https://www.elsiyasa-online.com/ |
محمد نبيل الغريب البنداري – باحث سياسي
شهدت السياسة الخارجية التركية منذ المحاولة الإنقلابية عام 2016، تحولاً كبيراً، وظهر ذلك في نمط التعاطي التركي مع الفواعل الإقليمية والدولية وخاصة تجاه الأزمة السورية، فعلى الصعيد الداخلي وظف حزب العدالة والتنمية نتاج تلك المحاولة الإنقلابية عبر تصفية خصومه السياسيين المدعومين من زعيم المعارضة التركية “فتح الله كولن” أو عبر إستخدام القوة الخشنة في إرساء فكرة الإرث العثماني الجديد والتوسع جنوباً، كما طالب أردوغان في 24 يوليو 2016، بتعديل الإتفاقية الموقعة في مدينة لوزان السويسرية عام 1923، والتي على أثرها تمت تسوية حدود الدولة التركية. والتي تنظر تركيا لها على أنها لها أحقية تاريخية بها مثل مدينتى جرابلس ومنبج فى محافظة حلب و مدينة عفرين حتى محافظة السليمانية في شمال العراق.
من هذا المنطلق فإن تعاطي السياسة التركية مع بعض الفواعل الإقليمية والدولية قد شابه بعض من التوتر والفتور نتيجةً لهذا النمط الجديد الذي تبنته السياسة الخارجية التركية خصوصاً تجاه أزمات الإقليم والتي يتشابك فيها حتماً برجماتيات ومصالح دولية وإقليمية عديدة.
السياسة الخارجية التركية تجاه الأزمة السورية:
- (أ)تركيا ومتغيرات الحرب السورية. “مجال الحركة والمقيدات”
منذ إنطلاق الثورة السورية أذار 2011، وتبنت أنقرة في سياستها الخارجية تجاه سوريا المراوحة بين الشدة واللين، فتارة تبدي بعض المرونة تجاه النظام السوري، وتارة أخرى تبدي تشدداً في تصريحاتها حول ضرورة رحيل الأسد، ففي عام 2013 قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان: بأن بشار الأسد سيرحل عاجلاً ام أجلاً(1) بيد صرح وزير الخارجية التركي مولود تشاوش أوغلو: تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، في مؤتمربالدوحة أن بلاده ستدرس العمل مع بشار الأسد في حال فوزه في الإنتخابات المقبلة(2). وهذا يضع أنقرة محل الإزدواجية في التصريحات.
ولكن على الرغم من تلك التصريحات إلا أن الإهتمام الأكبر بالنسبة لأنقرة في الأزمة السورية الأن، يتمثل في محاربة وحدات حماية الشعب الكردي في الشمال السوري ويتضح هذا من خلال العمليتان العسكريتان التركية درع الفرات و”غصن الزيتون” التي نفذتها ضد وحدات حماية الشعب في غرب الفرات في أغسطس وإبريل 2016،(3) وتسعى الأن تركيا لتنفيذ تلك العملية ذاتها في شرق الفرات إلا أن الحسابات والرهانات في تلك المنطقة مختلفة قليلاً، والتي تخضع لمقايضات وتوازنات سياسية دقيقة، حيث أن هناك القوات الأمريكية التي لا تزال موجودة في تلك المنطقة على الرغم من قرار الإنسحاب الأمريكي الأخير من سوريا والذي إتخذه ترامب مطلع العام الجاري وعلى أثر هذا القرار الأمريكي بالإنسحاب فقد أخطأت أنقرة الحساب هنا بأن القوات الأمريكية ستغادر سوريا وستترك الأكراد مكشوفين لعملياتها العسكرية ولكن فور هذا القرار زار مسؤول الأمن القومي في إدارة ترامب جون بولتون أنقرة في يناير الجاري(4) مؤكداً؛ رفض واشنطن التعرض لحلفائها الأكراد في شمال سوريا، حيث سيسبب هذا معضلة كبيرة أمام تركيا في دخول منطقة شرق الفرات وشن عملية عسكرية ضد الوحدات الكردية هناك، ولكن تحاول تركيا في الوقت الحالي إنتهاج إسلوب المفاوضات والدبلوماسية مع القوى الناشطة في الأزمة وخصوصاً واشنطن للوصول إلى حل في تلك المنطقة، كمثل إقامة منطقة أمنة على الحدود التركية السورية، وبالتالي سيضمن هذا إلى إنتقال تلك الجماعات التي تشكل خطورة على الأمن التركي للعمق السوري، أضف على ذلك التنسيق المتبادل مع روسيا على الأقل لأخذ الضمانات الكافية وسط الحشد العسكري الكبير لتركيا على الحدود شمال سوريا.
- (ب) محددات السياسة الخارجية التركية ” في إطار التحالف”
لقد صُبغ مثلث العلاقات بين أنقرة وموسكو وطهران في حدود الأزمة السورية بالتعاون والتنسيق المتبادل فيما يخص مسار العملية السياسية والمفاوضات الجارية او فيما يخص التنسيق العسكري بين الثلاث عواصم على الرغم من وجود بعض الخلاف الجوهري في بعض القضايا، ووجدت أنقرة في التعاون الثلاثي الأرضية المشتركة للعمل معاً كتكتل تجاه الدول الغربية التي تعمل على ضرب مصالح الثلاث عواصم في سوريا، حيث لم يظهر هذا التنسيق بكل قوته إلا بعد العملية الإنقلابية في 15 يوليو 2016.
ويبدو هذا التنسيق من خلال القمم المتبادلة والتي تخص الحرب السورية في الثلاث دول ففي إبريل 2018، عقدت قمة ثلاثية شملت روسيا وإيران في تركيا لبحث الأزمة السورية ومستقبلها(5) وفي سبتمبر من العام نفسه عقدت القمة الثلاثية نفسها في طهران لبحث تثبيت وقف إطلاق النار في سوريا وبحث الأزمة(6). وكان أخرها القمة الروسية التركية 24 يناير الجاري في موسكو بين الرئيسين بوتين وأردوغان.(7) حيث تم الحديث بين الرئيسين على اتفاق أضنة الذي وقع بين سوريا وتركيا عام 1998، والذي ينص على أن يسمح لتركيا بالتوغل بواقع 5 كلم داخل الأراضي السورية عندما يتعرض الأمن القومي التركي للخطر، ويبدو أن هذه الخطوة هي ورقة روسية للضغط على الأكراد في الشمال السوري لفتح مباحثات بشكل سريع مع الحكومية السورية في دمشق.
ولذلك يمكن القول أن التعاون التركي- الروسي والتركي-الإيراني يأتي إنطلاقاً من أن التعاون الأول حتمي لإن روسيا هي من تمتلك مفاتيح الملف السوري بالإضافة إلى ذلك ان روسيا تستخدم ورقة تركيا كورقة ضغط على الأكراد لإجبارهم للعودة للمفاوضات والمباحثات السياسية مع دمشق، ومن ثم فإن التعاون الثاني يأتي نتيجة للتهديد وهو نفسه الذي يواجه أنقرة وهو تهديد إنفصال الكرد سواء في إيران او في تركيا. ولابد أن لا ننسى أن إيران شنت هجوما على قاعدة تابعة لجماعة معارضة كردية إيرانية في شمال العراق في سبتمبر 2018، مما أسفر عن مقتل 11 شخصا على الأقل وإصابة العشرات.(8)
ومن ثم يمكن القول أن الميدان السوري هو الساحة التي جمعت برجماتية الثلاث دول على الأرض، لا سيما أن لكل دولة من الثلاث على الرغم من التحالف الشبه قوى لها أهدافها الخاصة في الميدان السوري فأهداف السياسة الخارجية التركية في سوريا تختلف عن نظريتها الروسية، وكذلك الإيرانية.
لذلك يمكن توضيح الديناميكيات الحاكمة للسياسة الخارجية التركية التي تعمل بها داخل الأزمة السورية وفق لما يلي:-
أولاً: “الهاجس الجيوبوليتيكي” تعتبر الحدود التركية السورية البرية هي الحدود الأطول بالنسبة لتركيا حيث تبلغ حوالي 950 كيلومتر، ويعتبر تموضع جماعات البي كى كى والبي واي دي على طول تلك الحدود من وجهة النظر التركية يهددان الأمن القومي التركي، وبالتالي يتطلب ذلك التنسيق الإستراتيجي والأمني مع طهران وموسكو لوضع حلول مناسبة لتلك المنطقة كما تم التوصل بين الثلاث أطراف على مناطق أمنة في المفاوضات العسكرية السورية في أستانا لبعض المناطق التي تخص الشمال السوري خصوصاً حلب وإدلب المدينتان التي تهتم بها أنقرة وتضع لها الحسابات الإسترتيجية مع باقي الأطراف، وعلى أثر هذا التنسيق فقد فضلت تركيا الخيار العسكري تجاه أكراد غرب شمال سوريا وأعطت موسكو الضوء الأخضر لها في إبريل 2016، لشن حملة عسكرية على وحدات حماية الشعب الكردي في شمال غرب سوريا. ومن ثم يمكن القول أن الهاجس الجيبوبوليتكي يمثل التهديد الأكبر لأنقرة في الساحة السورية.
ثانياً:“ورقة ضغط” يمثل أحد أبعاد التعاطي التركي مع الأزمة السورية في استخدامها للأزمة من خلال ملف اللاجئين كورقة ضغط تجاه الإتحاد الأوروبي، وبالتالي تستطيع تركيا الضغط على الإتحاد الأوروبي لتنفيذ ما تدعوا إليه، كما هدد إردوغان الإتحاد الأوروبي بإغراقه بالأجئين(9 كما توازن أنقرة في سياستها تجاه الأزمة السورية بين روسيا والولايات المتحدة على حد سواء. فهي تميل تارة بكل ثقلها تجاه روسيا أملاً في الحصول على بعض المكاسب السياسية سواء سياسية او اقتصادية من الغرب، وعلى نفس النهج تتجه أنقرة بكل ثقلها في بعض الأوقات نحو الولايات المتحدة لكسب بعض النقاط السياسية في الأزمة السورية.
ثالثاً: “الإستغلال المركب للأزمة” تعمل أنقرة في سياستها تجاه سوريا على دعم بعض فصائل المعارضة السورية بالسلاح او بالمال لضمان التواجد الفعلي في مسيرة المفاوضات السورية سواء في جنيف او سوتشي، وهذا كما ذكرت صحيفة جمهوريت الجمعة 29 مايو/ أيار 2014، أن أنقرة قدمت شحنات أسلحة إلى المعارضة السورية المسلحة.(10) وهذه الجماعات تسيطر الأن على بعض الأجزاء في بعض المدن السورية منها عفرين وحلب وإدلب وهذا بعد العملية العسكرية الأخيرة غصن الزيتون في غرب الفرات وهذا بفضل الإتفاق الذي تم بين الروس والإيرانيين والأتراك على إقامة مناطق أمنة تشمل أجزاء من حلب وإدلب كما ذكرنا ولذلك تعددت وتشكلت الجماعات التي تتلقى الدعم التركي في سوريا وفقاً
للجدول التالي(11):-
الجبهة الشامية | هي إتحاد لمجموعات إسلاموية وسلفية من مدينة حلب وهي كتائب نور الدين الزنكي بقايا لواء التوحيد جيش المجاهدين الجبهة الإسلامية. |
لواء السلطان مراد | هي مجموعة شكلتها تركيا وتقدم لها كافة أنواع الدعم المالي والعسكري واللوجستي وتدرب عناصرها، وهذه الجماعة تشكلت نتيجة إندماع مجموعات لواء السلطان محمد الفاتح في ريف حلب ولواء الشهيد زكي تركماني، ولواء أشبال العقيدة مع قوات السلطان مراد. |
فرقة الحمزة | أعلنت تركيا عن تأسيسها نيسان/إبريل 2016، وإنضمت إليها جماعات تركمانية تدعى لواء سمرقند، وهذه المجموعة كانت أولى الجماعات التركية التي دخلت مدينة جرابلس السورية عام 2017، برفقة الجيش التركي. |
فيلق الشام | ويعرف بإسم فيلق حمص تم الإعلان عن تشكيل هذه الجماعة في مارس/اذار عام 2014، وهي عبارة عن إتحاد 19 فصيل إسلامي مقرب من جماعة الإخوان المسلمين السورية في حلب وإدلب وحمص وحماة وإنضم فيلق الشام إلى مجموعة من الفصائل في 26 إبريل/نيسان 2015، وأسسوا غرفة عمليات فتح حلب. |
حركة نور الدين الزنكي | تعد واحدة من أهم المجموعات المدعومة من قبل تركيا في ريف حلب تشكلت في اواخر عام 2011، في قرية الشيخ سليمان شمال غرب حلب. |
حركة أحرار الشام | هي إحدى المجموعات السلفية التي نشأت في السنوات الأولى من الأزمة السورية وذلك بإتحاد أربعة مجموعات جهادية هي كتائب أحرار الشام، حركة الفجر الإسلامية، جماعة الطليعة الإسلامية ، وكتائب الإيمان ، وتعتمد هذه المجموعة في تمويلها على أنقرة ودول الخليج وشبكات جهادية عربية. |
لواء صقور الجبل | هي مجموعة تنشط في محافظة إدلب وكانت بالأصل جزء من ألوية أحفاد الرسول وإلتحقت لأحقاً بجبهة ثوار سوريا التي كانت تنشط في محافظة إدلب وقضت عليها النصرة لاحقاً وطردتها من هناك. |
إذا أمعنا النظر في تكوين تلك الجماعات سنلاحظ أن معظمها تنتهج النهج السلفي بالإضافة لتكوينها الأيديولوجي الذي يتشابه مع نهج الأخوان المسلمين كفيلق الشام المدعوم تركياً والمقرب من جماعة الأخوان المسلمين السورية، وهو ما يساعد أنقرة في المضي قدماً في إرساء فكرها السياسي الأيديولوجي في سوريا إن استمر الدعم، ضف على ذلك محاولات أنقرة المتكرره التوسع في الشرق الأوسط او فيما يسمى “بالعثمانية الجديدة” ولكن بثوب جديد وهو ثوب الإخوان المسلمين، ولكن لم يتحقق لأنقرة بعد ثورات الربيع العربي 2011، بعض ما تريده وفقدت السيطرة على عواصم الدول العربية وسقوط جماعة الإخوان المسلمين، وخاصة في القاهرة فمن الطبيعي أن ترى أنقرة في الأراضي السورية أرضً خصبة وسط هذا الركام لإستعادة عافيتها مرة أخرى.
وبالتالي من المتوقع أن نرى مستقبلاً دور كبير للإسلاميين التي تدعمهم تركيا في الحياة السياسة السورية، بالإضافة يبدو بحسب الواقع السوري والرهانات الحالية فإن بوتين سيفضل التعاطي مع تلك الجماعة كأولوية ثانية بعد إنتقال بشار الأسد من الحكم مفضلاً التعاطي معهم بدلاً من التعاطي مع الغرب.
ومن هذا المنطلق فإن أنقرة تحاول إستغلال الأزمة السورية إستغلالاً مركباً لصالحها من خلال إستغلال الهاجس الجيبوبليتكي لضرب أكراد سوريا على طول حدودها الجنوبية وبالتالي يوفر لها توغل داخل المنطقة التي كانت تركيا تسيطر عليها في الحقبة العثمانية وإنتهت بإتفاقية لوزان 1923، وبالتالي فإن ذلك يعيد لتركيا فكرة العثمانية الجديدة، او إستخدام الأزمة كورقة ضغط على الإتحاد الأوروبي من خلال ورقة اللاجئين.
خاتمة:
إن المحددات والسياقات العامة التي تم توضيحها في هذه الورقة والتي تخص السياسة التركية تجاه سوريا تؤكد أن التعاطي التركي الذي يتصف بالواقعية الخشنة مع بعض الأطراف في الأزمة والدبلوماسية الناعمة تجاه البعض الأخر والذي يتخللهما البرجماتية سيستمر على نفس النهج مستقبلاً حتى يتم إجراء عملية سياسية في سوريا او على الأقل أخذ ضمانات من موسكو بخصوص أكراد شمال سوريا والذين يشكلون خطراً على الأمن القومي لأنقرة من المنظور الأمني التركي، إضافة إلى هذا فإن تركيا تأمل أن يؤدي تعاطيها بهذا الشكل مع الأزمة السورية وبالأخص مع المكون الكردي أن يؤثر إيجابا في الداخل التركي بمعنى أن العمليات العسكرية والنهج المتشدد للسياسة التركية في سوريا له إنعكاسات إيجابية على القوميين في تركيا بل والرأي العام التركي، وبالتالي يساعد هذا في نمو شعبية الرئيس التركي وحزبه العدالة والتنمية داخياً.