وحسب الدراسة، فإنّ 17% من المستقصين يعتقدون أنّ أهم عناصر قوة داعش هو إعلان الخلافة الإسلامية، و16% التزام التنظيم المبادئ الإسلامية، مقابل 13% يعزونه إلى الإنجازات العسكرية و11% إلى استعداد التنظيم لمواجهة الغرب. وفسّر المجيبون التحاق المقاتلين بداعش بالدرجة الأولى (42%) بالفقر وعدم المساواة والتهميش في بلدانهم، مقابل 12% نتيجة وسائل الدعاية التي يستخدمها وغسل الأدمغة، و16% قالوا إنّ الدافع للانضمام هو محاربة جهات خارجية أو أنظمة وميليشيات في سوريا والعراق و7% لأنّهم متطرفون ويريدون المغامرة وإثبات
ذاتهم[37]