العدالة الانتقالية والاصلاح السياسي بجنوب افريقيا



 روضة الديب  – باحثة في العلوم السياسية
المقدمة:
تشكل النظام الجنوب أفريقي في عصره الحديث عبر مراحل من الصراع السياسي والتفاوض في التسعينات بين قوى التغيير الممثلة في حركة التحرر بقيادة حزب المؤتمر الوطني، وقوى المحافظة على التمييز العنصري الممثلة في حكومة الأقلية البيضاء، نتج عنها المصادقة على دستور سنة 1996.
ويعتبر نلسون مانديلا  هو مهندس مشروع “الأمة الجديدة” الذي استطاع تجميع السود والبيض على
حد سواء رغم التنوع الاجتماعي القائم، وتحديات العنف السياسي، واللامساواة والفقر والعنصرية التي كانت سائدة.
فبعد ان استطاعت الدولة القضاء على الفصل العنصرى كان عليها ان تعمل على بناء مجتمع متماسك ينبذ العنف والعنصرية بشتى صوره واشكالة وقد كان ذلك لايتحقق الا من خلال وضع عقد اجتماعى بين الحاكم والمحكومين يكون بمثابة المرشد والدليل نحو بناء الدولة على الطراز الديمقراطى .
لذلك كان العمل الجاد من السلطات فى جنوب افريقيا على وضع دستور 1996 ليؤكد على انتهاء العنصرية فى الدولة ، ولكن لم يكن ذلك بالامر السهل فقد كان لابد من العمل على تعويض كل من وقع علية الضرر نتيجة للنظام العنصرى الذى ظل مهيمن على الدولة لاكثر من 60 عام، لهذا كان لابد من البداية تبنى مفهوم العدالة الانتقالية والياتها من اجل تعويض المتضررين وكان لابد من تطبيق اليات العدالة الانتقالية كافة سواء الالية السياسية او الاقتصادية او الالية التى تتعلق بمجال حقوق الانسان . ولكن مايهمنا هنا هو العمل على توضيح  الالية السياسية للعدالة الانتقالية وكيف طبقت فى جنوب افريقيا .
ومن هنا يمكن ان نتوصل الى المشكلة الرئيسة فى هذا العمل البحثى الا وهى دور العدالة الانتقالية فى عملية الاصلاح السياسى فى جنوب افريقيا ،  معتمدين على فترة زمنية تبداء من عام 1996 وحتى عام 1999 الا ان جل تركيز الدراسة يدور حول ما اتى به دستور 1996 من مواد دستورية فى مجال تطبيق الالية السياسية للعدالة الانتقالية . كما ان الدراسة قد اعتمدت على منهج دراسة الحالة  لتوضيح ذلك .
ولذلك فقد قسمت هذه الدراسة الى النقاط التالية :
  • حول مفهوم العدالة الانتقالية والاصلاح السياسى
  • الجوانب السياسية فى دستور 1996 بجنوب افريقيا
  • مظاهر الاصلاح السياسى من عام 1999م وحتى عام 1999
  • معوقات الاصلاح السياسى فى جنوب افريقيا
  • مفهوم العدالة الانتقالية واهدافها
تتميز العدالة الانتقالية عن العدالة الكلاسيكية، بلجوئها إلى مقاربة سياسية،  حيث تتم في لحظة تاريخية محددة لم يسقط فيها النظام السابق تمام ولم تنتصر فيها قوى التغييركلية. فيلجأ الأطراف لحل وسط منطقه أنه يصعب محاكمة المسؤولين عن مظالم الماضي ولاسيما عن الانتهاكات الخطيرة وواسعة النطاق لحقوق الإنسان ، خاصة إذا كانوا لا يزالون ممسكين بجزء معتبر من السلطة، وبالتالي فالأهم هو تسهيل الانتقال نحو الديمقراطية بمنح هؤلاء المسؤولين فرصة للمساهمة في مسارالانتقال بعدم ملاحقتهم قضائيًا مثال على ذلك لجنة الحقيقة والمصالحة فى جنوب افريقيا . ([1])
إن الأغلبية الساحقة لتجارب العدالة الانتقالية أخذت شكل تأسيس “لجان الحقيقة والمصالحة” تحت ضغط القوى الديمقراطية ومنظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية التي تدعم ضحايا الانتهاكات وذويهم الذين تحولوا بدورهم إلى قوى ضغط في المجتمع سواء داخل منظمات حقوق الإنسان أو بجانبها.
وتظهر العدالة الانتقالية من خلال اتخاذ بعض الاجرءات الاصلاحية التى من اهمها ادخال الاصلاحات على مؤساسات الدولة والتى من اهمها المؤسسة القضائية والسعى نحو جبر ضرر الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان وهى بذلك تشير الى جسرا من الانتقال من نمط الحكم التسلطى الى نمط اكثر ديمقراطية ومن هنا فأن تطبيق العدالة الانتقالية فى المجتمعات الديمقراطية حيث لايمكن ان تنمو العدالة الا فى وجود سيادة للقانون .(([2]
ويمكن ان نعرف العدالة الانتقالية على انها ” مجموعة التدابير القضائية وغير القضائية التي قامت بتطبيقها دول مختلفة من أجل معالجة ما ورثته من إنتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. وتتضمّن هذه التدابير الملاحقات القضائية، ولجان الحقيقة، وبرامج جبر الضرر وأشكال متنوّعة من إصلاح المؤسسات
وللعدالة الانتقالية مجموعة من الاليات وهى :
تقصي الحقائق:
عن طريق تشكيل لجنة مستقلة تتقصي حقائق جرائم الماضي وكيفية ارتكابها والمسئول عنها، وتحدد ضحاياها.
محاكمات الأفراد المسئولين عن جرائم الماضي:
سواء على انتهاك حقوق الإنسان أو جرائم اقتصادية متعلقة بقضايا الفساد واستغلال النفوذ والرشوة.مثال على ذلك محاكمة النازيين بعد الحرب العالمية الثانية .([3])
الإصلاح التشريعي والدستوري:
ويتضمن التخلص من قوانين الماضي التي شرعت  من أجل هيمنة النظام السابق على مقدرات الحياة السياسية، وكرست لمبدأ إفلات الجناة من الموظفين العموميين  وغيرهم من العقاب.
كما يتضمن سن قوانين ودستور جديد يتوافق مع الانتقال إلى الديمقراطية. ويندرج تحتها أيضًا كل ما يراه المجتمع ضروري للتعامل مع ميراث من القمع وانتهاكات حقوق الإنسان حتى إذا تطلب ذلك تغيير القانون الجنائي والقوانين سيئة السمعة التي كان يتحصن بها النظام البائد لتبرير أفعاله الإجرامية.([4])
 تغيير المناهج التعليمية:
وذلك لتكون قائمة على ترسيخ قيم الحرية والديمقراطية، وفحص المناهج القديمة لاسيما المتعلقة بالتاريخ وتنقيحها مما قد شابها من تشويه وذلك عن طريق لجنة مستقلة .
وتعمل هذه الاليات وغيرها معا من اجل تحقيق مجموعه من الاهداف وهما على النحو التالى :
  • توفير العدالة للضحايا وتطبيق مبادى المساله والشفافية
  • إعادة سلطة القانون
  • اعادة تاهيل مؤساسات المجتمع المدنى لتشجيع الديمقراطية وحقوق الانسان
  • ضمان عدم انتهاك حقوق الانسان وتشجيع التعايش السلمى بين الافراد.( [5])
ويمكن القول بأن الغاية الاساسية للعدالة الانتقالية تقوم على تعزيز مبأدى الديمقراطية وحقوق الانسان .
2– الاصلاح السياسى اسبابه ودوافعه
الاصلاح السياسى عادة مايكون هو المؤشر الاساسى والرئيسى الدال على وجود تنمية سياسية فى المجتمع حيث انه يشمل على الخطوات النهائية التى تودى الى تحقيق ونقل المجتمع من النظم التسلطية الى النظم الديمقراطية ويمكن ان نعرف الاصلاح السياسى على انه التغيير في أسلوب و  أدوات الحكم وفي كيفية إدارة الدولة وهو مجموعة من الإجراءات والخطوات تهدف الانتقال من نظم حكم تتسم بالتسلطية والاستبداد إلى نظم حكم تقوم على قاعدتي المشاركة والتمثيل ويمارس المسئول سلطته وفقًا للدستور. ([6])
وبذلك فان جوهر الاصلاح  يدور حول فكرة التقدم اى التغيير نحوالأفضل، وخاصة التغير الأكثر ملائمة من أجل تحقيق الأهداف الموضوعية من قبل أصحاب القرار في حقل معين من حقول  النشاط الإنساني سواء كان هذا النشاط نشاط سياسى او اقتصادى او اجتماعى .اما عن الدوافع التى تقود المجتمع الى ادخال اصلاحات سياسية فنجد الدوافع التالية :([7])
  • إن الإصلاح عادة ما يتم في ظروف حدوث ازمة ما فالأزمة هى الانطلاق التي تمثل خطراً أو تحدياً للنظام القائم، وبالتالي لابد من التصدي لهذه الازمة من خلال اتخاذ قرارت حاسمة وادخال اجراءت اصلاحية على موساسات الدولة السياسية .
  • – إن دعاة الإصلاح عادة ما يستندوا في دعواتهم الإصلاحية إلى عقيدة فكرية أو إيديولوجية تساعدهم في تبرير الأفكار الإصلاحية والدفاع عنها.
  • عملية الإصلاح التى تأتي بمبادرة من القائد ومن هم حوله  اى “النخبة الحاكمة”  لابد من أن يدفع نحو توسيع قاعدة المشاركة السياسية، وخلق عناصر وفئات تستفيد من عملية الإصلاح حتى يكتب له النجاح والاستمرارية، فكلما اتسعت قاعدة المشاركة في عملية الإصلاح كلما زادت شرعية الإصلاحات، فالإصلاح الذي يتم من أجل حريات الناس ومصالحهم ومن اجل مستقبلهم، لا شك سوف يدفعهم إلى التمسك به وحمايته مما يحاولون عرقلته أو الإساءة إليه، وبالتالي لابد من أن يؤدي الإصلاح إلى حراك اجتماعي وخلق إرادة مجتمعية.
كما ان الاصلاح السياسى لايقتصر فقط على اعادة هيكلة الموساسات السياسية وتغير فى اعضاء الحكومة بل قد تشمل  العديد من الاشكال الاخرى والتى نجد منها على سبيل المثال لا الحصر (الإصلاح الدستوري والتشريعي: وهو ناتج من الدستور الذى هو اساس قوانين الدولة ، فلا يجوز أن تتناقض مواده مع نموذج النظام السياسي الذي ينشده المجتمع، ويجب أن تتوافق مواده مع المواثيق الدولية لحقوق الإنسان). ويعنى ذلك أن تعكس نصوص الدستور المتغيرات والتطورات التي وقعت بالفعل وهذه الاصلاحات عادة ماتتم من خلال  تعديل المواد التي تتعارض مع المتطلبات الديموقراطية الحقيقية مع إزالة الفجوة بين نصوص الدساتير وأهداف المجتمع في التطور الديموقراطي، وذلك بما يضمن:
  • الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية فصلا واضحا وصريحا
  • تجديد اشكال الحكم بما يضمن تداول السلطة بالطرق السلمية
اقامة انتخابات دورية حرة ونزيههة تصون الممارسة السياسية الديمقراطية وتضمن عدم احتكار السلطة.([8])
وعندما يقوم المواطنون فى الدولة بالمنادة بادخال الاصلاحات السياسية عادة ماتتركز المطالب التى ينادون بتحقيقها فى عدد من النقاط التى تكلمت  عنها اغلب الادبيات السياسية والتى منها نجد :
  • سيادة الدستور والقانون
  • التعددية الحزبية واحقية المواطنون فى تشكيل الاحزاب دون قيود
  • الحرية فى تكوين المواساسات وانشطة المجتمع المدنى
  • حماية الحريات العامة كما يكفلها القانون والدستور مثل حرية ابداء الرى وحرية الصحافة وغير ها الكثير.
ثالثا: الاصلاحات السياسية فى دستور 1996:
عندما استطاع المؤتمر الوطنى الافريقى تحقيق الفوز فى انتخابات جنوب افريقيا فى عام 1994 مثل ذلك الحدث انتصار قوى لكل من ناضل ضد سياسة الفصل العنصرى وبالتالى تحقق حلم الملايين من الطبقة السوداء فى جنوب افريقيا فى حقهم باختيار حكومة تمثل كافة اطياف الشعب هناك .ومع وصول ” مانديلا” الى الحكم كرئيس للبلاد توجب على الاقلية البيضاء التخلى عن السلطة التى مارسوها بوحشية طوال فترة الفصل العنصرى .
ومع دخول المجتمع الجنوب افريقى نحو فترة جديدة من الاصلاحات السياسية والاقتصادية وغيرها تتطلب ذلك الامر اعداد دستورا جديد ليكون بمثابة الاطار الذى سوف يعتمد عليها السلطات فى بناء التنمية فى البلاد .
ولهذا أجريت المفاوضات الاولى حول الاتفاقات المتعلقة بالعملية الدستورية لوضع دستور جديد للبلاد من خلال حوارات مكثفة  خاصة وعامة بين الخصوم السابقين فى الدولة، بالاضافة الى مفاوضات تتعلق حول الشكل الذى يجب ان تأخذه عملية وضع الدستور، وتلقت الجمعية التأسيسية للدستور ما بين سنتى  1994 و1996 مليونى اقتراح من جانب الأفراد، ومجموعات المناصرة والدفاع، والجمعيات المهنية، وأصحاب المصالح الأخرى حول مقترحات لوضع الدستور[9]
ويتكون الدستور فى دولة جنوب إفريقيا من أربعة فصول تضم 243 مادة بالاضافة الى  مجموعة من الجداول الملحقة الخاصة بالنشيد الوطنى  والحدود وعلم الدولة والتقسيم الإدارى المحلى وأمور أخرى. ولكن الذى  يهمنا فى اطار موضوع الدراسه هو الفصل الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الخاصة والعامة الواردة فى الفصل الثانى بدءا من المادة السابعة إلى المادة التاسعة والثلاثين. وهو الفصل الذى يحمل  عنوان حقوق الإنسان المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية . الا انه فى اطار الدراسة سوف نضع الاهتمام الاكبر بالحقوق المدنية والسياسية التى اقرها الدستور والتى هى كما يرى البعض نتاج لما هدفت الية العدالة الانتقالية بتحقيقة من الناحية السياسية فى المجتمع الجنوب افريقي . وسوف نحاول ان  نوضح ذلك من خلال توضيح المواد الدستورية التى تناولت ذلك الامر على النحو التالى :
  • جاءت المادة ال (7) من دستور جنوب افريقيا لتنص على ان وثيقة الحقوق تعد هى الاساس لبناء مجتمع جنوب افريقيا الديمقراطى بل وتوكد على ترسيخ قيم الديمقراطية والمساؤاه والحرية وكرامة . وتوكد ايضا هذه المادة على ان الدولة تحترم كافة المواد القانونية التى تنص عليها هذه الوثيقة
  • وتاتى المادة ال (9) لتنص على الجميع سواسية أمام القانون ولكل شخص الحق في التمتع بحماية متساوية وفي الاستفادة من القانون. تتضمن المساواة التمتع الكامل على قدم المساواة بكل الحقوق والحريات. ولتعزيز المساواة، يجوز اتخاذ تدابير تشريعية وغيرها من التدابير لحماية أشخاص أو فئات معينة، مهمّشين بسبب التمييز المجحف ضدهم والنهوض بأوضاعهم.
  • وتأتى المادة ( 16) للتحدث عن حرية الابداع والتعبير عن الراى وتنص هذه المادة على انه لكل شخص الحق في حرية التعبير، بما في ذلك:
  • حرية الصحافة ووسائل الإعلام الأخرى.
  • حرية تلقي المعلومات أو الأفكار أو نشرها.
  • حرية الإبداع الفني.
  • حرية التفكير الأكاديمي والبحث العلمي.[10]
فقديما وفى ظل سياسية الفصل العنصرى حظرت حكومة الأقليات البيضاء النفاذ إلى المعلومات الاجتماعية والسياسية والأمنية لقمع معارضة سياسات التفرقة العنصرية التي مارستها. كانت. كانت حرية الصحافة شبه غائبة بسبب الرقابة المفروضة على القصص أو بسبب منع المنشورات ومصادرتها.[11] ولكن الدستور الجديد راعى تلك الاشكالية وقرر ان يضعها من اولويات الاصلاح السياسى من خلال ماسبق توضيحه فى المادة ال 16 من الدستور. كما ان ذلك الامر يمثل صورة من صور تحيق العدالة الانتقالية ذات البعد السياسى .
  • المادة ال (19) ىتنص هذه المادة على الحقوق السياسية التى تكفلها الدولة للمواطنين وتنص هذه المادة على عدد من الحقوق لعل اهمها
  • لكل مواطن الحق في أن يختار بحرية توجهاته السياسية، بما في ذلك الحق في:
  • تشكيل حزب سياسي
  • المشاركة في أنشطة اى حزب سياسي
  • الترويج لحزب سياسي أو لمسألة سياسية.
  • المواد من 20 الى 23 تتحدث عن الحقوق المدنية من خلال المواطنه وعلاقات العمل وغيرها من الحقوق التى تندرج تحت مايعرف بالحقوق المدنية .
فعلى سبيل المثال تتحدث المادة (20) عن حقوق المواطنة من خلال تاكيدها على لايجوز ان يحرم اى فرد من حق المواطنة ، المادة ( 23) تنص على علاقات العمل والتى تضع عدد من الحقوق التى تمنح الى العمال وارباب العمل فى جنوب افريقيا وذلك من منظور اقتصادى واخر سياسي فيركز الجانب السياسى لهذه المادة على احقية العمال فى تكوين نقابات عمالية تتحدث باسمهم امام الحكومة . ونجد ان الافاده من عرض هذه المواد يساعد فى معرفة مظاهر الاصلاح السياسى الفعلى فى البلاد تحت حكومة حزب المؤتمر الوطنى الافريقى الحاكم فى البلاد فى الفترة من 1994 وحتى 1999 وهى الفترة الزمنية التى تتحدث عنها الدراسه.
مظاهر الاصلاحات السياسية بعد دستور 1996:
لقد ادى دستور 1996 فى جنوب افريقيا الى ادخال العديد من الاصلاحات السياسية على شكل وطريقة الحكم فى البلاد بما يتلائم مع متتطلبات شكل الدولة بعد نهاية الفصل العنصرى  هذا من جانب ومن جانب اخر يساهم فى تحقيق العدالة الانتقالية. وفى هذا الاطار سوف نشير الى بعض الاصلاحات السياسية التى شهدتها جنوب افريقيا بعد اصدار الدستور
  • يكشف شكل السلطة التنفيذية والتشريعية لحكومة جنوب افريقيا بعد وضع الدستور الجديد درجة كبيرة من التمثيل الاثني للجماعة البيضاء والهنود بدرجة أكبر من نسبتهم في المجتمع علي حساب نسبة تمثيل السود والملونين ويمكن إرجاع ذلك التمثيل الكبير لكل من جماعة البيض والهنود في أول حكومة وطنية إلي الخبرات التقنية والعملية للجماعتين من ناحية والأهم من ذلك رغبة النظام في احتواء مخاوف هاتين الجماعتين المؤثرتين اقتصاديا وجذب مزيد من تأييدهما للنظام . علاوة علي أنه باعتبار أن هذه هي المرة الأولي التي يصل فيها الأفارقة السود إلي سدة الحكم ، فإن النسبة التي مثلوا بها كانت تعتبر في نظر الغالبية من أبناء الجماعة انتصارا كبيرا وأن ابدي فريق منهم عدم رضاء عن تعاظم نسبة غير الأفارقة في المناصب الحكومية والإدارية بصفة عامة  .([12] )
الا انه وعلى الرغم من حرص الدستور في صياغته للنظام السياسي علي أن يتم تمثيل هذه الجماعات من خلال الأحزاب السياسية ،  الا انه لم يسمح بالتمثيل المستقل خارج القوائم الحزبية علاوة علي الأخذ بفكرة القوائم المغلقة التي تحد من إمكانات الانتقاء بين القوائم المختلفة ، فضلا عن عدم السماح للأعضاء المنتخبين في البرلمان علي قوائم حزب بعينه بالانتقال إلي حزب أخر إلا عن طريق التخلي أيضا عن عضوية البرلمان إلي ، عضو أخر في الحزب الذي يغادره ، الأمر الذي أحدث انضباطا حزبيا داخل السلطة التشريعية ، ومثل أداة لإدارة الخلافات عبر هذه الأحزاب
  • وعلي الصعيد الاقتصادي ، وفي ظل الواقع الاقتصادي المعقد بين الجماعات المختلفة في جنوب أفريقيا وذلك يعتبر من ارث الفصل العنصرى ، سعي النظام السياسي إلى التوفيق بين احتواء مخاوف البيض فيما يتصل بممتلكاتها وأوضاعها الاقتصادية المتميزة في المجتمع من خلال تأكيد الالتزام بالضمانات الدستورية الواردة في هذا الشأن ، والتجاوب مع آمال وتطلعات الجماعات المستضعفة خلال الحقبة العنصرية وفي مقدمتها الجماعة السود ، من خلال زيادة تمثيل هذه الجماعة في المؤسسات والإدارات العامة في البلاد والتعهد بإصلاح الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتدنية لهم من خلال التأكيد علي الالتزام بما ورد في برنامج التعمير والتنمية وبما اتى الدستور به من حقوق اقتصادية ومدنية وسياسية .( ([13]
ويوكد   ذلك الامر على التصريحات السابقة التى اتى بها مانديلا عندما تم انتخابه كرئيس للبلاد والتى اكد فيها على حرصه على عدم ان تشهد البلاد اى نوع من سياسية الفصل العنصرى بصورة او باخرى لذلك اكد انه سيحافظ على على الادوار الرئيسة لهذه الاقليات فى تحقيق النمو الاقتصادى للدولة .([14])
  • كما انه من خلال الدستور الجديد والذى قام من اجل صناعة دول ديمقراطية تنبذ العنف وتعمل على نشر قيم التسامح وغيرها من سمات المجتماعات الديمقراطية فقد عملت الحكومة بعد ان تم وضع الدستور فى التاكيد على هذه القيم فى المجتمع وذلك من خلال الاعتقاد الذى ساد لدى النظام السياسى الحاكم الجديد بأهمية قيم التسامح وقبول الآخر كمتطلبات أساسية لدفع العملية الديمقراطية والحيلولة دون فشل ماتم انجازة فى القضاء على التفرقة العنصرية ، ويرى البعض ان سياسة المصالحة الوطنية التي سعت حكومة الوحدة الوطنية إلى تطبيقها بمقتضى قانون الوحدة الوطنية والمصالحة الصادر عام 1995 م كانت أحد الأدوات الأساسية في تدعيم المسار الديمقراطي في البلاد اى ان هذه القيم لم تأتى نتيجة لوضع الدستور بل جاء الدستور الجديد ليحصنها بمواد توكد على اهميتها فى تدعيم المسيرة الديمقراطية للدولة .([15] )
ونجد انه عندما تولى مانديلا رئاسة البلاد وحاز على السلطة ، لم يعمد الى استثناء الاطراف الاخرى ، بما فيها البيض من السلطات ، حتى بلغ الامر بمانديلا أن يطلب من دي كليرك الانضمام الى الحكومة . وتم منح البيض العديد من المناصب الحكومية المهمة وذلك لبث روح السلم والثقة بين جميع الاطراف
وعلى الرغم من التعارضات والتناقضات الكامنة خلف هذه السياسة وهي التناقضات الناجمة عن تعارض مقتضيات تحقيق العدالة والقصاص من جناه المرحلة العنصرية من ناحية ، وبين ضرورات تحقيق الاستقرار في المجتمع من خلال إصدار عفو عام عن الجناة وبدء مرحلة جديدة من التسامح والعفو المتبادل بين جماعات المجتمع وفئاته المختلفة  . الا ان أن قانون المصالحة الوطنية قد تجاوب مع تلك المخاوف والشكوك من خلال النص علي انه : لتحقيق الوحدة والمصالحة ، فإنه لابد وان يكون مبتغاها النهائي هو العفو الذي يقتضي بدورة المصارحة التامة بما تم ارتكابه من انتهاكات لحقوق الإنسان .([16])
  • كما انه فى اطار الاصلاحات السياسية التى جاء بها الستور نجد انه فيما يتعلق بالسلطات المحلية فقد اعطاها مزيد من السطات التنفيذية وبخاصة فى اطار تنفيذ السياسات التى تتعلق بتوفير الخدمات وادارة شئونها الداخلية ويعتبر ذلك الامر الى قيام الحكومة المركزية بتوسيع اختصاصاها مستغلة بذلك المساحة .[17]
  • الى جانب تكوين السلطة التشريعية فى البلاد بما يتلائم مع واقع الدولة من الناحية الاجتماعيىة حيث اصبحت السلطة التشريعية مكونة من مجلسين وهما البرلمان الوطنى وفية يتم انتخاب اعضاءه لمده خمس سنوات والمجلس الوطنى للمقاطعات ، ويتم انتخاب اعضاءه لمدة خمس سنوات ايضا.([18]
فيما يتصل باختصاصات الحكومة الوطنية والحكومات علي مستوي المقاطعات والمحليات ، ومحاولات الحكومة المركزية توسيع اختصاصاتها علي حساب الحكومات الإقليمية والمحلية مستغلة في ذلك المساحة الكبيرة من الاختصاصات المشتركة والتوسع في تفسير الاختصاصات الخاصة بالحكومة المركزية 0
معوقات الاصلاح السياسى فى جنوب افريقيا من 1994 وحتى 1999
على الرغم من اشادة الكثير من الباحثين والاكاديمين السياسين وغيرهم بأن الاصلاحات السياسية التى جاء بها الدستور تكفل اى مجتمع نحو تحقيق الاصلاح والتحول الديمقراطى والسياسى الا ان التجربة الديمقراطية فى جنوب افريقيا تعرضت لبعض المعوقات وبخاصة فى الفترة التى تلت القضاء على سياسة الفصل العنصرى مباشرة وهنا سوف نشير الى بعض من هذه المعوقات .
مشكلات اقتصادية:
وتتمثل بشكل اساسى فى استمرار واقع التفاوت في الدخول ومستويات المعيشة بين فئات المجتمع وتدني مستوي معيشة الأفارقة السود بدرجة كبيرة مقارنة بغيرهم من الجماعات لاسيما البيض ، مع تركز الثروة في يد الجماعة البيضاء وتمثل قضية ملكية الأرض واحدة من أخطر محاور الصراع السياسي في جنوب أفريقيا التي تلقي بظلالها علي مستقبل التجربة الديمقراطية، حيث يطالب السود باستعادة أراضيهم التي انتزعت منهم في الحقبة العنصرية وإعادة توزيعها دون تعويض أو مقابل؛ باعتبار أن البيض حينما حصلوا عليها لم يدفعوا مقابلا وقد ظهر تاثير ذلك على النظام السياسى فى تلك الحقبة فى انه النظام  سيجد  نفسة ملزما باتخاذ موقف من مطالب الجماعات في هذا الصدد ، خاصة مع ارتباط هذه القضية بتهديد بعض جماعات الأفارقة بعدم الانتظار طويلا ، معربين بذلك عن استيائهم من سياسة الحكومة بشأن هذه القضية ، ومحذرين من تكرار تجربة زيمبابوي  .([19])
كما انه بعد نهاية نظام الفصل العنصرى وسيطرة حزب المؤتمر الافريقى على الحكم هناك تزايدت التوقعات بشأن اعادة توزيع الدخل القومى من جانب الشعب والنخب السياسية الامر الذى ادى الى ممارسة نوع من الضغط على السلطات الحاكمة فى ذلك الوقت.([20])
ارتفاع معدلات العنف والجريمة :
بشكل عام يمكن القول ان ارتفاع معدلات العنف والجريمة في جنوب أفريقيا أحد الآثار الجانبية لعملية التحول ، أو أحد ملامح الأمراض الاجتماعية والتفاوتات الاقتصادية القائمة في مجتمع جنوب أفريقيا . ألا أن ارتفاع معدلات العنف والجريمة تمثل بذاتها تحديا للتجربة الديمقراطية من خلال انعكاساتها علي قدرات النظام وإمكاناته بفعل تأثير هذا العنف علي أبعاد أخري سياسية واقتصادية واجتماعية في ظل علاقة تساندية دائرية بين هذه الأبعاد .
فمن ناحية كشف العنف  في جنوب أفريقيا  عن استمرار واقع العنصرية بين الجماعات الأثنية والعرقية في البلاد علي النحو الذي عبر عنه الرئيس نلسون مانديلا قبيل مغادرته السلطة عام 1999، فعلى سبيل المثال وصل عدد الجرائم فى جنوب افريقيا عام 1997 الى حوالى 24 الف جريمه قتل و52 الف جريمة اغتصاب و 250 الف حالة سرقة .([21])
كما ان تصاعد حدة العنف في البلاد قد أثر سلبا علي القدرات الاقتصادية للنظام من خلال اتجاهين أساسيين هما هجرة العديد من الكفاءات والعقول من البلاد وهروب بعض الاستثمارات من الداخل من ناحية وأحجام وضعف تدفق الاستثمارات الخارجية إلي البلاد من ناحية أخري . الأمر الذي يزيد بدورة من حدة الأزمات الاجتماعية والاقتصادية ، ويزيد من الضغوط الدافعة نحو سياسات إصلاحية تدخلية من جانب الدولة علي حساب الصيغة الليبرالية الرأسمالية .
انتشار ظاهرة الفساد :
تشير البيانات  التى اجريت عن حكومة جنوب افريقيا فى الفترة من 1994 وحتى 1999 إلي تزايد شعور الجماعات علي اختلافها في جنوب أفريقيا ، بانتشار الفساد في ظل التحول السياسي  بعد سياسية الفصل العنصرى  حيث تشير إحدى الدراسات إلي أنه في عام 1998 م أعرب 25% من المبحوثين عن اعتقادهم أن الحكومة الجديدة لاتقل فسادا عن سابقتها العنصرية ، وأعرب 41% من المبحوثين عن اعتقادهم أن الحكومة الجديدة أكثر فسادا . الأكثر من ذلك أن 56% من المبحوثين أعربوا عن اهتمام المسئولين الحكوميين بمصالحهم الشخصية ، وأعرب 50% من المبحوثين في دراسة أخرى أجريت عام 1997 م عن اعتقادهم أن معظم المسئولين الحكوميين فاسدين.  وتلقي قضية الفساد بظلالها علي مستقبل النظام السياسي من زاويتين أساسيتين أولهما
  • ما تؤدي إليه من هدر للقدرات وإضاعة للمصالح العامة لحساب مصالح شخصية
  • أثر الفساد علي شرعية النظام الحاكم والمسئولين وأثر ذلك علي التزام الأفراد والمواطنين وانصياعهم لقرارات النظام وسياساته
الخاتمة :
يعد دستور جنوب إفريقيا الذي صدر سنة 1996 أحد الدساتير الرائدة في العالم، تفرد عن معظم الدساتير التي سبقته بمزايا وخصوصيات. فقد كان هدفه وطني كبير يتعلق بإحداث التغيير في المجتمع الجنوب إفريقي نحو العدالة والمساواة بين الأقلية من البيض الأوروبيين والأغلبية من السود ، وإنهاء النزاعات العرقية بين الإثنيات العديدة التي يتكون منها مجتمع الأفارقة السود ، وطي صفحة الماضي ومنع أشكال التمييز العرقي كافة الذي امتد لعشرات العقود وشمل جميع جوانب الحياة ، بما فيها التمييز ضد السود في التعليم والصحة والرياضة وغيرها إضافة إلى الحرمان من حق الانتخاب. وكافة هذه الاهداف جاءت منبثقة من اهداف العدالة الانتقالية اى اننا يمكن القول بأن اهداف العدالة الانتقالية فى جنوب افريقيا قد ترجمها دستور 1996 الى مواد دستورية وقانونية للتاكيد على التزام السلطات فى ذلك الوقت بهدفه الاسمى الا وهو تحيقيق العدالة والمسأوه من اجل بناء مجتمع ديمقراطى .
الا انه ومن خلال ماتم عرضة عن دور العدالة الانتقالية فى  تحقيق الاصلاح السياسى فى جنوب افريقيا نجد ان الفترة من 1994 وحتى عام 1999 قد شهدت العديد من المشكلات التى اثرت بدورها على مسيرة الديمقراطية فى المجتمع الجنوب افريقى ، وهذا يعتبر امر طبيعى نظرا لزيادة ثورة التوقعات التى حدثت بعد نهاية الفصل العنصرى من جانب ومن جانب اخر عدم الخبرة السياسية للسود فى تولى امور الادارة فى البلاد الا انه على الرغم من ذلك فلا يمكن ان ننكر بأن الحكومة التى تولت زمام الامور فى البلاد فى خلال الحقبة التى تلت نهاية الفصل العنصرى فى تحقيق بعض صور المسأوه داخل المجتمع وعملت على صياغة نظام سياسى يتماشى مع وضع الدولة بعد نهاية الفصل العنصرى .
ولعل اكثر المشكلات التى اثرت على مسيرة العملية الديمقراطية فى جنوب افريقيا هى المشكلات الاقتصادية وبخاصة فيما يتعلق بزيادة معدلات الفقر فعلى الرغم من ان الحكومة قد عملت على زيادة الانفاق على البنية التحتية وغيرها وعملت على زيادة فرص تولى الوظائف فى القطاع الحكومى الا ان ذلك لم يكن له دور قوى فى الحد من مشكلة الفقر فى المجتمع وبخاصة بين فئة الاغلبية السوداء .
الامر الذى اثر بدوره على تحقيق اليات العدالة الانتقالية فى واقع المجتمع الجنوب افريقى من الناحية الاقتصادية والسياسية كمان ان مشكلات الامن كان لها دور قوى فى الحد من مسيرة الاصلاح السياسى فى الدولة . لذلك يرى البعض انه حتى يحدث اصلاح سياسى متكامل فى جنوب افريقيا يكون لاليات العدالة الانتقالية دور قوى فيها لابد من العمل على الترابط بين المواطنين السود والبيض وتوجههم نحو مستقبل يسوده السلام والاستقرار، و العمل على حل الاحتقان السياسي المتمثل في جمود العلاقة بين القوى السياسية المختلفة  ، بالإضافة إلى وجود مؤسسات مجتمع مدني قوية وذات نفوذ والعمل على حل المشكلات الاقتصادية بشكل فورى وعاجل مع تواجد منظومة امنية قوية لمواجهة المشكلات الامنية فى البلاد لان المشكلات الامنية كانت احدى اسباب اعاقة الاصلاح السياسى فى الدولة ،  بالاضافة الى تواجد قادة سياسين أقوياء.([22])