مدرسة كوبنهاغن ـ نحو توسيع وتعميق مفهوم الأمن


توفيق بوستي
       ‎أستاذ العلاقات الدولية بجامعة 8 ماي 45 - قالمة

تعتبر مدرسة كوبنهاغن لأبحاث السلام والأمن من أبرز المدارس التي قدمت إسهامات في الدراسات الأمنية في إطار النظريات النقدية، حيث ساهمت هذه المدرسة في توسيع مفهوم الأمن وأبحاثها في السلام خاصة عند المفكر باري بوزان barry buzan الذي يعتبر من الأوائل الذين أسسوا لدراسات السلام إضافة لإسهاماته في تقديم تصورا أمنيا مميزا ربط فيه الأبعاد الداخلية بالخارجية وتخلى عن الفكرة القائلة بأن الإنسان ذو طبيعة شريرة كما تحدث عنها الواقعيون الكلاسيكيون[1].

1 -باري بوزان والتحليل الأمني الشامل:

تعتبر مدرسة كوبنهاغن من بين أبرز المدارس التي عمدت إلى توسيع وتعميق مفهوم الأمن مستمدة أصولها التنظيرية في العلاقات الدولية من كتاب المنظر ” باري بوزان ” barry buzan: الناس، الخوف، إشكالية الأمن القومي في العلاقات الدولية: people state and fear: The National security problem in international Relations الصادر عام 1991، وترتكز دراسات مدرسة كوبنهاغن على التجليات الإجتماعية للأمن، بمعنى أن الأمن ليس مفهوما ثابتا كما أقرها يوهان غالتونغ في إطار هذه المدرسة، بل إنه بناء إجتماعي يتشكل عبر الممارسة وبشكل ديناميكي، وبهذا الشكل يمكن توسيع الأمن ليتجاوز المنظور التقليدي الذي يركز على الحروب بين الدول[2].
يعد باري بوزان من أبرز مفكري مدرسة كوبنهاغن، إلى جانب وجاب دو ويلد jaab de wilde، وأول ويفرOLE Weaver، والعديد من المفكرين الذين يعملون تحت لواء معهد كوبنهاغن لدراسات السلام، وتنطلق مدرسة كوبنهاغن للأمن على إعتباره وقبل كل شيء مسعى une démarche، وأن الفاعلين Actor ينزعون إلى إهمال خيار التفاوض والتسويات السلمية بهدف تبني مسار الأمننة Securitisation ، وهو مسار ترتكز أسسه على تعريف ذاتي للتهديد ضد البقاء[3].
كما تعتبر مدرسة كوبنهاغن أوّل المساهمين في إعادة صياغة مفهوم الأمن وفتح مجالاتٍ جديدةٍ للبحث في حقل الدراسات الأمنية منذ العقد الثامن من القرن العشرين، حيث إنطلقت من إرادةٍ في تأسيس مسار خاصّ للدّراسات الأمنية يسمح بالتغلّب على حدود الدراسات الإستراتيجية التقليدية والمقاربات الكلاسيكية في العلاقات الدّولية، عن طريق مدّ مجال البحث إلى أبعد من الجانب العسكري البحت وتعميقه أكثر من العلاقات بين الدّول فقط، فعلى مستوى نظرية العلاقات الدولية فإن مقاربة مدرسة كوبنهاجن هي تقريبًا “غير قابلةٍ وويليامز Huysmans للتصنيف”، فماك سويني يعتبر أنّ أغلبية أعمالها “موضوعيّةٌ وواقعيّةٌ”، في حين أنّ هويزمانز Huysmans وويليامز Williams يعتبرانها “خليطًا من الواقعيّة والبنائيّة”[4].
وينطلق منظور كوبنهاغن للأمن من تعريف باري بوزان للأمن على أنه: “العمل على التحرر من التهديد”، وفي سياق النظام الدولي فإن الأمن يعبر عن “قدرة الدول والمجتمعات على الحفاظ على كيانها المستقل وتماسكها الوظيفي ضد قوى التغيير التي تعتبرها معادية، وفي سعيها للأمن فإن الدول والمجتمع يوجدان أحيانا في إنسجام مع بعضها البعض، لكن يتعارضان في أحيان أخرى فأساس الأمن هو البقاء، لكن يشمل على أحيان أخرى على جملة من الإهتمامات الجوهرية حول شروط الوجود”[5]،كما يعتبر باري بوزان الأمن بأنه:
” العمل على التحرر من التهديد (وفي سياق النظام الدولي فانه يعني) قدرة الدول والمجتمعات على الحفاظ على كيانها المستقل وتماسكها الوظيفي ضد قوى التغيير التي يرونها معادية، فالحد الأدنى للأمن هو البقاء، لكنه يتضمن أيضا الى حد معقول سلسلة من الاهتمامات الجوهرية حول شروط حماية هذا الوجود”[6]
ولا یعني بوزان بالعمل على التحرر من التهديد” الإنفلات منه أو تحییده كلیا “، على إعتبار أنه لدى تحلیله للبنية الفوضوية للنظام الدولي والأمن یقول” إنه في ظل الفوضوية فإن الأمن یمكن أن یكون نسبیا فقط أبدا مطلقا، أما الأمن القومي عنده فهو مفهوم “محافظ” لأنه یتعلق بالدول الموجودة، ذلك أنه یعرفه بأنه “قدرة الدول على الحفاظ على هويتها المستقلة ووحدتها الوظيفية”[7]
وينطلق بوزان في دراساته من أعمال جون هرز حول “المعضلة الأمنيّة”، إذ إعتبر هو أيضًا أنّ الفوضى الدّوليّة تعرّض الدّول للمعضلة الأمنيّة، لكنّه يعتقد أنّ الواقعيين ضبطوا مشكلات أمن دولةٍ ما على مستوى التحليل النسقي
فقط: بقدر ما هذه المقاربة صالحةٌ بالنسبة للقوى الكبرى التي تتأثر حقيقةً بالنظام الدولي في عمومه، بقدر ما لا تتكيّف مع دراسة مشكلات الأمن الخاصّة بباقي الدول، فإن كان أمن القوى الكبرى يتأثرّ بما يحدث ضمن النسق الكليّ (النظام الدولي) نتيجة إتساع شبكة مصالحها، فإنّ الأنساق الفرعية الأخرى (الدول والأقاليم الصغيرة) لا تتأثّر دائمًا بما يحدث في مناطق بعيدةٍ عنها جغرافيًا[8]
كما تكتسب مقاربة بوزان أهمية كبيرة بالنظر لتعاملها مع جميع جوانب الظاهرة الأمنية، وإدراجها العوامل الإجتماعية للأمن مع كيفية بناء الأفراد أو المجتمعات للتهديدات، فقد أشار إلى أن الأمن لفظ متعدد المعاني، موضحا أنه مصطلح خلافي بالأساس ليس فقط بسبب إندراجه ضمن معظم مجالات الحياة الإجتماعية واليومية، كون المصطلح في حد ذاته من المرجح أن يكون ذو دلالات إيديولوجية وأخلاقية ومعيارية، وعليه فهذه النبرة الإيديولوجية التي تمنع أي توافق في الآراء بشأنه هي التي تجعله مصطلحا خلافيا بالأساس، فبحسب ” والتر غالي ” walter B. Gallie هناك فرضيتين تجعلنا نجزم أو نقر بأن مصطلحا ما خلافي بالأساس من عدمه[9]:
1-على المفهوم أن يكون قابلا للتقييم Evaluable بمعنى أنه يعتمد على بعض الإنجازات، وعملية كهذه تتطلب معاييرا موضوعية تقريبا لتحديد أي مفهوم هو الأكثر معنا، فمن الممكن أن يكون مصطلح الأمن مماثلا لذلك بالنسبة لمن يتبعون نهج الواقعية الجديدة في العلاقات الدولية، فنظرا لكونها ضمن نظام مساعدة ذاتية، تسعى الدول للبحث عن السلطة والقوة، والفائز هو الحاصل على أكثر من غيره بالقيمة المطلقة، ويبقى الأمن هو الثمن النهائي في لعبة السياسة الدولية.
2-أن يكون المصطلح على درجة عالية من التضارب والتناقض ما يولد نقاشات لا تنتهي، ليس فقط حول طبيعته بل حول تطبيقاته العملية أيضا، تبعا لذلك يكون الأمن مصطلحا خلافيا بالأساس فقط إذا كانت النقاشات حياله لم تثمر ولا حلا قابلا للتطبيق بالرغم من نوعية وكم الأفكار والبراهين المكونة لبناء المناقشة.

2-مستويات التحليل الأمني: تعميق الدراسات الأمنية

إنطلق باري بوزان Buzan barry من الصور الثلاثة للتحليل في العلاقات الدولية التي وضعها والتز Waltz، مقترحا أن يتم النظر للأمن ودراسته من خلال ثلاث وجهات نظر منفصلة: الفرد، الدولة والنظام الدولي في إشارة لصعوبة تحديد مرجعية للأمن، غير أن أمن الفرد والنظام الدولي يبقى تابعا لأمن الدولة بإعتبارها المرجعية الأهم، وبناء على هذه الطروحات يقترح ميلر Muller ثلاث مستويات لدراسة الأمن ويورد فيها الكيان من جهة والقيم المهددة فالكيان الأول هو الدولة وما يهدده عنصر السيادة والقوة، والكيان الثاني هو المجموعة وما يهدده هو الهوية، والكيان الثالث والأخير هو الفرد وما يهدده هو البقاء والرفاه[10].
كما يرى بوزان Buzan بأن الدولة تتشكل من ثلاث مكونات: فكرة الدولة الوطنية (القومية) Nationalisme، القاعدة الفيزيائية للدولة (الشعب، الموارد، التكنولوجيا)، المظهر المؤسساتي للدولة (النظام السياسي والإداري) تبعا لذلك يعتقد أنه بتعريف الدولة بهذا الشكل يسهل تصور التهديدات لأي من هذه المكونات الثلاث[11].
كما فرق بوزان Buzan بين الدول الضعيفة والدول القوية كشرط للأمن على مستوى الدولة، فإذا كانت قوة الدول وضعفها في تحليل والتزwaltz تقاس فقط بمدى قدراتها المادية، فإن بوزان يراها تقاس تبعا لمستوى إستقرارها المؤسساتي ومدى إنسجامها السياسي-الإجتماعي الداخلي، فالترابط المعقد للسياقات الداخلية والخارجية جعل من العسير تحديد فيما إذا كان تهديد أمن حكومة ما نابع من الداخل أم من الخارج، مما زاد من تعقيد مشكلة التحليل الأمني[12].
كما قطع بوزان الصّلة مع الدراسات المتمحورة حول سياسات الأمن الوطني (الواقعية أساسًا) التي تطبّق دون الأخذ في الإعتبار التأثيرات التي يمكن أن تحدثها على المستويين الإقليمي والدولي، لكنّ هذا لا ينفي أنّه بقي قريبًا من بعض المسلّمات الواقعية خاصّةً عندما إعتبر أنّ:[13]
1-الدّولة هي الوحدة المرجعيّة الأساسيّة للأمن؛
2-الجماعات الإنسانية (أو الانسانية جمعاء) هي المعنية بالأمن حقيقةً وليس الأفراد، فإن كان من المتّفق عليه أنّ أمن الأفراد هو السّبب الذي تأسّست من أجله الدّولة، فإنّه يمكن أن تكون هي أيضًا مصدرًا للاأمنهم، “يمكن للأفراد أن يكونوا مهدّدين […]بالتفاعلات التي تدخل فيها دولتهم مع باقي الدول”، إذًا فأمن الأفراد ليس مستقلا في حدّ ذاته، بل تابعٌ بشدّة لبنى تتعدّاه (الدّولة، النظام الدولي)، وبالتالي لا يمكن أن يكون في حدّ ذاته مستوى أساسيًا للتحليل في الدّراسات الأمنية؛
3-مسألة الأمن يجب أن تأخذ بعين الحسبان: فوضوية النظام الدّولي (غياب حكومةٍ مركزيّةٍ على المستوى الدولي)؛ التفاعل بين الوحدات المكوّنة للنظام (الدول)؛ والتنازع الذي يمكن أن ينشأ عن كيفية توزيع السلطة بين مختلف الوحدات السياسيّة للنظام.
ويختلف بوزان عن الواقعيين في[14]:
1-تمييزه بين الدول تبعًا لأنظمتها وفعّالية سلطتها، وأخذه بالاعتبار عناصر متعلّقةٍ بالسياسة الداخلية، فالأمن يجب أن ينظر إليه، ومثل واندت Wendt يميّز بوزان بين أنماط الفوضى (ناضجة وغير ناضجة) بالإعتماد على وجود دول مهيّأةٍ للتعاون أو لا، ومدى تقبّلها لقواعدٍ ومؤسّساتٍ تسمح بتنظيم علاقاتها؛
2-رؤيته لضرورة التخّلي عن التمييز التقليدي بين “الأمن الداخلي” و”الأمن الخارجي” ودراسة الديناميكية بين الأهداف الأمنية (أمن المواطنين والأمن الوطني)؛
3-إكتشافه لوجود توترّ دائم بين أمن الأفراد والأمن الجماعي وبأنّ هذه الوضعية تؤدي إلى المعضلة المركزية للأمن؛
4-تأكيده على الطابع اللامتناهي الذاتيّة للتهديد الخاضع قبل كل شيءٍ إلى الخيارات السياسية والتابع لهوية الفاعلين، وإعتقاده أنّ المصدر الذي يمكن أن ينشأ منه مشكل متعلقٌ بالأمن هو ظرفيٌ وغير ثابتٍ (متغيّر).

3-قطاعات الأمن: توسيع الدراسات الأمنية

التحليل عبر القطاعات هو منهجية للتحليل تعود أولى إستخداماتها إلى نشر كتاب “منطق الفوضى: الواقعية الجديدة إلى الواقعية البنيوية “The logic of Anarchy: Neorealism to Structural Realism من قبل باري بوزان، شارلز جونز Charles Jones وريشارد ليتل Richard Little سنة 1993 إنّها طريقة لتحليل النظام الدّولي قوامها تقسيمه إلى مجالات نشاطٍ، وكلّ مجال (قطاع) يعطي إضاءةً خاصّةً حول الأمن الوطنيّ، وإنّ طبيعة التهديدات والإنكشافات تختلف داخل كلّ قطاع وتؤثرّ بطريقةٍ خاصّةٍ على أمن الفواعل.[15] ويمكن حصر القطاعات الخمسة لمفهوم الأمن فيما يلي:

أ-القطاع السياسي:

يتجسد هذا المجال من خلال العلاقة بين الأمن كمتغير والعناصر المكونة للدولة (السيادة ، والوحدة الإقليمية)، وعلى وجه العموم فإن المجال السياسي للأمن الوطني هو حرية الدول من الضغوط السياسية الناتجة عن التفاعل السياسي على المستوى الداخلي ، بحيث يتحقق الأمن من خلال ضمان أو فرض إحترام الفاعلين السياسيين لمختلف الشروط المؤدية للإستقرار والوحدة الوطنية ، إما على المستوى الخارجي فيكون من خلال قدرة الدول على التكيف مع الضغوط الهادفة إلى إجبارها على تغيير مواقفها ، أو من خلال تبني مواقف قد تتعارض مع المبادئ التي تؤمن بها أو المصالح التي تهدف إلى تحقيقها[16].

ب-القطاع الاقتصادي:

يعتبر باري بوزان بأن الأمن الإقتصادي للدولة يتمحور أساسا حول قدرة الدولة على بلوغ الموارد المختلفة والإمكانات المالية اللازمة، وضمان الأسواق لتوفير مستوى معيشي مقبول، وإستقرار نظام الحكم وحماية الإقتصاد الوطني من مختلف التهديدات الناجمة عن إضطرابات النظام الإقتصادي داخليا، وتأثيرات العولمة وما ينجر عنها من إضطرابات إجتماعية، وضعف التماسك والتكافل الإجتماعي، العقوبات ضعف توفر الثروات المختلفة، النشاطات الإجرامية[17].
كما يرتبط من وجهة نظر باري بوزان بالدرجة الأولى بقدرة الدول على الوصول إلى الأسواق الخارجية والمصادر المالية، وما تفرزه هذه التفاعلات من إشتداد حدة التنافس بين الدول ضمن المستوى الإقليمي للحصول على صفقات تجارية مع قوى اقتصادية كبرى، كما هو حال الدول المغاربية مع الاتحاد الأوروبي، مما ينعكس سلبا على الإقتصاديات الوطنية، وقد إزدادت حدة هذا التنافس خاصة مع عولمة الإقتصاد الرأسمالي في ظل تنامي هيمنة الشركات عبر الوطنية العملاقة والأسواق المالية الكبرى، وقد أشار العديد من الأكاديميين إلى العلاقة التكاملية بين الإقتصاد والأمن، حيث أصبح الأمن الإقتصادي مؤخرا بعدا أكثر أهمية في الإقتصاد السياسي الدولي والدراسات الأمنية[18]

ج-القطاع العسكري:

يعتبر الأكثر شأنا كون التهديدات العسكرية تطال جميع مكونات الدولة (فكرة الدولة، مؤسساتها وقاعدتها الفيزيائية) فهي تضع حماية المواطنين وسلامتهم بصفتهم الواجب الأساسي للدولة محل الإختبار، ويتعلق هذا القطاع ببقاء الدولة وبمدى التفاعل بين القدرات العسكرية الهجومية والدفاعية للدول وإدراكها لنوايا بعضها تجاه البعض[19].
كما يخص المستويين المتفاعلين أو المتقابلين للهجوم المسلح والقدرات الدفاعية، وكذا مدركات الدول لنوايا أو مقاصد بعضها تجاه بعضها الأخر، حيث يرى بوزان بأن الدول الصناعية الكبرى بإمكانها أن تتعسكر في أي وقت، لأن نسيجها الصناعي وتطورها العلمي يسمح لها بذلك[20].

د-القطاع البيئي:

بالنسبة للقطاع البيئي، فالأمن يقوم على وحدتين هما: التهديدات الطبيعية والتهديدات الإجتماعية، بحيث تجعل الحضارة الإنسانية في خطر، فالتهديدات الطبيعية تتمثل أساسا في الهزات الأرضية ونشاط البراكين، ذوبان الجليد، الفياضات، الجفاف، التصحر …. وتتمثل التهديدات الإجتماعية في كل ما يضر البيئة وسلامتها، وينتج أساسا عن مختلف أنشطة الإنسان كالتلوث، المواد الكيميائية، إستنزاف الثروات الطبيعية مما يحدث إضطرابا وخللا في النظام الطبيعي وبنية الكوكب[21].
كما يصنف القطاع البيئي أو الإيكولوجي من بين المسائل الأكثر جدلا في السياسة العالمية المعاصرة على إعتبار أن تهديداته لا تخص دولة واحدة بذاتها، بل تمس كل الدول وينصرف هذا النوع من الأمن إلى حماية البيئة من الممارسات الإنسانية المتسببة في ظواهر سلبية (كتغير المناخ والإحتباس الحراري، التلوث،…) تهدد رفاه وسلامة الإنسان وحتى نوعه[22].

هـ-القطاع المجتمعي:

يعني قدرة المجتمعات عن إعادة إنتاج أنماط خصوصياتها، كاللغة والثّقافة والهوّية والعادات في ظل منافسة مستجدات العولمة لهذه العناصر، ويفهم من ذلك حفظ ودعم الإستقرار الثّقافي كاللغة والهويات الموجودة داخل المجتمع[23].
ويعتبر مفهوم الأمن المجتمعي واحدا من الإضافات الجديدة لمدرسة كوبنهاغن إلى حقل الدراسات الأمنية إنبثق عن الإقرار بوجود وحدات مرجعية للأمن غير الدولة ، وقد طور هذا المفهوم داخل مدرسة كوبنهاغن خصوصا من طرف أول ويفر الذي أحدث به قطيعة مع الدراسات التقليدية المتمحورة حول الدولة ، ويؤكد ويفر أن العولمة الحالية أثرت على الدول ، لكن ليس بالدرجة نفسها التي أثرت بها على المجتمعات فإن هويتها أصبحت على المحك في مواجهتها لمجموعة من الظواهر الجديدة كتصاعد وتيرة الهجرات ، الإستيراد الكبير للسلع الثقافية الأجنبية ، وتصاعد ديناميكية الإندماج ضمن كيانات أوسع ، وهي ظواهر تهدد الهوية الوطنية والدينية للمجتمع، فتصبح التخوفات المرتبطة باللا أمن ، بالآخر ، بالهجرة ، بالغزو ، بفقدان القيم الثقافية وأنماط الحياة هي ما يشغل الأفراد والأمن المجتمعي مرادف للبقاء الهوياتي الذي يشير إلى ظهور شعور الـ ” نحن ” المتميز عن ” الآخر” هذا الآخر سواء كان إثنية أو طائفية دينية أو غيرهما فإنه ينظر إليه كتهديد من طرف الـ ” نحن “[24].

4-البعد الإقليمي للأمن:

لقد تجاهلت الدراسات التقليدية للأمن المحيط الإقليمي للمشاكل الأمنية، لذا يعتبر تحليل الأمن على هذا المستوى من أبرز إسهامات باري بوزان الذي يعتبر إقليمية الأمن ظاهرة علائقية، كون الأمن علائقي فلا يمكن إدراك الأمن القومي لأي دولة دون فهم الخط الدولي لإعتماد الأمن المتبادل Security interdependence غير القابل للتجزئة، فقد ذهب الأستاذ وليام طومسون williams Thomson لتعريف الأمن الإقليمي بثلاثة عناصر[25]:
1-التقارب الجغرافي وإنتظام التفاعلات بين مكونات هذا الكيان
2-الإعتراف الداخلي والخارجي لمجموعة من الدول على أنها أعضاء في فضاء محدد
3-حجم هذا الكيان، وتتحكم فيه القدرات التي تراكمها الوحدات المعنية
كما يعتبر الأمن الإقليمي مستوى من مستويات الأمن المتعددة، هناك من عرفه بأنه :” إتخاذ خطوات متدرجة تهدف إلى تنسيق السياسات الدفاعية بين أكثر من طرف، وصولا إلى تبني سياسة دفاعية موحدة تقوم على تقدير موحد لمصادر التهديد وسبل مواجهتها”[26] ، وحسب هذا التعريف يعمل الأمن الإقليمي على تأمين مجموعة من الدول داخليا، ودفع التهديد الخارجي عنها بما يكفل لها الأمن إذا ما توافقت مصالح وغايات وأهداف هذه المجموعة أو تماثلت التحديات التي تواجهها وذلك عبر صياغة تدابير محددة بين مجموعة من الدول ضمن نطاق إقليمي واحد ،حيث لا يرتبط برغبة بعض الأطراف فحسب وإنما بتوافق إرادات تنطلق أساسا من مصالح ذاتية بكل دولة ومن مصالح مشتركة بين مجموع دول النظام.
ويعرف الأمن الإقليمي في أبسط معانيه بأنه هو ما تعلق بأمن مجموعة من الدول المرتبطة بعضها ببعض والذي يتعذر تحقيق أمن أي عضو خارج إطار النظام الإقليمي ، ولقد أشار ” باري بوزان” إلى هذا المفهوم بمصطلح المجتمع الأمني Security complexe الذي عرفه بأنه يتضمن “مجموعة من الدول ترتبط فيه إهتماماتها الأمنية الأساسية مع بعضها بدرجة وثيقة، بحيث أن أوضاعها الأمنية الوطنية لا يمكن النظر إليها واقعيا بمعزل عن بعضها البعض”[27] ، وإعتمادا على هذا التعريف يرى “بوزان” أن أغلبية الدول تحدد علاقاتها الأمنية من منطلقات إقليمية وليست عالمية حتى وإن تعاملت مع القضايا العالمية فإنها تميل إلى رؤية تلك القضايا من منظور إقليمي ،ولهذا يسيطر الإقليم في نظر “بوزان” على منظور الأمن دون إلغاء الدور الحاسم للأطراف الخارجية الفاعلة والقوى العظمى في التأثير في المجمع الأمني.
ولتحليل مسألة الأمن الإقليمي يرى بوزان بأن العلاقات بين الدول يمكن أن تؤسس شبكة واسعة من الصداقات والتحالفات مع تلك التي تشعر بالخوف، وبالنسبة لبوزان فإن مفاهيم الصداقة والعداوة لا يمكن إرجاعها فقط إلى توازن القوى Balance of Power لأن القضايا التي يمكن أن تؤثر على علاقات الصداقة/العداوة بين الدول قد تكون مرتبطة بالأيديولوجية الإثنية والخلفيات التاريخية، كما يشتمل مركب الأمن على الإعتماد المتبادل في مجال التنافس، أما العامل الأساسي في تعريف مركب الأمن فهو يمثل عادة المستوى العالي من التهديد / الخوف الذي يشعر به بشكل متبادل بين دولتين أو أكثر ، وعليه فإن هذا المقترب من الممكن أن يكون إطارا مناسبا لمناقشة القضايا العالقة في أية منطقة من العالم[28].
كما وضع بوزان مصطلح ” المجمع الأمني الإقليمي ” للدلالة على مجموعة من الدول التي ترتبط إهتماماتها الأمنية الأساسية مع بعضها بشكل وثيق لدرجة أن أوضاعها الأمنية الوطنية لا يمكن بحثها واقعيا بمعزل عن بعضها البعض ” وتعرف مجموعات الأمن الإقليمية بأنماط متينة من المودة والعداوة بين وحداتها حيث يبقى العامل الأهم في تحديد المجمع الأمني هو دائما الدرجة العالية من التهديد والخوف الذي تحسه دولتين أو أكثر بشكل متبادل، ويجادل بوزان و واييفر بان المجمع الأمني الإقليمي ليس تصورا يمكن تطبيقه على أي مجموعة من الدول ولكنه يختص بتلك الدول أو غيرها من الوحدات التي تمتلك درجة كافية من الاعتماد الأمني المتبادل مشكلة سلسلة مترابطة تميزها عن الأقاليم المجاورة.
إن البنية الجوهرية لمركب الأمن الإقليمي ترتكز على أربع متغيرات هي[29]:
1-الحدود Boundaries : التي تميز مركب الأمن الإقليمي عما جاوره.
2-البنية الفوضوية Anarchy Structure: التي تعني بأن مركب الأمن الإقليمي یجب أن یتكون من وحدتین مستقلتين فما فوق.
3-الإستقطاب Polarity الذي یغطي توزیع القوى بین الوحدات.
4-البناء الإجتماعي Social Construction الذي یحدد أنماط الصداقة والعداء بین الوحدات
من هذا المنطلق وإعتمادا على أبرز الدراسات الخاصة بالنظم الإقليمية حدد بوزان مجموعة من مركبات الأمن وهي: أمريكا الجنوبية، والشرق الأوسط (من المغرب إلى باكستان شرقا ومن سوريا إلى الصومال جنوبا)، إفريقيا الجنوبية، جنوب آسیا، وأخیرا جنوب شرقي آسیا وهي كيانات جغرافية[30].
كما يقر بوزان بوجود مركبات أمن فرعية في الشرق الأوسط كالخليج، والقرن الإفريقي، الشرق الأوسط والمغرب العربي، والتي لها ديناميكية الأمنية الخاصة بها والمتميزة عن المركب ككل، لكن هناك تجاوز للحدود وتداخل بين الديناميات داخل مركب الشرق الأوسط، يكفيان لتبرير تحديده كنطاق أوسع لوحدة إقليمية أساسية، وضمن مركبات الأمن الفرعية يوجد مركب الأمن المغاربي، والذي يصفه باري بوزان بالأضعف، حيث ترتكز أساسا حول تحول وإضطراب العلاقات بين ليبيا، تونس، الجزائر، المغرب وكذا الصحراء الغربية.
ويرى بوزان بأن حدود المغرب العربي مع إفريقيا قد شوهت إنطلاقا من أن ديناميات الأمن المغاربي تدفع نحو تخومات أخرى على رأسها: تشاد، الصحراء الغربية، موريتانيا، ليبيا، المغرب، وحتى إسرائيل التي تتبنى سياسات معينة في العديد من دول الصحراء الكبرى، إلا أن أكبر مشكل إقليمي في المغرب العربي إنفجر مع ضم المغرب للصحراء الغربية بداية من عام 1975، وهو ما أدى إلى حدوث توترات مع كل من الجزائر وليبيا.
إن إرتباط مركب الأمن الفرعي المغاربي في إطار مركب الشرق الأوسط بالأمن الأوروبي بحكم القرب الجغرافي الأمريكي ضمن الإستراتيجية العالمية لمكافحة الإرهاب بالنظر إلى توسع مفهوم الأمن[31].
ويحدد بوزان وويفر ثلاثة أشكال لمركب الأمن الإقليمي تتمثل في[32]:

أ-المركب الأمني الإقليمي المعياري:

الذي تقارب بنيته البنية الوستفالية البنيوية القائمة على وجود أكثر من قوة، إضافة إلى أهمية الأجندة الأمنية والسياسية، ويتحدد هذا النظام بوجود قطبين أو أكثر، ويكون أحادي القطبية عند تواجد قوة عالمية داخله، على أن المميزات الأساسية لهذا المركب تتحدد داخليا وفق التفاعلات الإقليمية، وخارجيا من خلال تدخل القوى العظمى/ العالمية، وبالتالي فإن سمته التوقعية تكمن في صعوبة تشكيل قوى فرعية، كما تميل سمة هذا المركب إلى سياسة الأحلاف وتوازن القوى.

ب-المركب الأمني الإقليمي المركزي:

سمي بهذا الإسم لوجود القوى العالمية داخله، مشكلة لبنيته وفقا لعامل الجوار الجغرافي كما هو الحال بالنسبة لمركب أمريكا الشمالية ومركب أوروبا الشرقية.

ج-المركب الأمني المؤسساتي:

تكون التبعية فيه لسلطة المؤسسات الإقليمية بدلا من القوة الأحادية، ويمثل الإتحاد الأوروبي النموذج الأمثل له.
كما أن فكرة الأمن الخاصة بـ باري بوزان التي طورها أول ويفر وتبنتها مدرسة كوبنهاغن وأصبحت جزءا من المقاربة المنهجية الجماعية للأمن فيها، أدخلت إلى حقل الدراسات الإقليمية كوحدة تحليل للتعبير عن الدول المتضررة بإستمرار من جراء مظهر أو مظاهر أمنية إيجابية أو سلبية تصدر من مناطق جغرافية متميزة، من جهة أخرى يعرف بوزان الإقليم بالمفهوم الأمني بأنه:
“نظام أمني هام ومتميز ذو علاقات أمنية يتواجد بين مجموعة من الدول
جعل مصيرها في جوار جغرافي مع بعضها البعض”[33]
ولبلورة مفهوم المركب الأمني الإقليمي جاء كتاب كل من باري بوزان وأول ويفر الأقاليم والقوة لبلورة تصور جديد للأقاليم خاصة وأن بوزان قد أكد في كتابه ” الشعب، الدول والخوف ” أن الأنظمة الإقليمية داخل بنية فوضوية تتكون من عنصرين أساسيين:
1-توزيع القدرات بين الفواعل المركزية (توزيع القوة)
2-نسيج الصداقة والعداوة بين الدول (أنماط الصداقة والعداوة)
كما عرف باري بوزان مركب الأمن الإقليمي بأنه:
“تحقق مستوى من الإرتباط الأمني بين دول منطقة ما، بحيث يصبح أمن كل دولة غير قابل
للإنفصال عن أمن بقية الدول الداخلة في الإقليم”[34]
كما تقوم نظرية مركب الأمن الإقليمي على مجموعة من القواعد أهمها[35]:
1-إن أكثر التهديدات تنتقل بصورة أسهل في المسافات القصيرة منها إلى المسافات الطويلة، فحسب والث فإن الجوار أو التقارب الجغرافي عامل فعال في الأمن لأن العديد من التهديدات الأمنية تنتقل بسهولة أكبر عبر المسافات الصغيرة منها عبر المسافات البعيدة.
2-تعتبر أن قدرات ونوايا الدول الأمنية تعلقت تاريخيا بجيرانها، لذا فدرجة الإعتماد الأمني المتبادل يكون أكثر حدة بين الفاعلين داخل المركب الأمني منه بين فواعل داخل المركب وأخرين خارجه.
3-تعتبر أن مركب الأمن قد يكون مخترقا من قبل القوى العالمية، إذا كان على نطاق واسع
4-الأقاليم لها درجة كبيرة من الإستقلالية في وضع أنماط مرتبطة بديناميكيتها الإقليمية
5-إن مركبات الأمن الإقليمي هي مكون رئيسي للأمن الدولي
6-إن إستعمال مفهوم مركب الأمن الإقليمي في دراسات الأمن الدولي يسهل عملية تكييف وإعادة هيكلة إستراتيجيات السياسة الخارجية للدول بواسطة تقييم كفاءة السياق الإقليمي
7-تشكيل مركب الأمن الإقليمي يشتق من التفاعل بين البنية الفوضوية ونتائج ميزان القوة من جهة، وبفعل التقارب الجغرافي المحلي من جهة أخرى
كما يقترح مفهوم الأمن الإقليمي وفقا لباري بوزان أداة واعدة لفهم الأمن الإقليمي وفقا للنظام الدولي المعاصر، حيث يقدم ويوضح المفهوم الأهمية النسبية لتحليل الأمن الإقليمي قياسا بمستوى التحليل الأمني التقليدي الوطني والعالمي، كما يجادل بوزان بأن التحليل الإقليمي يبقى مهما وضروريا، حيث يعتبر بأنه ” في غياب الإحساس بالإنتاء للإقليم فإن التحليل الأمني يميل إلى أن يكون محل إستقطاب بين مستوى النظام العالمي من جهة، ومستوى الأمن الوطني للدول منفردة من جهة أخرى…التحليل الأمني سوف يكون متأرجحا بين المغالاة في التوكيد على الدور المهيمن للقوى العظمى داخل النظام الدولي ، والمغالاة في التوكيد على الديناميات المحلية ومنظورات الدول كل على حدة”[36].
ان لمعظم فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية كانت المشاكل والأزمات الإقليمية ذات أهمية ثانوية فيما يتصل ببنية ودينامية النظام الدولي، وضمن هذا السياق تم النظر إلى الأمن الإقليمي إما كمجموعة فرعية أو كطريق للوصول إلى نظام أمني جماعي عالمي طبقا للمنظور المثالي، أو كنتاج عرضي لميزان القوى والتفاهمات الخاصة بين القوى الكبرى، وخصوصا القوى العظمى وفقا للمنظور الواقعي، كما تم النظر إلى العلاقة بين النظام الدولي وهو النظام الأساسي والأنظمة الفرعية ذات الصلة بالأمن الإقليمي علاقة تبعية ، كما شكل النظام الدولي الثنائي القطبية في سياق الحرب الباردة تهديدا مطلقا للأنظمة الإقليمية الصاعدة، بسبب تنافس القوتين العظمتين على ضم أي إقليم جديد إلى دوائر نفوذهم[37].

5-الأمن المجتمعي والأمننة: دور الهوية وفعل الخطاب في تحديد المسألة الأمنية

عملت مدرسة كوبنهاغن على تطوير الدراسات الأمنية عن طريق طرح مفهوم الأمن المجتمعي sociétal Security ونظرية الأمننة securitization

الهوية والمجتمع والأمن المجتمعي:

تعتبر مدرسة كوبنهاغن أولى المدارس التي دعت إلى مراجعة مفهوم الأمن وتوسيعه إلى أبعاد أخرى إلى الجانب العسكري، للتعامل مع طبيعة التهديدات الجديدة، ليتجاوز بذلك التهديدات الموجهة إلى الدولة (الموضوع المرجعي التقليدي للدراسات الأمنية الواقعية) نحو الكيانات والتنظيمات الإجتماعية الأخرى التي تعرض نفسها كمراكز جديدة للتهديد، وقد إقتبست مدرسة كوبنهاغن بشكل كبير من المقاربة البنائية، خاصة في تصورها كبناء إاجتماعي، والتركيز على هوية الفواعل وكيفية تشكيلها لمصالحها الأمنية، وتمثل المدرسة دراسات لعدد من الباحثين، وفي مقدمتهم “باري بوزان الرائد في هذه المدرسة التي إستمدت أصولها التنظيرية من كتابه المسمى “الناس، الدولة، والخوف، إشكالية الأمن القومي في العلاقات الدولية”[38].
كما يعتبر الأمن المجتمعي واحد من بين أهم عناصر برنامج البحث في الدراسات الأمنية المعاصرة، فقد تجاوز الرؤى التقليدية التي تعتبر المجتمع مجرد قطاع تابع لأمن الدولة بإعتباره كيانا مستقلا بذاته وموضوعا مرجعيا للأمن، فالمجتمع ليس المقصود به بنيته أو تنظيمه بقدر ما تركز الاهتمام حول هويته، فالمجتمع يعبر عن:
“سلسلة الأفكار والممارسات المحددة للأفراد كأعضاء من مجموعة إجتماعية، فالمجتمع يتمحور حول الهوية وحول التصور الذاتي للطوائف وللأفراد الذين يعرفون ذواتهم كأعضاء من طائفة معينة (…) وإذا كانت المجتمعات هي التي تمثل مركز الاهتمام في الإشكالية الجديدة للأمن، فإن مسائل الهوية والهجرة هي التي ترسم الإدراكات القاعدية للتهديدات والهشاشات وعليه فالمجتمعات تتمركز بالأساس حول الهوية”[39].
كما يعتبر الأمن المجتمعي محورا مهما في التركيز على الهوية أو بعبارة أخرى حول ما يمكن للجماعة من الإشارة لنفسها بضمير نحن في مقابل الأخر الذي قد يشكل تهديدا موضوعيا لهذه الهوية التي تمثل أمة، إثنية، جماعة دينية… إلخ[40].
كما تعتبر كرد فعل على الأجندة البحثية الصاعدة للمدرسة، حيث تزايدت الأصوات المنادية بضرورة تجاوز الأشكال المادية للتهديدات، وفك الإرتباط التقليدي والتعسفي، بين مفهوم الأمن والدولة، وضرورة إعتبار الأشكال الأخرى من الفواعل الأمنية غير الدولة، لاسيما وأن السياق التاريخي لظهور المقاربة، إرتبط زمنيا بإندلاع موجات العنف والإبادة الجماعية بين الجماعات الإثنية والعرقية في كل من الجمهوريات السابقة السوفيتية ووسط إفريقيا، بالإضافة إلى تزايد وتيرة الهجرة إلى أوروبا، وتصاعد حدة المشكلات الإجتماعية الناتجة عنها، وقد كشفت مرحلة ما بعد الحرب الباردة بحسب بولدوين، أن حقل الدراسات الأمنية كان يبدو مجهزا بشكل سيئ لا يسمح له بالتعامل مع عالم ما بعد الحرب الباردة، وذلك بخروجها من هذه الفترة بمفهوم ضيق للأمن الوطني وإتجاهها لتغليب الأمن في شقه العسكري على الأهداف الأخرى للسياسة العامة[41].
كما يرى أول واييفر أنه بعد نهاية القطبية الثنائية وبروز ظواهر جديدة على غرار بروز ظاهرة كالعولمة، البناء الأوروبي، توسع التمركز حول القوميات في أوروبا الشرقية، فإن المجتمع هو المعني بالتهديد أكثر من الدولة، وعليه فهو يعتقد أن مفهوم الأمن المجتمعي هو المفهوم النظري الأكثر إنسجاما وتوافقا لتحليل هذه الرهانات الجديدة، فالبعد المجتمعي الذي يعد واحد من قطاعات الدولة حسب باري بوزان Buzan إعتبر موضوعا ومرجعية أمنية في تحليلات واييفر Waever ، فأصبح التركيز في الدراسات الأمنية على فهم ثنائي للأمن يمزج بين أمن الدولة الذي يدور حول السيادة والأمن المجتمعي المتعلق بالهوية، فالبقاء بالنسبة لأي دولة يختصر في حمايتها لسيادتها، في حين يكمن بقاء المجتمع في حماية هويته بالأساس[42].
وبالتالي مسؤولية الأمن المجتمعي مسؤولية جماعية، ولا تقتصر على سياسة دولة أو حكومة، ولا على مؤسسات مدنية، بل هي مسؤولية أفراد وجماعات، ولا يمكن لأحد أن يغض الطرف عن الإختلالات التي تقوض أساس الأمن المجتمعي فإننا أليا سنكون أمام مأزق أمني مجتمعي لأنه إذا تصاعدت حدة المأزق الأمني المجتمعي فإن نتائجه قد تكون خطيرة وتمتد من التنافس لإستفادة موارد نادرة (كالموارد الطبيعية أو المخصصات الحكومية)، إلى السعي لإزالة الطرف الأخر من الوجود عبر التصفية الإثنية[43].
فعندما تحس مجموعة ما باللاّأمن إزاء السلطة الإقليمية، أو المجموعات التي بالمأزق المجتمعي الذي يعتبره Barry Buzan تشاركها نفس الإقليم، فإن ذلك يؤدي إلى ما يسميه مولر Muller ناتج عن “غياب الأمن المجتمعي، والذي يرتبط بدوره بقدرة المجموعة على الإستمرار مع المحافظة على خصوصياتها، في سياق من الظروف المتغيرة والتهديدات القائمة أو الممكنة، وبتحديد أكثر فإنه يتعلق بإحساس هذه المجموعة المعنية بأن هناك مساسا بمكونات هويتها كاللغة، والثقافة، والدّين، والهوية والعادات، أو بأن تطورها لا يتم في ظروف مقبولة” [44].

6-نظرية الأمننة: Securitization Theory

إن الجوهر الأساسي لنظرية الأمننة هو إعتبارها الأمن كفعل خطابي، بحيث أشار واييفر Weaver إلى ذلك بالقول: ” يمثل شيء ما مشكلة أمنية متى أعلنت النخب أنه كذلك “[45]
هذا، وتشير فكرة الأمننة إلى المسار الذي يمكن من خلاله لفاعل ما أن يعلن مسألة محددة أو فاعل آخر على أنه يشكل تهديدا فعليا لوحدة مرجعية معينة، وعليه تصبح قضية ما رهانا أمنيا فقط متى تم تأطيرها عبر خطاب أمني على أنها تشكل تهديدا وجوديا يتطلب إجراءات مستعجلة ويبرر الأعمال خارج الحدود الطبيعية للإجراء السياسي.
ويرى أنصار هذه النظرية أن الأمننة الناجحة تتضمن شرطين أساسيين هما: الخطاب وقبوله الواسع لدى الجمهور، فتصبح قضية ما مسألة أمنية متى أمننت من طرف فاعل ما حكومة، برلمان أو أي سلطة سياسية أخرى وحتى قادة الرأي وكبار البيروقراطيين طالما أن لهم القدرة لممارسة هذا النوع من العمل عبر الخطاب وكان له القبول بوجود توليفة من الشروط المساعدة والسياقات الخاصة التي تتضمن شكل فعل الخطاب، موقع ومنزلة الفاعل المؤمن والظروف التاريخية المرتبطة بهذا التهديد.
فضلا عن شرط آخر وهو تحديد التهديدات الفعلية والعمل المستعجل، فتقديم مسألة على أنها تهديد فعلي، كما يعني بوزان:
” إذا لم نعالج هذه المشكلة، فكل شيء آخر سيكون غير ذي معنى، لأننا لن نكون
موجودين أو لن نكون أحرارا للتعامل معها بطريقتنا الخاصة، وتسمى هذه الخطوة
نحو الأمننة الناجحة بالتحرك نحو الأمننة “[46]
هذا، ويرى الموسعون في إطار مدرسة كوبنهاغن بأن إطار الأمننة يستند إلى ثلاثة معاني:
أولا-شكل الفعل the form of the act : المبنى أمنيا مع التركيز على خطاب الفاعلين المهيمنين الذين غالبا ما يكونون قادة سياسيين.
ثانيا -سياق الفعل context of the act : محدد بدقة مع التركيز فقط على لحظة التدخل
ثالثا -طبيعة الفعل natur of the act : من خلال معرفة مهددات الأمن
كما جادل واييفر بأنه لا يمكن إعتبار الأمن كحالة سابقة في وجودها عن الخطاب كما بين أنه ممارسة ذاتية المرجعية بمعنى أن شرط وجوده قد أسس بفعل الخطاب ذاته وليس بتهديد مفروض مهما كان نوعه، وتعرف أعمال الخطاب على أنها أفعال تؤدي عبر الخطاب، وهي تشير إلى وحدات صغيرة تحدث فعلا (أمر / وعد / طلب) عن طريق اللغة، إلا أن واييفر اهتم بمفهوم الأداء الذي طوره أوستين، الذي يشير إلى أن الألفاظ التعبيرية (أعلن / قال / وعد / دعا / حكم) هي من الأشكال التعبيرية المكونة للفعل، فضلا عن إعتبار أفعال الخطاب وفقا لمدرسة كوبنهاغن أدوات تستخدم من طرف الفواعل لتحقيق أهدافهم.
هذا، وفي دراسته المعنونة: ” the war on terrorism as the new macro -securitization ” طرح بوزان فكرة الأمننة الكلية إذ تشير إلى نفس معنى نظرية الأمننة ولكنها تمارس على نطاق أكثر اتساعا مستندة إلى بناءات عالمية للتهديدات والوحدات المرجعية، ويرجع بوزان هذه الظاهرة إلى العولمة والاعتقاد بإيديولوجية عالمية، وتمثل الحرب الباردة وفقه المثال التاريخي الأكثر وضوحا لهذا النوع من الأمننة، كما يعتقد أن هذه الظاهرة قادرة على تنظيم حركيات الأمن السائدة بين مجتمع الدول لعدة عقود.

خاتمة:

شهد مفهوم الأمن تطورا كبيرا منذ نهاية الحرب الباردة بفعل ظهور فواعل جديدة أصبح تأثيرها يتجاوز تأثير الدولة القومية مما استدعى مراجعة أدبيات نظرية العلاقات الدولية من جهة والتحول في الدراسات الأمنية ومن ثم التحول في مفهوم الأمن، فبعدما كنا في إطار المنظار الواقعي الذي ساد في فترة الحرب الباردة، وينظر للدولة على أنها وحدة التحليل الأساسية ومحور أية سياسة أمنية، حيث تعطى الأولوية لتحقيق أمنها في مواجهة أية تهديدات عسكرية، كما تعتبر الوسائل العسكرية وحدها الوسائل المتاحة أمامها لتحقيق أهدافها ،ويحصر الأمن في قدرة الدولة على الحفاظ على بقائها واستقلالها السياسي ووحدة أقاليمها في ظل نظام دولي يتميز بالفوضى بالنظر لعدم وجود سلطة عليا تستطيع فرض هيمنتها على جميع الدول.
أما الواقعية الجديدة فتعتبر بأن الدول تعمل وفقا لمبدأ الحوافز المادية، وتعكس مواقفها مواقعها ضمن النظام الدولي، وعليه فالدول تسعى للحفاظ على مكانتها النسبية داخله، فكلما نمت قدرات دولة ما إزدادت مكانتها في تراتيبية السلطة وإزداد نفوذها وتتحدد بنية النظام العالمي عبر هذا التوزيع للقدرات بين الدول، كما يرى والتز بأن النظام الدولي يتميز بالفوضى وهو الذي يحدد سلوك الفاعلين فيه ( الدول ) والذين يحتلون نفس المركز خلافا للأنظمة السياسية الداخلية التي تحكمها الهرمية ، فكل الدول تمارس الوظائف نفسها أي لا يوجد تقسيم للعمل بسبب غياب ثقة الدولة في الدول الأخرى.
كما تعتبر الواقعية الجديدة بأن الأمن حالة تتنافس عليها الدول لتحقيقها، وفي كنف نظام عالمي يتسم بالفوضى يتعين في كنفه على الدول العمل وفقا لمبدأ كل لنفسه، لضمان بقائها وفي إطار مسعاها لتحقيق ذلك نجدها تزداد قوة يوم بعد يوم لتكون قادرة على تجنب أثر قوة الدول الأخرى، وهو ما يدفع الأخرين إلى الإحساس بعدم الأمن، مما يدفعهم إلى التنافس بغية تحقيقه مما يدخلنا في دوامة من إنعدام للأمن داخل المنتظم الدولي.
أما الليبرالية المؤسساتية فتؤكد على أن المؤسسات تؤدي دورا جوهريا في تحقيق الأمن الدولي وتحقيق التعاون والإستقرار، كما تعمل على تعزيز الأمن الداخلي عبر ما أصبحت تملكه من صلاحيات وعناصر تسمح لها بضبط بعض الجوانب في المسائل الداخلية كنتاج للتحولات التي مست السياسة العالمية، والتي لم تعد تجعل الدول التي تتصرف بشكل منفرد في سياساتها الداخلية، فالليبيرالية المؤسساتية تقوم على إفتراض مؤداه أن إنتشار وتزايد عدد المنظمات الدولية والإقليمية وزيادة وتعقد وتيرة شبكة الإعتماد المتبادل سوف يفضي إلى سلوك سلمي وتعاوني بين الدول والوحدات الموجودة في النظام الدولي.
وبالمقابل تعمد الليبرالية المؤسساتية إلى تعريف الأمن من منطلقات أوسع مبتعدة عن القراءة الجغرافية/العسكرية للمصطلح التي ركز عليها التيار الواقعي مؤكدة على أهمية قضايا الثروة والرفاه والبيئة، ومقحمة فاعلين من غير الدولة، ليصبح الأمن ليس فقط حماية أمن الدولة ضد تهديدات الدول الأخرى، وإنما من تهديدات فاعلين غير دوليين ضمن الترتيب العالمي، إذن فقوام التصور الليبرالي للأمن موسع بمعنى “ما فوق الدولة” أكثر “ما دون الدولة ” ليشمل العوامل المؤسساتية، الإقتصادية والديمقراطية، وهي أبعاد أكثر تأثيرا من العامل العسكري في إقامة السلام، بإعتبار أن السياسات الدنيا هي التي تحدد أجندة الأمن وتجعل التعاون بين الدول أمرا لا مفر منه.
أما الليبيرالية البنيوية فتتمحور حول فكرة أساسية مفادها أن الدول الديمقراطية أكثر میلا لإحترام إرادة مواطنیها، وأقل میلا للإقدام على مباشرة الحرب مع جيرانها الديمقراطيين، وبالرغم من أن جوهر الفكرة قدیم جدا إلا أن هذه الرؤية قد أعید تقديمها حدیثا في إطار ما یعرف بنظرية السلام الدیمقراطي،حيث يرى أنصارها أن الدول الديمقراطية لا تسعى إلى محاربة بعضها البعض، إذ تشكل الديمقراطية مصدرا رئيسيا للسلام، وفي هذا الإطار يرى روبرت كوفمان أن سبب الحروب وعدم الإستقرار الأمني يعزى إلى غياب الديمقراطية، لذلك فان الإقتراب الرئيسي لهذه المقاربة يرتكز على أن الدول الديمقراطية نادرا ما تحارب بعضها البعض، رغم دخولها في حروب مع دول أخرى.
أما البنائیة على عنصر الهویة Identity الذي أهملته جمیع النظريات التفسيرية إذ تعتبر الهوية مسألة جوهرية في عالم ما بعد الحرب الباردة، وتؤكد على كیفیة تعامل الهویات مع الطريقة التي تستوعبها الوحدات السیاسیة (الدول) وتستجيب لمطالبها ومؤسساتها وعلى هذا الأساس فالهوية تولد وتصقل المصالح، كما تعتبر هذه المقاربة أن العوامل الثقافية تؤثر بشكل مباشر وغیر مباشر على الهوية، وأن المصالح القومية تنبع من بناء خالص لهوية الذات مقابل هوية الآخر، وهو ما یفسر بروز قضايا الأقليات بعدما تحول الصراع من صراع بین الدول أثناء الحرب الباردة إلى صراع داخل الدول بعد نهايتها، وكذا قضايا الإرهاب والتنظيمات الإرهابية بعد تحول الصراع من إيديولوجي إلى حضاري، فضلا عن تحریك النعرات الطائفية والإنتماءات العرقية والثقافية للأفراد وصناع قرار هذه الوحدات السیاسیة وهي كلها مؤثرات تدل على وجود عدة فاعلين ولیس فاعل واحد في النظام الدولي لما بعد الحرب الباردة.
أما النقدية الاجتماعية فترفض مفاهيم الواقعية الجديدة كمفهوم الفوضى الأبدية للنظام الدولي، مفهوم التوازن في نظام الثنائية القطبية، مفهوم المصلحة الوطنية ومفهوم المأزق الأمني، معتبرة إياها مجرد مجموعة من المفاهيم الإفتراضية والأطروحات الفكرية بشأن الطبيعة السياسية للفاعلين وعلاقتهم بالسيادة فقط،وخلافا للنظرة الواقعية، يعتقد منظروا المدرسة النقدية أن فوضوية النظام الدولي، الدولة الوحدوية والعقلانية، العقد الإجتماعي، معضلة الأمن وكذا الحروب الدولية هي بناءات تاريخية وإجتماعية، وعليه فعالم التهديدات يجب دراسته كبناء إجتماعي مستخدمين التاريخ، الثقافة، الإتصالات، الإيديولوجيات، والعلاقات التي تنشأ بين هذه الأبعاد في تحليله.
أما مدرسة ويلز لدراسات الأمن النقدي تحاول تعميق مفهوم الأمن من خلال إضافة وحدات مرجعية فوق قومية وما دون دولاتية، حيث يرى كل من كين بوث وهوركهايمر ضرورة توسيع مفهوم الأمن ليضم التهديدات التي تحد من حرية الإنسان وإنعتاقه، وليس فقط التهديدات التي تمس أمن الدولة، فالتهديدات غير عسكرية مثل الفقر والتدهور البيئي، خرق حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، وعدم المساواة بين الدول وداخلها، هي تهديدات تتجاوز أخطارها حدود الدولة وتهدد الإنسانية جمعاء.
أما التصور النسوي للأمن فيعبر عن الإلتزام النسوي بالهدف الإنعتاقي والتحرري من أجل إنهاء تبعية المرأة متسق مع التعريف الموسع للأمن الذي يجعل من الفرد المنتمي إلى بنيات إجتماعية واسعة ، من هذا المنطلق تسعى الدراسات النسوية إلى فهم كيف أن أمن الأفراد والجماعات معرض للخطر من طرف العنف الجسدي والهيكلي على جميع المستويات،حيث تجادل بعض الباحثات النسويات بأن الفرضيات الجوهرية للواقعية تلك المتعلقة بالفوضى الدولية وسيادة الدولة تعكس وبشكل خاص الطريقة التي يتعاطى ويتفاعل بموجبها الرجال من العالم، ووفقا لهذه الرؤية فإن النظرية الواقعية تعبر عن المشاركين من الرجال في صنع السياسة الخارجية ومبدأ سيادة الدولة وإستعمال القوة العسكرية.
أما تصورات ما بعد الحداثة للأمن الدولي فيعتمد على تحليل الخطب والتناصintertextuality ، وفي هذا الصدد يسعى ما بعد الحداثيون إلى بناء تصور مفيد للعلاقات الدولية يصلون من خلاله إلى الحقيقةtruth التي تتشكل من خلال اللغة، حيث أن توظيف مفهوم التناص يعني منح اللغة الدور المركزي في إستيعاب وإدراك الواقع الدولي.
أما تصور مدرسة كوبنهاغن للأمن فيقوم بالأساس على توسيع مفهوم الأمن ليضم إلى جانب القطاع العسكري قطاعات أخرى ذات أهمية بالغة على غرار القطاع البيئي والمجتمعي والسياسي والاقتصادي، إلى جانب فواعل أخرى الى جانب الدولة القومية كالفرد والنظام الدولي، مع بقاء الدولة كمرجعية أساسية للتحليل، كما أنه في إطار التحليل الأمني فإن باري بوزان يعتبر مسألة الأمن الإقليمي في إطار العلاقات بين الدول يمكن أن تؤسس شبكة واسعة من الصداقات والتحالفات مع تلك التي تشعر بالخوف، وبالنسبة لبوزان فإن مفاهيم الصداقة والعداوة لا يمكن إرجاعها فقط إلى توازن القوى Balance of Power لأن القضايا التي يمكن أن تؤثر على علاقات الصداقة/العداوة بين الدول قد تكون مرتبطة بالأيديولوجية الإثنية والخلفيات التاريخية، كما يشتمل مركب الأمن على الإعتماد المتبادل في مجال التنافس، أما العامل الأساسي في تعريف مركب الأمن فهو يمثل عادة المستوى العالي من التهديد / الخوف الذي يشعر به بشكل متبادل بين دولتين أو أكثر ، وعليه فإن هذا المقترب من الممكن أن يكون إطارا مناسبا لمناقشة القضايا العالقة في أية منطقة من العالم.
كما يعتبر الأمن المجتمعي واحد من بين أهم عناصر برنامج البحث في الدراسات الأمنية المعاصرة، فقد تجاوز الرؤى التقليدية التي تعتبر المجتمع مجرد قطاع تابع لأمن الدولة بإعتباره كيانا مستقلا بذاته وموضوعا مرجعيا للأمن، فالمجتمع ليس المقصود به بنيته أو تنظيمه بقدر ما تركز الإهتمام حول هويته، فالأمن المجتمعي محورا مهما في التركيز على الهوية أو بعبارة أخرى حول ما يمكن للجماعة من الإشارة لنفسها بضمير نحن في مقابل الأخر الذي قد يشكل تهديدا موضوعيا لهذه الهوية التي تمثل أمة، إثنية، جماعة دينية.
كما أن مسؤولية الأمن المجتمعي مسؤولية جماعية، ولا تقتصر على سياسة دولة أو حكومة، ولا على مؤسسات مدنية، بل هي مسؤولية أفراد وجماعات، ولا يمكن لأحد أن يغض الطرف عن الإختلالات التي تقوض أساس الأمن المجتمعي فإننا أليا سنكون أمام مأزق أمني مجتمعي لأنه إذا تصاعدت حدة المأزق الأمني المجتمعي فإن نتائجه قد تكون خطيرة وتمتد من التنافس لإستفادة موارد نادرة (كالموارد الطبيعية أو المخصصات الحكومية)، إلى السعي لإزالة الطرف الأخر من الوجود عبر التصفية الإثنية.
من جانب أخر تشير فكرة الأمننة إلى المسار الذي يمكن من خلاله لفاعل ما أن يعلن مسألة محددة أو فاعل آخر على أنه يشكل تهديدا فعليا لوحدة مرجعية معينة، وعليه تصبح قضية ما رهانا أمنيا فقط متى تم تأطيرها عبر خطاب أمني على أنها تشكل تهديدا وجوديا يتطلب إجراءات مستعجلة ويبرر الأعمال خارج الحدود الطبيعية للإجراء السياسي.
كما يرى أنصار هذه النظرية أن الأمننة الناجحة تتضمن شرطين أساسيين هما: الخطاب وقبوله الواسع لدى الجمهور، فتصبح قضية ما مسألة أمنية متى أمننت من طرف فاعل ما حكومة، برلمان أو أي سلطة سياسية أخرى وحتى قادة الرأي وكبار البيروقراطيين طالما أن لهم القدرة لممارسة هذا النوع من العمل عبر الخطاب وكان له القبول بوجود توليفة من الشروط المساعدة والسياقات الخاصة التي تتضمن شكل فعل الخطاب، موقع ومنزلة الفاعل المؤمن والظروف التاريخية المرتبطة بهذا التهديد [47].

الهامش
[1] سمير قلاع الضروس، مقدمة في دراسات السلام والأمن في نظرية العلاقات الدولية، مرجع سابق، ص 121
[2] نفس المرجع، ص 122
[3] عمار بالة، مكانة الولايات المتحدة الأمريكية ضمن الترتيبات الأمنية في منطقة البحر الأبيض المتوسط، مرجع سابق، ص 40
[4] حسام حمزة، مرجع سابق، ص14
[5] عمار بالة، التهديدات الأمنية في منطقة الساحل الافريقي وانعكاساته على الأمن القومي الجزائري: مالي أنموذجا، مرجع سابق، ص 71
[6] Barry buzan ” new patterns of global security in the twenty – first centery international affairs 3( 1991) pp 432- 433
[7] أنظر: عبد النور بن عنتر، “المدارس الفكرية في تعريف مفهوم الأمن”، محاضرة مقدمة لطلبة الماجستير، تخصص دراسات متوسطية ومغاربية في التعاون والأمن، الجزائر، باتنة، كلیة الحقوق، قسم العلوم السیاسیة، فیفري 2009، ص13
[8] حسام حمزة، مرجع سابق، ص15
[9] سليم قسوم، مرجع سابق، ص 107
[10] Renate krnter, the art of possible the scenario method and the third debat in international relations theory, a master thesis in ir university of amesterdam, nov. 1998, p9
[11] سليم قسوم، مرجع سابق، ص 109
[12] Alex Macleod Anne – marie d’aoust et David grondin, les études des sécurités, in théories des relations internationales contestations et résistances ; éd ; Alex Macleod et dan O’meara (Québec ; Athéna éditions, 2007) p364
[13] حسام حمزة، مرجع سابق، ص 16
[14] حسام حمزة، مرجع سابق، ص16
[15] نفس المرجع، ص16
[16] سمية أوشن، دور المجتمع المدني في بناء الأمن الهوياتي في العالم العربي دراسة حالة الجزائر، مذكرة مقدمة لنيل شهادة الماجستير في العلوم السياسية، تخصص سياسات عامة وحكومات مقارنة، جامعة الحاج لخضر، كلية الحقوق والعلوم السياسية، قسم العلوم السياسية، 2009 -2010، ص 57
[17] اليامين بن سعدون، الحوارات الأمنية في المتوسط الغربي بعد نهاية الحرب الباردة: دراسة حالة مجموعة 5 + 5، مذكرة مقدمة لنيل شهادة الماجستير في العلوم السياسية، تخصص دراسات متوسطية ومغاربية في التعاون والأمن، جامعة الحاج لخضر، كلية الحقوق والعلوم السياسية، قسم العلوم السياسية، 2011 ـ 2012، ص30
[18] جويدة حمزاوي، مرجع سابق، ص ص 51-52
[19] سليم قسوم، مرجع سابق، ص 112
[20] عمار بالة، التهديدات الأمنية في منطقة الساحل الإفريقي وإنعكاساته على الأمن القومي الجزائري، مرجع سابق، ص 74
[21] اليامين بن سعدون، مرجع سابق، ص 34
[22] سليم قسوم، مرجع سابق، ص ص 114-115
[23] عتيقة كواشي، أليات إدارة المعضلة الأمنية المجتمعية في منطقة الساحل الافريقي، رسالة دكتوراه في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، تخصص: علاقات دولية، جامعة باتنة 1، كلية الحقوق والعلوم السياسية، قسم العلوم السياسية، 2016-2017، ص22
[24] للمزيد أنظر: توفيق بوستي، مدرسة كوبنهاغن والتحول في مفهوم الأمن: نحو إطار جديد للأمن، المجلة الجزائرية للأمن والتنمية، العدد 13 جويلية 2018، باتنة، ص 184
[25] إسماعيل صبري مقلد، الإستراتيجية والسياسة الدولية، المؤسسة العربية للأبحاث، بيروت، 1979، ص ص 222 -223
[26] سليمان عبد الله الحربي،” مفهوم الأمن: مستوياته وصيغته وتهديداته: دراسة نظرية في المفاهيم والأطر،” المجلة العربية للعلوم السياسية، العدد 19، صيف 2008، ص 19.
[27] سليمان عبد الله الحربي، مرجع سابق، ص20
[28] عمار بالة، التهديدات الأمنية في منطقة الساحل الإفريقي وإنعكاساته على الأمن القومي الجزائري، مرجع سابق، ص 77
[29] عمار بالة، مكانة الولايات المتحدة الأمريكية ضمن الترتيبات الأمنية في حوض البحر الأبيض المتوسط، مرجع سابق، ص 47
[30] عبد النور بن عنتر، مرجع سابق، ص 22
[31] سليم قسوم، مرجع سابق، ص 117
[32] عمار بالة، التهديدات الأمنية في منطقة الساحل الافريقي وتداعياته على الأمن القومي الجزائري: مالي أنموذجا، مرجع سابق، ص ص 79-80
[33] زهيرة حواس، الحوارات الأمنية في المتوسط: احتواء أم إطار لهندسة إقليمية؟ دراسة حالة الحوار المتوسطي – الأطلسي، رسالة ماجستير في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، تخصص: دراسات مغاربية ومتوسطية في التعاون والأمن، جامعة باتنة، كلية الحقوق والعلوم السياسية، قسم العلوم السياسية،2010-2011، ص 23
[34] زهيرة حواس، مرجع سابق، ص 23
[35] سليمان عبد الله الحربي، مرجع سابق، ص 20
[36] عشور قشي، نظرية مركب الأمن الإقليمي: دراسة مقارنة بين إقليمي جنوب شرق أسيا والساحل، رسالة دكتوراه في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، تخصص: دراسات إقليمية، جامعة الجزائر 3، كلية العلوم السياسية والعلاقات الدولية، قسم الدراسات الدولية، 2015-2016، ص 68
[37] نفس المرجع، ص 42
[38] عتيقة كواشي، مرجع سابق، ص 67
[39] سليم قسوم، مرجع سابق، ص 119
[40] سمير قلاع الضروس، مقدمة في دراسات السلام والأمن في نظرية العلاقات الدولية، مرجع سابق، ص 90
[41] سعيدي ياسين، التحديات الأمنية الجديدة في المغرب العربي، رسالة ماجستير في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، جامعة وهران2، كلية الحقوق والعلوم السياسية، 2015-2016، ص 27
[42] سليم قسوم، مرجع سابق، ص 118
[43] سمير قلاع الضروس، مرجع سابق، ص 91
[44] سعيدي ياسين، مرجع سابق، ص 27
[45] سليم قسوم، مرجع سابق، ص 120
[46] سليم قسوم، مرجع سابق، ص 121
[47] الآراء الواردة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن المعهد المصري للدراسات.
تعليقات