أبعاد السياسة الخارجية ـ دراسة تأصيلية


محمد الدبار

يستمد بحث السياسة الخارجية أهميته من مصدرين، الأول: أن السياسة الخارجية تعد مصدرا هاما من مصادر الشرعية للنظم السياسية في كثير من الدول وهذا يعبر عن التداخل الشديد بين السياستين الخارجية والداخلية، والثاني: أن السياسة الخارجية لدولة ما هي ـ جزئيا ـ ردود أفعال للسياسة الدولية أو العلاقات الدولية التي هي تمثل مجموع السياسات الخارجية لأعضاء المجتمع الدولي.
وتبدأ “عملية صنع السياسة الخارجية” عندما يواجه المسئولون بهذا الصدد موقفا يدخل في نطاق السياسة الخارجية كأزمة دولية مفاجئة تتطلب موقفا إزاءها أو أسلوب لخصم يتطلب رد فعل تجاهه، أو تنبؤ بحدث دولي هام يستدعى الاستعداد له..، ويبحث صانعو السياسة الخارجية العديد من الموضوعات مثل: إلى أي مدى يتضمن الموقف الماثل أمامهم المصالح المعنية لدولتهم؟ وهل المصالح المنضمة حيوية أم ثانوية؟ وهل يتوقع للتطورات المتعلقة بهذا الموقف أن تمس هذه المصالح على نحو جوهري أم هامشي؟ وهكذا.
فإذا انتهوا إلى ما يفيد ضرورة تحرك الدولة لحماية مصالحها بدأوا في استعراض البدائل المختلفة لهذا التحرك على ضوء امكانات الدولة المتاحة بما في ذلك امكانات حلفائها المحتملين والمؤكدين، وكذلك امكانات التحرك الدولية المضادة، والخبرات السابقة لتحرك الدولة في مواقف مماثلة، إن وجدت، والنتائج المتصورة لكل من البدائل المطروحة وذلك حتى يصلوا إلى اختيار أنسب بديل بينهما فيكون هو القرار المتخذ.
وبالنظر إلى تعريف السياسة الخارجية نجد أنها تشير في جانب منها إلى “مجموعة من الأفعال وردود الأفعال التي تقوم بها الدولة في البيئة الدولية سعيا إلى تحقيق أهدافها، وذلك في إطار قيام الدولة بوظيفتين رئيسيتين هما؛ إدارة الصراعات الدولية وتعبئة الموارد القومية”، ولكن على الرغم من ذلك فإنه لا يوجد اتفاق بين الباحثين حول مفهوم السياسة الخارجية.
وتتعدد العوامل والاعتبارات، التي تزيد من أهمية تناول السياسة الخارجية بالدراسة والتحليل، ومن ذلك:
ـ إن تطوير فهم السياسة الخارجية يعد نشاطا هاما يماثل في أهميته أهمية السياسة الخارجية ذاتها، وعلى الرغم من أن التغيرات التي شهدتها العلاقات الدولية قد أدت إلى زيادة وتنوع الفاعلين والقضايا وتعقد العمليات التي تنطوي عليها، فإن الكثير مما يجرى في الساحة الدولية هو في الحقيقة نتاج لسلوك السياسة الخارجية لدولة أو مجموعة من الدول. وفي التحليل الأخير فإن العلاقات الدولية تتكون على الأقل في أحد مستوياتها من شبكة متفاعلة من السياسات الخارجية، كما أن النتائج التي يصل إليها الدارسون يمكن أن تساعد في عملية صنع السياسة.
ـ إن تحليل السياسة الخارجية مع تركيزه على الدولة في ارتباطها بالبيئة الدولية ينتج ما يمكن تسميته بالمنظور “الجزئي” Micro للعلاقات الدولية، وهو على خلاف المنظور “الكلى” Macro الذي يحاول
تفسير العلاقات الدولية من مستوى النظام الدولي نفسه، يتيح للمحلل القدرة على بيان الاختلافات بين الدول فيما يتعلق بسلوك سياستها الخارجية وأيضا يتيح له أن يأخذ في الاعتبار البيئة الداخلية للدولة محدد لذلك السلوك [1].

ـ أهمية السياسة الخارجية كمصدر للشرعية:

حيث تمثل السياسة الخارجية أحد المصادر التي يعتمد عليها النظام السياسي لاكتساب تأييد ومساندة المواطنين، إلا أنها لا يمكن أن تكون مصدرا أساسيا للشرعية يعكس صفة الثبات والاستمرارية لفترة معينة، وإن كانت قرارات معينة يتخذها النظام لمواجهة مشكلات تنبع من بيئته الخارجية كفيلة بأن تخلق له تأييدا شعبيا غير عادى، فالسياسة الخارجية لا يمكن أن تنفصل عن السياسة الداخلية، بحيث تأتى الأولى كمحصلة أو كمخرج لمجموعة من المدخلات مثل طبية النظام السياسي، وخصائص القيادة السياسية، وقدرات الدولة وإمكانياتها وأهدافها، وطبيعة النظام الدولي، وطبيعة الموقف السياسي، وخصائص الأيديولوجية السائدة في الداخل … الخ.
ويجب النظر إلى السياسة الخارجية كمصدر للشرعية في ضوء المصادر الأخرى، كالقيم والتقاليد السائدة في المجتمع والتوجه الأيديولوجي السائد وفاعلية النظام في مواجهة المشكلات الاقتصادية، والاجتماعية في الداخل. فمتى كانت السياسة الخارجية تعبيرا عن قيم المجتمع وأيديولوجيته السائدة، ومتي كانت امتدادا لسياسة داخلية فعالة ونشطة، فإنها ستضيف إلى شرعية النظام السياسي، خاصة عندما تحقق بعض النجاحات الملموسة.
وإذا كان النظام يستطيع استغلال السياسة الخارجية لتدعيم شرعيته سواء بتعبئة موارد خارجية من أجل التنمية أو بتأكيد هيبة الدولة ومكانتها في المجتمع الدولي أو بتعبئة الجماهير خلف قضايا خارجية وتحويل اهتماماتها عن القضايا الداخلية. فإن السياسة الخارجية، يمكن أن تكون مصدرا لاهتزاز وتدهور شرعية هذا النظام.
وفي هذا الإطار يمكن القول إن النظام السياسي يستطيع أن يعتمد على سياسته الخارجية كمصدر للشرعية، عندما يكون التوجه العام لهذه السياسة انعكاسا لقيم ومصالح الجماهير، وعندما يكون هناك تناسب بين أهداف النظام الخارجية وقدراته، تكون مجالات واحتمالات النجاح كبيرة، إلا أن السياسة الخارجية لا يمكن أن تضفي شرعية قوية ومستمرة على نظام يعاني من أزمة في شرعيته. فالسياسة الخارجية عندما تكون ناجحة تدعم شرعية النظام لكنها لا تخلقها من العدم، فالنجاح على المستوى الخارجي لا يعنى الكثير فيما يتعلق بمواجهة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي ترتبط بالحياة اليومية للمواطن [2].

أولاً: تعريف السياسة الخارجية:

تعد الدراسة العلمية للسياسة الخارجية من أحدث روافد التحليل في مجال العلاقات الدولية، وعلى الرغم مما توافر منذ منتصف الخمسينيات من دراسات علمية عديدة للسياسة الخارجية، إلا أنه لا يوجد اتفاق واضح حتى الآن حول تعريف مفهومها. بل أن عددا من الدراسات تتناول موضوع السياسة الخارجية دون أن تحاول تحديد التعريف الذي تتبناه من تحليلها، وقد أدي تعدد تعريفات السياسة الخارجية من ناحية، وإهمال أو تجاهل تحديد معناها من ناحية أخرى، يعبر عن تعقد ظاهرة السياسة الخارجية، وصعوبة التوصل إلى الأبعاد التي تنطوي عليها. إلا أن الحاجة إلى تعريف السياسة الخارجية تبدو ملحة، حتى يمكن تفسيرها والتنبؤ بمساراتها المختلفة.
وفي هذا الإطار تبرز عدة اتجاهات في تعريف مفهوم “السياسة الخارجية”، منها:

الاتجاه الأول:

تعريف “السياسة الخارجية” من خلال بيان معنى المصطلحين الأساسيين اللذين يشتمل عليهما المفهوم وهما “السياسة” و”الخارجية”:
1ـ مصطلح “السياسة”: ينظر إليها باعتبارها تمثل خطة واضحة للعمل تصمم لخدمة أهداف محددة، أو اعتبارها سلسلة من الاستجابات المعتادة للأحداث التي تقع في البيئة الدولية. ويتميز المفهوم الأول بالفعالية. في حين يعبر الثاني عن ردود أفعال لبواعث خارجية. وهكذا فليس هناك اتفاق واضح على ما يعنيه مصطلح “السياسة” بالتحديد.
2ـ خارجية: وفقا لهذا الاتجاه، يتم التمييز بين السياسة “الخارجية” عن المجالات الأخرى للأنشطة الحكومية، وذلك من خلال طريقتين:
الأولي: معاملة حدود الدولة كحدود إقليمية وأيضا مفاهيمية Conceptual، وفصل السياسة “الخارجية” عن “الداخلية”. فالسياسة “الخارجية” مثل السياسة “الداخلية” تصاغ في إطار الدولة، ولكن على عكس السياسة “الداخلية” فإنها توجه إلى وينبغي أن تنفذ في البيئة الخارجية لهذه الدولة. وفي هذا الإطار هناك من يعرف السياسة الخارجية باعتبارها “مجال السياسات الذي يربط بين الدولة القومية وبيئتها الدولية”.
الثانية: افتراض أن المجال الخارجي للنشاط الحكومي لا يشير فقط إلى اتجاه ولكن إلى نمط معين من السياسة يهتم بالمصالح الأمنية الجوهرية للدولة. ونظرا لأن هذه الطريقة تعرف السياسة الخارجية بأنها أكثر مجالات النشاط الحكومي خطورة وحساسية، فإن البعض قد رأي ضرورة حجبها بعيدا عن الجدال السياسي الداخلي.
ويتمثل النقد الرئيسي لهذا الاتجاه في تعريف “السياسة الخارجية” في أن الأنماط المتغيرة من العلاقات الدولية منذ الحرب العالمية الثانية جعلت من الصعب بقاء هذا التمييز الصارم بين الدولة والبيئة الدولية، حيث بدا فصل السياسات الداخلية عن الخارجية أمرا تحكميا، فهناك عدد متزايد من الأنشطة الحكومية التي لا تتضح من حيث اتجاهها ما إذا كانت داخلية أم خارجية. كما أن هناك من يرفض الفصل في التحليل بين النظم السياسية القومية والدولية، ويؤكد على ارتباطها كوحدة للتحليل وهذا الارتباط يشير إلى أي سلسلة متعاقبة من السلوك الذي يبدأ في نظام ويكون له ردود أفعال في نظام آخر، ومن ثم فلابد من الاهتمام بتحليل كل من تأثير السياسات الداخلية على النظم الدولية، وأيضا تأثير الأخيرة على الأولى.
ومن ناحية ثانية، فإن هذه الأنشطة الحكومية أصبحت تغطى مدى واسع من القضايا، يمتد ليشمل قضايا تتعلق بالتنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية وتعبئة الموارد الأساسية…الخ. وكلها قضايا تعد ذات أهمية محورية بالنسبة للقيم الأساسية والبقاء [3].

الاتجاه الثاني:

يقوم على أساس تعريف السياسة الخارجية استنادا إلى أحد أبعادها. فهناك من يعرفها استنادا إلى البعد الخاص بالأهداف، فيرى أن السياسة الخارجية تمثل “مجموعة الأهداف والارتباطات التي تحاول الدولة بواسطتها، من خلال السلطات المحددة دستوريا، إن تتعامل مع الدول الأجنبية ومشاكل البيئة الدولية باستعمال النفوذ والقوة بل والعنف في بعض الأحيان”.
وهناك من يعادل بين السياسة الخارجية وعملية صنع القرار فيعرف السياسة الخارجية بوصفها “منهجا للعمل أو مجموعة من القواعد أو كلاهما تم اختيارها للتعامل مع مشكلة أو حدث معين تم حدوثه فعلا أو يحدث حاليا أو يتوقع حدوثه في المستقبل”.

الاتجاه الثالث:

يقوم على أن تعريف السياسة الخارجية هي مجال النشاط الحكومي الذي يهتم بالعلاقات بين الدول والفاعلين الآخرين خاصة الدول الأخرى في النظام الدولي.

الاتجاه الرابع:

يعرف السياسة الخارجية بأنها منهج للعمل يتبعه الممثلون الرسميون للمجتمع القومي بوعي من أجل إقرار أو تغيير موقف معين في النظام الدولي بشكل يتفق والأهداف المحددة سلفا. وهذا التعريف رغم شموله إلا أنه يغفل عنصر الاختيار في عملية السياسة الخارجية.
ومن القراءة الدقيقة لهذه التعريفات، يمكن تعريف السياسة الخارجية بأنها: برنامج عمل تتبناه الوحدة الدولية ممثلة في صانعي القرار الرسميين بها على المسرح الدولي، ترى أن من خلاله يمكن تحقيق أهدافها المختلفة، سواء كانت داخلية أو خارجية، اقتصادية أو سياسية… الخ. ويتم ترجمة هذا البرنامج إلى سلوك فعلى سواء في صورة اتصالات يومية أو قرارات.. الخ [4].
أما السياسة الدولية ذات طبيعة تفاعلية، وهي بذلك تختلف عن السياسة الخارجية التي تتميز بأنها أنشطة وحدة دولية واحدة في النسق الدولي تجاه الوحدات الأخرى. والسياسة الدولية تحدث “بين” الوحدات الدولية، وليس داخلها، وإن كانت تتأثر بما يحدث داخل تلك الوحدات. كذلك، فالسياسة الدولية ترتبط بسعي الوحدات الدولية لتحقيق أهدافها. وبذلك فهي عملية هدفية واعية تتميز عن العلاقات الدولية التي تنصرف إلى التفاعلات الدولية عموما. كذلك، فالسياسية الدولية لا تدور بين الدول وحدها وإنما تلعب “اللادول “دورًا مؤثرًا كما أنها تظهر كوحدات مستقلة في السياسة الدولية. ومن ذلك الشركات متعددة الجنسيات، وحركات التحرر الوطني والتنظيمات الدولية الحكومية وغير الحكومية [5].
إن السياسة الخارجية هي الإطار السياسي الذي يحكم علاقة دولة ما بالدول الأخرى، وهي تعكس المصالح الوطنية للدولة وكيفية تحقيقها. والسياسة الخارجية ترسم من قبل أفراد يسمون بصناع القرار السياسي، وهم رؤساء الدول أو رؤساء الحكومات، وصانع القرار السياسي قبل أن يرسم أهداف السياسة الداخلية والخارجية لبلده يضع نصب عينيه إمكانيات دولته الدينية والمادية والمعنوية والاقتصادية والبشرية، ثم يقوم بإعلان أهداف السياسة الخارجية. وقرارات السياسة الخارجية التي تتصف بالنجاح هي تلك القرارات التي تخطط وتبنى على أسس عملية لكي تصل إلى أهدافها وهي تحقيق المصلحة العامة ورفع رفاهية المواطن وتحقيق الأمن الوطني [6].

ثانياً: خصائص السياسة الخارجية:

تتميز السياسة الخارجية بعدد من الخصائص التي تميزها عن غيرها من السياسات، ومن بين هذه السمات:
1ـ أن السياسة الخارجية تصاغ وتنفذ في سياق قضايا محددة، يقصد بها مجموعة من العلاقات ذات الخصائص المشتركة التي تميزها عن غيرها من العلاقات بوجود قيم وهياكل وعمليات وفاعلين متميزين، كما تتسم بتفاوت وجهات النظر حول كيفية التعامل معها، ذلك أنه إذا اتسمت العلاقات باتفاق عام حول كيفية التعامل معها لما أصبحت “قضايا”، وإنما تحولت إلى “قواعد للسلوك”. وتشمل قضايا السياسة الخارجية العديد من القضايا الأمنية، العسكرية، والسياسية ـ الدبلوماسية، والاقتصادية ـ التنموية، والثقافية ـ العلمية، وغيرها، وتتفاوت سياسة الوحدة الدولية تجاه وحدة دولية أخرى بتفاوت قضايا التعامل بينهما.
2ـ أن السياسة الخارجية تنفذ من خلال مجموعة من الأدوات والمهارات المناسبة لتحقيق أهدافها، وتنبع قيمة الأدوات من أهميتها لتحقيق الأهداف، ومن كونها عاملاً مؤثرًا في مسار السياسة الخارجية، ومحددًا لسمات تلك السياسة ومعالمها، ذلك أن توافر أداة معينة يُغري باستعمالها لتحقيق الأهداف، كما أن كثافة اللجوء إلى أداة معينة في السياسة الخارجية يطبع تلك السياسة بطابع معين مشتق من تلك الأداة، فتتسم مثلاً بطابع “عسكري” نتيجة تكرار توظيف الأدوات العسكرية.
وتنصرف أدوات السياسة الخارجية إلى الموارد الاقتصادية والمهارات البشرية المستعملة في صياغة تلك السياسة وتنفيذها، ويقسمها هيرمان إلى ثمانية أشكال هي: الأدوات الدبلوماسية، والاقتصادية، والعسكرية، والأدوات السياسية الداخلية (كسب التأييد السياسي للقوات الداخلية)، والأدوات الاستخبارية، والرمزية، والأدوات العلمية والتقنية، والأدوات الطبيعية، وتميل الدول المتقدمة اقتصاديًا إلى توظيف تلك الأدوات بمختلف أشكالها، بينما تميل الدول النامية إلى التركيز على الأدوات الدبلوماسية والاقتصادية والرمزية.
3ـ إن الدول ليست هي الوحدات الوحيدة التي يمكن أن تكون لها سياسة خارجية، فمع اتساع عدد الدول وظهور الدول القزمية، وظهور وحدات دولية مؤثرة في العلاقات الدولية، لا تتخذ شكل الدولة، اتسع نطاق وحدات السياسة الخارجية ليشمل الدول واللادول (التنظيمات الدولية، وحركات التحرر الوطني وغيرها)، بيد أن هذا الاتساع لا يعنى بالضرورة أن تحليل السياسة الخارجية للدول بشبه تحليل السياسة الخارجية للادول، بل ربما كان يعكس هو الصحيح، ذلك أن اللادول، بافتقارها إلى الأساس الإقليمي لصياغة السياسة الخارجية وممارستها، وإلى القوة اللاإلزامية لفرض السياسة واكتساب الولاء، تصوغ سياستها وتنفذها بشكل يختلف عما تفعله الدول، وهذا أمر يتسق مع منطق التحليل المقارن للسياسة الخارجية.
4ـ أن وصف السياسة الخارجية لأي وحدة دولية يتطلب رصد الخصائص الأساسية لكل من أبعاد مفهوم السياسة الخارجية لتلك الوحدة، بهدف التوصل إلى نمط السياسة الخارجية لتلك الوحدة مقارنة بالوحدات الأخرى. فالتحليل العلمي للسياسة الخارجية يفترض أن السياسة الخارجية هي “سياسة نمطية”، أي أنها تتسم بخصائص متميزة تحدث بطريقة تكرارية يمكن رصدها واكتشاف مساراتها العامة والتنبؤ بها. ومن ثم، فإن الهدف هو التوصل إلى تلك الأنماط كخطوة نحو تفسيرها علميًا.
5ـ أنه من الممكن التمييز بين نمطين أساسيين في ميدان السياسة الخارجية: الأول نمط السياسة الخارجية لوحدة دولية معينة عبر فترة تاريخية طويلة نسبيًا، أما الثاني فهو نمط السياسة الخارجية لمجموعات متماثلة من الوحدات الدولية خلال فترة تاريخية، كالسياسة الخارجية للدول النامية، والسياسة الخارجية للدول المتقدمة اقتصاديًا [7].
6ـ تتسم السياسة الخارجية بعنصر الاختيار، حيث يجب أن يختارها من يدعون صنعها من بين سياسات بديلة متاحة، وأنها ليست مفروضة تمامًا من خارج النظام السياسي، فهي ليست مجرد رد فعل آلي للبيئة الخارجية، ولكنها عملية واعية تنطوي على محاولة التأثير على تلك البيئة أو التأقلم معها، وتحقيق مجموعة من الأهداف، وبالتالي لا يدخل في نظام السياسة الخارجية إلا ما ارتبط بشكل مباشر بعملية تحقيق تلك الأهداف، فالتصرفات الشخصية لصانعي السياسة الخارجية في المجال الدولي لا تعد جزءًا من السياسة الخارجية لدولتهم، كذلك فإن السياسة الخارجية وإن كانت تصاغ داخل الوحدة الدولية، إلا أنها تسعى إلى تحقيق أهداف إزاء وحدات خارجية.
و”السياسة الخارجية” ـ بهذه الخصائص ـ تختلف عن “السياسة الدولية” التي ينظر إليها على أنها: “مجموعة البرامج التي تسعى من خلالها الوحدات الدولية إلى التأثير في بعضها البعض الآخر، وفي النسق الدولي عمومًا، بشكل يؤدى إلى خلق مناخ موات لتحقيق أهدافها”، وهي بذلك ذات طبيعة تفاعلية، فتختلف عن السياسة الخارجية التي تتميز بأنها أنشطة وحدة دولية واحدة في النسق الدولي تجاه الوحدات الأخرى، فالسياسة الدولية تحدث “بين” الوحدات الدولية، وليس داخلها، وإن كانت تتأثر بما يحدث داخل تلك الوحدات [8].

ثالثاً: أبعاد السياسة الخارجية:

إذا كانت السياسة الخارجية ينظر إليها على أنها سياسة وحدة دولية واحدة، إزاء العالم الخارجي، فإنها تنصرف إلى برامج العمل الخارجي لتلك الوحدة، وهذه البرامج تنبع من عدد الأبعاد، يمكن في إطارها التمييز بين مجموعتين رئيستين:

الأولي: الأبعاد العامة: وتشمل التوجهات والأدوار والأهداف والاستراتيجيات:

فالسياسة الخارجية تتضمن مجموعة من التوجهات المعينة [9]، كما تتضمن مجموعة من التفضيلات المتعلقة بالأشكال المستقبلية المحتملة (الأهداف)، ومجموعة من الأدوار (تتمثل في تصور صانعي السياسة الخارجية لمركز دولتهم في النسق الدولي ودوافع تلك السياسة، وتوقعاتهم لحجم التغير المحتمل في النسق الدولي نتيجة إتباع تلك السياسة) ومجموعة من الاستراتيجيات السياسية [10].
وفي إطار توجهات السياسة الخارجية، ميز هولستي بين ثلاثة أنواع رئيسة، وفقاً لدرجة الانخراط في السياسة الخارجية هي: العزلة، التحالف، عدم الانحياز:
1ـ توجه العزلة:
يقوم على افتراض أساسي من وجهة نظر الدولة التي تتبنى هذا التوجه، وهو أنها تستطيع تحقيق أمنها واستقلالها القومي والمحافظة على قيمها الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية وأمانيها القومية على وجه أفضل عندما تعمد إلى تضيق اهتماماتها بالمشاكل والقضايا العالمية إلى أدني حد مع الاحتفاظ في نفس الوقت بقدر ضئيل من المعاملات الدبلوماسية والتجارية مع عدد محدود من الوحدات السياسية. وفيما عدا ذلك فإن الدولة تحرص على تحصين حدودها وإغلاقها بصورة محكمة بطائفة من القيود والإجراءات والقواعد القانونية التي تحول دون الاتصال بالعالم الخارجي لتواجه بذلك أية تهديدات يمكن أن تنال من قيمها الأساسية ومصالحها الحيوية الداخلية.
على أن المؤيدين لسياسة العزلة لا يقفون دائما غير عابئين بما يحدث في العالم من حولهم ولكنهم على العكس من ذلك يعيدون تقييمهم للظروف الدولية والتهديدات المحتملة في ضوء الواقع الدولي، الأمر الذي يؤدى إلى خروجهم من نطاق العزلة.
ويعتمد توجه العزلة في نجاحه على بنيان النظام الدولي أو الظروف الدولية المتصلة بكيفية توزيع القوة في النظام الدولي الفرعي؛ ففي نظام الأحلاف القائم على تركيز القوة في عدد من التكتلات الدولية المتماسكة لابد من انهيار سياسة العزلة التي تتبناها لأي دولة نظرا لما يتضمنه هذا النظام من وجود تهديدات عسكرية أو اقتصادية أو أيديولوجية ثابتة ومستمرة لا سبيل إلى الدولة المنعزلة إلى الوقوف في مواجهتها والصمود إزاءها مدة طويلة، أما في نظام الأحلاف المفككة أو المرنة التي تتميز عادة بإعادة توزيع القوة بصورة منظمة، فإن سياسة العزلة يمكن أن تحقق أهدافها المنشودة.
وفي نظام القطبية الدولية الذي تكون فيه جميع الدول خاضعة بصورة إرادية أو قسرية لأهداف كتلة واحدة قيادية في العالم وترتبط بها ارتباطا عسكريا يصبح من المستحيل على أي دولة أن تتبنى استراتيجية العزلة، أما في النظام الهرمي فإن استراتيجية العزلة يمكن أن يكتب لها البقاء وأن تحقق نجاحا ملحوظا وذلك إذا كانت الوحدة المركزية الموجودة على قمة التدريج الهرمي لا تستطيع الوصول بفاعلية إلى سائر الدول التابعة لها.
ويمثل اكتفاء الدولة ذاتيا ـ اقتصادياً واجتماعياً ـ أساسا هاما من الأسس التي تحدد اختيارها لاستراتيجية العزلة، بحيث لا تعتمد على الدول الأخرى للوفاء بالاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية ومن ثم لا تكون في حاجة إلى الامتناع عن الدخول في علاقات دبلوماسية وتجارية مع الدول الأخرى، بل إنها تقيم مثل هذه العلاقات، ولكن إلى الحد الذي لا يؤدى بها إلى التورط في منازعات قد ينجم عنها نتائج عسكرية أو تهديدات خارجية.
إلا أن اختيار سياسة العزلة بسبب الاكتفاء الذاتي لا يمكن أن يتحقق ـ من وجهة نظر البعض ـ إلا في البلاد شديدة التخلف التي تسود فيها أنماط معيشية وحضارية منخفضة تحول دون تطلع السكان إلى تحسين أحوالهم المادية والاجتماعية، ولذلك فإن العزلة المرتبطة بالاكتفاء الذاتي لا تعدو كونها نمطا تاريخيا. أما في ظروف المجتمع الدولي الراهن الذي تتصاعد فيه التطلعات الجماهيرية وتتزايد درجة التوافق والاعتماد المتبادل بين الدول فيما يختص بالسلع والموارد الاقتصادية، فإن سياسة العزلة القائمة على الاكتفاء الذاتي لن يكتب لها البقاء.
كما يرتبط تبنى استراتيجية العزلة كذلك بوجود تهديدات فعلية سواء كانت عسكرية أو اقتصادية أو ثقافية أو باحتمال قيام مثل هذه التهديدات، فقد ظلت بعض الوحدات السياسية لمدة قرون تتبع سياسة العزلة لأن حدودها الجغرافية كانت تحول دون تعرضها لأي غزو أجنبي، إلا أن البعض الآخر من هذه الوحدات لجا إلى تبنى استراتيجية العزلة للتغلب على مواقف التهديد الفعلي أو الاحتمالي، دون التورط في مواجهة عسكرية، ولكن بالانسحاب خلف الحدود القومية والانكماش في داخلها وإقامة وسائل الدفاع القادر علي تحصين الدولة ضد الهجوم العسكري أو التغلغل الثقافي.
وترتبط سمات الجغرافيا ارتباطا وثيقا باختيار الدولة لتوجه العزلة إذ أن الجبال الشاهقة والبحار الواسعة والسهول والصحراوات غير المأهولة تشكل حدودا ملائمة للوحدات السياسية التي تختار هذا التوجه وتسهم بصورة فعالة في المحافظة على أمنها والحيلولة دون أي تهديد يمكن أن تتعرض له [11].
وقد تأسست نظرية العزلة في الولايات المتحدة على مبادئ الرئيس واشنطون، واستمدت هذه السياسة مبررها من عدة عوامل؛ فبالإضافة إلى العامل الجغرافي الذي يتمثل في انفصالها عن بقية أنحاء العالم بكل من المحيط الهادي والأطلنطي. كانت العزلة تتفق مع الحاجة إلى التنمية واستغراق الناس في العمل والإنتاج. كما كان الضعف العسكري للولايات المتحدة بالنسبة للقوى العظمى في أوروبا حائلا دون قدرتها على الاشتراك اشتراكا قويا في شئون القارة، وهو ضعف مرده الاهتمام بتوجيه جميع الطاقات والمصادر نحو تحسين مستوى المعيشة والتصنيع والتحديث، كذلك فقد كان النظام العالمي طوال الفترة من 1815 إلى 1914 في حالة استقرار نسبى إذا كانت سياسة الدول الغربية تتركز في المحافظة على الأوضاع القائمة.
وظلت الولايات المتحدة متمسكة بسياسة العزلة حتى الحرب العالمية الأولى وعلى وجه التحديد بعد اندلاع هذه الحرب بثلاث سنوات عندما أخذت تتحول عن عزلتها وموقفها الحيادي إلى العداء الشديد لألمانيا والمشاركة الوجدانية للحلفاء وخاصة بريطانيا التي كانت ترتبط معها بروابط اللغة والتقاليد والعلاقات التجارية الوثيقة ـ مما جعل مسألة حيادها أمرا مستحيلا.
ومع نهاية الحرب العالمية الأولى وخلال تسوية سنة 1919 وضعت الولايات المتحدة أساس فكرة الأمن الجماعي، وتمخضت هذه الفكرة عن قيام عصبة الأمم. وعندما عاد الرئيس ودرو ولسون إلى بلاده بعد توقيع معاهدة السلام وانضمام أمريكا إلى عصبة الأمم، رفض مجلس الشيوخ التصديق عليها، مما أدى إلى عودة أمريكا مرة أخرى إلى سياسة العزلة.
وقد استمر الأساس النظري للعزلة الأمريكية كأحد المفاهيم الأساسية للسياسة الخارجية الأمريكية حتى سنة 1939، ثم كان الهجوم الياباني على ميناء بيرل هاربر، والذي وضع نهاية لسياسة العزلة الأمريكية، حيث أخذت أمريكا على إثر هذا الهجوم تتحرك بكل إمكانياتها في غمار الحرب ثم شرع دورها في النظام السياسي الدولي يتصاعد بدرجة متزايدة ومعدل سريع، وإن كانت بعض الأصوات ما زالت ترتفع بين الحين والآخر حتى الآن تدافع عن سياسة العزلة وتؤيدها تأييدا شديدا وتندد بالتورط الأمريكي في مختلف شئون العالم، كدولة عظمى [12].
2ـ توجه التحالف:
يقوم توجه التحالف على أساس افتراض الدولة بأنها لا تستطيع تحقيق أهدافها أو الدفاع عن مصالحها الداخلية أو مواجهة ما تتعرض له من تهديدات خارجية بالاعتماد على قدراتها الذاتية، ومن ثم لابد من الاعتماد على غيرها من الدول التي تشاركها نفس الأهداف والمصالح عن طريق إقامة تحالف بينها وبين هذه الدول وتحقيق التعاون بينهما في المجالات العسكرية أو الاقتصادية أو الثقافية أو الفنية.
ويمكن للدول الأخذ بهذا التوجه في مختلف النظم الدولية، العالمي أو القطبية الثنائية أو القطبية التعددية، ولكنها تبدو مستحيلة في النظام الدولي الهرمي حيث تكون الائتلافات أو الأحلاف الوحيدة هي التي تعقدها الدولة المركزية التي توجد على قمة التدرج الهرمي.
ويرتبط توجه التحالف ارتباطا وثيقا بالاحتياجات والمصالح الداخلية للدولة، فالدول التي تواجه مشاكل اقتصادية مشتركة تلجأ إلى الانضمام إلى اتحادات أو ائتلافات تجارية لتعزيز التضامن بينها في مواجهة قضايا الاقتصاد والتجارة العالمية [13].
كما يرتبط كذلك بالشعور المشترك بعدم الأمن إزاء التهديدات الخارجية أو احتمال وجود مثل هذه التهديدات. وفي هذه الحالة فإن الدول التي تلجأ إلى مثل هذا التحالف تعتبر الحلف أداة لردع الدولة أو الدول التي تثير أي مطالب ضد مصالح دول الحلف، واستنادا إلى ذلك جاء تكوين حلف شمال الأطلنطي كرد فعل غربي علي حصار برلين بواسطة الاتحاد السوفيتي والانقلاب الشيوعي في تشيكوسلوفاكيا سنة 1948 وتوقع حدوث أفعال أخرى مثيلة في كل من فرنسا وإيطاليا بمساندة الجيش الأحمر، كما كان حلف وارسو تعبيرا عن مخاوف الاتحاد السوفيتي مما أسماه بالأهداف العدوانية للولايات المتحدة التي قد تدفع حلف الأطلنطي تحت زعامتها إلى خوض حرب عالمية جديدة ضد الاتحاد السوفيتي.
ويعتبر هدف التوسع الإقليمي من الظروف الملائمة التي ترتبط بتشكيل الأحلاف العسكرية، ومع أن مثل هذه الأحلاف لها طابع عدواني، إلا أنها تعمل في نفس الوقت على مساعدة حكومات الدول الضعيفة الداخلة في الحلف والدفاع عنها ضد أي تمرد أو عصيان داخلي تسانده قوة خارجية.
وفي هذا الإطار، فإن المعونة العسكرية التي تقدم في نطاق هذا النوع من الأحلاف تستخدمها الحكومات التي تتلقاها في القضاء على الاضطرابات الداخلية بما يضمن وجود حكومة موالية دائما للحلف ـ الأمر الذي يؤدى في نفس الوقت إلى اتساع نطاقه الإقليمي. وقد كان انضمام بعض الدول لكل من نظامي التحالف الشيوعي والغربي نابعاً بالأساس من حاجة هذه الدول إلى ضمان الحماية الخارجية لها ضد هذه الاضطرابات.
ويشكل التجاور أو التلاصق الجغرافي واحدا من أهم الاعتبارات التي تكمن وراء قيام بعض الأحلاف المعاصرة، ويكون الهدف من الحلف في هذه الحالة هو دفع العدو إلى الحرب على جبهتين مما يؤدى إلى تبديد قواه وإنهاكه وانتزاع النصر منه، وعلى أساس هذا المبدأ أقامت فرنسا تحالفاًً مع روسيا عام 1871 اعتقادا منها بأن أفضل طريقة لصد أي هجوم عليها من جانب بروسيا تكون بمواجهتها باستجابة عسكرية من كل من الشرق (روسيا) والغرب (فرنسا).
كذلك فإن معاهدة عدم الاعتداء التي أبرمها هتلر مع الاتحاد السوفيتي في عام 1939 كان يقصد بها منع أي تحالف بين الاتحاد السوفيتي والدول الغربية إلى أن يتمكن من خوض الحرب ضد فرنسا وانجلترا دون أن يخشى أي هجوم سوفيتي على بلاده من الشرق. وفي خلال الخمسينات عمد جون فوستر دالاس وزير الخارجية الأمريكي إلى تحديد خطوط الدفاع عن الولايات المتحدة عند حدود الاتحاد السوفيتي والصين، وذلك من خلال حلف شمال الأطلنطي (NATO) وحلف جنوب آسيا (SEATO) وحلف بغداد وميثاق التحالف بين استراليا ونيوزلندا والولايات المتحدة (ANZUS) ومعاهدات الأمن المتبادل مع كل من تايوان واليابان، والتي من شأنها إقامة حزام عسكري يحيط بكل العالم الشيوعي.
ومن هنا كان التقارب الجغرافي من الكتلة السوفيتية أحد المعايير الأساسية لاختيار الولايات المتحدة لشركائها في الأحلاف، ولذلك كان الأعضاء الأكثر بعدا عن الصين أو الاتحاد السوفيتي يتلقون معونات عسكرية واقتصادية أقل من تلك التي يتلقاها الأعضاء الأكثر قربا، وفي المقابل أقام الاتحاد السوفيتي حلف وارسو مع دول شرق أوروبا، كما أنه أبرم درجة أخف من درجات التحالف ـ تمثلت في سلسلة معاهدات الصداقة ـ مع العديد من دول العالم الثالث [14].
3ـ توجه عدم الانحياز:
يشير عدم الانحياز إلى ذلك الاتجاه الذي يرفض العزلة ويتجنب في نفس الوقت الارتباط عسكريا بأهداف القوى الكبرى ـ وتحديداً الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي ـ ومع ذلك فإن قيام الدولة غير المنحازة بالارتباط بأي من هاتين القوتين وتأييدها دبلوماسيا في مجال أو مجالات معينة لا يتعارض مع جوهر عدم الانحياز على ألا يكون ذلك الارتباط في جميع القضايا والمجالات.
ويشير مفهوم عدم الانحياز إلى بقاء الدولة غير المنحازة بعيدا عن الصراعات والمنازعات بين القوتين العظميين، وإن كان من الممكن بالنسبة لها أن تقدم في مناسبات معينة الخطط والوسائل التي تكفل الوصول إلى التسويات السلمية في هذه المنازعات، وفي هذا الإطار، فإن عدم الانحياز يؤدى إلى زيادة قوة الدولة التي تمارسه كتوجه لسياستها الخارجية في التأثير علي البيئة الدولية، وإتاحة مزيد من الفرص لها في حرية الحركة وتشكيل سياستها في ضوء احتياجاتها الذاتية، الأمر الذى لا يتوافر بالنسبة للدول المرتبطة بالأحلاف العسكرية[15].
وفي الوقت نفسه فليس ثمة تعارض بين أن تكون الدولة غير منحازة وأن تكون في نفس الوقت عضوا في تحالف عسكري أو أيديولوجي أو اقتصادي داخل النطاق الإقليمي بسبب ما يوجد بينها وبين الدول الأخرى داخل هذا النطاق من مصالح مشتركة أو روابط وعلاقات حضارية وتاريخية[16].
ويضيف “نصيف حتى” إلى التوجهات التي قال بها هولستي، توجهاً رابعاً هو “الحياد” الذي ينظر إليه كقرار تتخذه الدولة المعنية بملء إرادتها، تجاه دول أو قضايا معينة، على أن يتوفر في ذلك شرطين أساسيين: الأول “الامتناع” والذي يفرض على الدول المحايدة الامتناع عن تقديم مساعدات عسكرية مباشرة أو غير مباشرة إلى أحد طرفي نزاع معين، وكذلك عدم القبول باستعمال أراضيها للقيام بأعمال عسكرية من قبل أحد من هذه الأطراف. والثاني “التجرد” والذي يفرض علي الدولة المحايدة التعامل المتساوي مع هذه الأطراف، شريطة قيام هذه الأطراف باحترام أراضيها وسيادتها وحريتها في إقامة العلاقات التجارية مع أي منها.
ووضع الدول المحايدة ناتج عن نظام قانوني معين، وعن قبول دول أخري به ذات تأثير عليها تعطيها ضمانات بهذا الخصوص، وذلك خلافاً للوضع في حالة الدولة غير المنحازة التي تختار هذا التوجه غير المنظم قانونياً وبالتالي لا يوجد عندها ضمانات بأن موقفها سيحترم من الدول الأخرى حال قيام نزاعات بينها، هذا مع ملاحظة أن الحياد قد يكون في بعض الحالات بـ “الفعل” حيث تسلك الدولة نهجاً حيادياً دون أن ينص على ذلك في اتفاقية أو إصدار إعلان رسمي من طرفها برغبتها في الحياد،
وتكمن الأسباب وراء الحياد في نظر الدول الأقطاب في النظام الدولي أو الإقليمي إلى الأهمية الاستراتيجية لدولة معينة، والتي تري أن أهميتها لا تساوي مخاطر النزاع وكلفته للسيطرة عليها، أو أن توازن القوي بينها لن يسمح لأحدهما بجذب هذه الدولة إليه، كذلك فقد تري الدول الأقطاب أنه يمكن للدولة المحايدة أن تكون بمثابة قناة اتصال دبلوماسي وسياسي وإنساني في حال نشوء نزاعات بينها، وتؤدي بالتالي وظيفة مفيدة ذات مردود أكبر من محاولات السيطرة عليها أو جذبها إلى معسكرها (كما في حالة الحياد السويسري) [17].

الثانية: الأبعاد المحددة:

وتنصرف إلى مجموعة القرارات والسلوكيات والمعاملات التي تتضمنها السياسة الخارجية:
ـ القرارات: اختيارات محددة لصانعي السياسة الخارجية بين بدائل متاحة لحل مشكلة محددة، ويعتبر ريتشارد سنايدر أشهر من درس قرارات السياسة الخارجية وقدم نموذجًا رائدًا لتحليلها.
ـ السلوكيات السياسية الخارجية: هي التصرفات اللفظية أو العملية المحددة زمانًا ومكانًا، والتي يقوم بها الأشخاص الحكوميون المخولون رسميًا بالتصرف باسم الوحدة الدولية، والموجهة إلى العالم الخارجي لتحقيق أهداف السياسة الخارجية، وقد درج دارسو السياسة الخارجية على رصد سلوك السياسة الخارجية من خلال ثلاث مؤشرات هي: الأحداث الدولية والسلوك التصويتي الدولي والسلوك الدبلوماسي الدولي
ـ المعاملات: تشمل الأنشطة الاقتصادية والاتصالية ذات الطابع الدوري المنتظم والتي لا يمكن دراستها إلا على أساس تجميعي نظرًا لتكرارها، كالتجارة الخارجية والاتصالات الشعبية.
وفهم السياسة الخارجية فهمًا متكاملاً، يتطلب فهم تلك الجوانب المتعددة لظاهرة السياسة الخارجية، ولا يكفي تناول واحد من تلك الجوانب كمؤشر على الجوانب الأخرى، لأنه من الممكن ألا تتجه جوانب السياسة الخارجية إلى وجهة واحدة، كأن تتعامل الدولة اقتصاديًا واتصاليًا مع دولة أخرى حتى بعد قطع العلاقات الدبلوماسية معها [18].
وفي إطار هذه الأبعاد، تأتي عملية صنع السياسة الخارجية، والتي تقوم على تشكيل الأهداف وترتيب الأولويات فيما بينها وتحديد الوسائل والأدوات التي يمكن من خلالها تحقيق هذه الأهداف [19].

رابعاً: أهداف السياسة الخارجية:

تتعدد تصنيفات أهداف السياسة الخارجية، ومن أهم هذه التصنيفات:

(1) تقسيم أوسجود (Osgood):

قسم روبرت أوسجود (Osgood) أهداف السياسات الخارجية إلى فئتين:
1ـ فئة الأهداف التي تخدم المصالح القومية أو الذاتية للدول (Goals of National Self-Interest)، ويدخل ضمنها: الأمن، والحفاظ على الوجود القومي، ودعم وتنمية كل ما يدخل في إطار المصالح الحيوية للدولة، وخلق الأوضاع التي تمكن الدولة من أن تمارس سياسة خارجية مستقلة، وبسط النفوذ القومي، والتوسع القومي في مختلف مظاهره (سواء بزيادة القوة أو الثراء أو النفوذ).
2ـ فئة الأهداف القومية ذات النزعة المثالية (Goals of National Idealism) ومن أمثلتها الرغبة في دعم السلام في العالم والتمكين لحكم القانون، والعدالة الدولية، والحرية والرفاهية الإنسانية … الخ.
ويقول أوسجود أن أهداف الدول لا يمكن أن تنحصر مطلقا داخل دائرة واحدة من هاتين الدائرتين وإنما تختلف بحسب الأحوال، والمهم هو سيطرة اتجاه معين يجعلها أقرب إلى إحدى الفئتين من الأخرى.

(2) تقسيم ارنولد ولفرز Wolfers:

ويمثل عدة تقسيمات وليس تقسيما واحدا، فهو يقول إن تقسيم الأهداف القومية في السياسات الخارجية للدول يمكن أن يحدث على أي شكل من الأشكال الآتية:
1ـ الأهداف التي تخص الدولة بصفة أساسية أو ما يطلق عليه Possession Goals والأهداف التي تتعدى الدولة لتحدث تأثيرات في دائرة أوسع نسبيا أو ما يسميه Milieu Goals، فالأهداف الأولى تتحدد من واقع القيم التي تعتنقها الدولة وما تعكسه هذه القيم على سلوكها خاصا بحقوقها وقوتها وسيادتها وإقليمها … الخ. وأما الأهداف الثانية فهي تتبلور في إطار البيئة الدولة، وهي ليست نابعة من قيم أو أوضاع دولة واحدة بالذات، ومن أمثلتها الدعوة إلى حفظ السلام وحكم القانون في العالم … الخ.
2ـ الأهداف القومية المباشرة Direct National Goals. والأهداف القومية غير المباشرة Indirect National Goals. فالأهداف القومية المباشرة هي التي تستفيد منها الدولة مباشرة وبصفة أساسية مثل هدف الاستقلال السياسي، أما الأهداف غير المباشرة فهي التي تحقق فائدتها للأفراد بدرجة أكبر منها بالنسبة للدولة، مثل الرفاهية والثراء الاقتصادي.
وهذا التميز بين الأهداف المباشرة وغير المباشرة تنحصر أهميته في موضوع تقرير الأولويات التي يجب أن تخصصها الدولة لكل منها.
3ـ الأهداف التي تقوم علي التوسع Goals of National Self-Extensionوالأهداف التي تحاول الحفاظ علي كيان الدولة Goals of National Self-Preservation والأهداف التي تقوم علي إنكار الذات Goals of National Self-Abnegation: النوع الأول: يحاول تغيير الوضع القائم Status Quo ومن ثم فهو يركز علي القوة كأداة لتحقيقه.، والنوع الثاني: يحاول الإبقاء علي الوضع القائم دون تغيير وهو يركز بدرجات متفاوتة من الأهمية علي القوة كأداة لتحقيقه، والنوع الثالث: يركز علي قيم مثالية مثل العدالة الإنسانية ورفاهية الجنس البشري، ودعم الحضارة الإنسانية، وهو لا يعول علي القوة كأداة لتحقيقه.

(3) تقسيم “فرنون فانديك ـVernon Van Dyke”:

قسم الدول بحسب أهدافها القومية إلى الفئات الآتية:
1ـ دول القوة Power States ودول الرفاهية Welfare States: النوع الأول يركز على القوة ويتخذها معيارا لسلوكه الخارجي، ومن أمثلة ذلك دول المحور، ألمانيا النازية وايطاليا الفاشية واليابان في الثلاثينات. أما النوع الثاني فيركز على الهدف الخاص بدعم أحوال الرفاهية الاقتصادية فيه دون الحاجة إلى هذا التركيز الواضح على القوة واستخدامها بطريقة عدائية في العلاقات الدولية.
2ـ الدول المتملكة Haves والدول المحرومة Have-Nots: فالدول المتملكة هي الأغنى نسبيا في امكانياتها ومقدراتها المادية وهي التي تتمتع بمستويات عالية من المعيشة بعكس الدول المحرومة. ويفترض هذا التقسيم أن سلوك الدول المتملكة يكون أقرب إلى الدفاع عن الأوضاع القائمة. أما الدول المحرومة فان سلوكها يكون أقرب إلى العدوان ومحاولة تغيير هذه الأوضاع.
غير أن هناك تحفظا هاما يورده فانديك على هذا التقسيم، وهو أنه ليس من الضروري دائما أن يكون سلوك الدول المحرومة عدوانيا وسلوك الدول المتملكة دفاعيا فالصين رغم أنها كانت في الماضي دولة محرومة إلا إنها لم تكن تتبع سياسات عدوانية بعكس ايطاليا الفاشية التي كانت أغنى منها ومع ذلك فان سلوكها قام علي العدوان والتوسع. وكذلك، فان دول الوسط التي دخلت الحرب العالمية الأولى ودول المحور التي دخلت الحرب العالمية الثانية فهي لم تكن دولا محرومة بالمعني الدقيق لهذا الوصف، حيث كانت مستويات المعيشة فيها أعلي من دول أخرى كثيرة.
3ـ دول الأمر القائم Status Quo Powers والدول التي تحاول التغيير Revisionist Powers: الأولي تتبع سياسات دفاعية تستهدف الإبقاء على الأوضاع القائمة دون تغيير وذلك افتراضا منها أن التغيير سيلحق بها أضرارا تفوق في مداها وتأثيرها تلك التي قد تترتب على استمرار الأوضاع على ما هي عليه. والثانية لديها في تصورها ما تكسبه من التغيير أكثر مما يترتب على استمرار الوضع القائم. وبعض هذه الدول قد تكون دولا استعمارية أي أن هدفها من التغيير هو التوسع والتسلط على مقدرات الدول الأخرى، أكثر من كونها تسعى إلى التغيير لتزيل ظلما تعتقد أنه يقع عليها وعلى مصالحها من جراء استمرار الوضع القائم [20].
وفي إطار هذه التصنيفات لأهداف السياسة الخارجية، يمكن القول إن أهم الأهداف القومية في السياسات الخارجية للدول تتمثل في:
1ـ حماية السيادة الإقليمية ودعم الأمن القومي:
أي الحفاظ على وجودها، والعمل على تدعيم أمنها بأقصى ما تسمح به القدرات والطاقات المتاحة لديها سواء ما تعلق منها بقوتها الذاتية أو بهذه القوة مضافا إليها جانب من قوة الدول الأخرى، ويفسر هذا الاعتبار بحرص الدول على تدعيم أمنها القومي تحت أي ظرف وبكل ما يتطلبه هذا الدعم من امكانات وتضحيات، جانبا هاما من الأسباب التي تدعو الدول إلى الدخول في حروب ضد بعضها.
ويدخل ضمن هذا الهدف المحافظة علي كيانها الإقليمي، وعدم التفريط فيه للدول الأخرى، مهما بلغت الضغوط التي تتعرض لها، وإلا انهار هذا الكيان الإقليمي، مما ينتهي في بعض الحالات بالاضمحلال التام للدولة، وتقسيمها بين عدد من القوى الطامعة، أو قد يؤدي إلى انكماش حجم إقليمها وتشتيت سكانها وسلبها جانبا هاما من امكاناتها ومواردها، وهي عوامل تضعف من قدرتها علي البقاء والاستمرار كوحدة سياسية فعالة، كما يرتبط بهذا الهدف أيضاً التغلب علي التهديدات الموجهة ضد القيم والمصالح التي تعتبر حيوية لأمن الدولة ولكيانها السياسي والقومي، وكذلك المحافظة علي النظام السياسي فيها إذا ما كان هذا النظام يمثل معني خاصا بالنسبة لشعب هذه الدولة.
ومن بين الوسائل التي تتبعها الدول لدعم أمنها القومي وحماية سيادتها الإقليمية: الدخول في علاقات تحالف مع بعضها إذا لم تكن قادرة بقواها وامكاناتها الذاتية علي توفير الحماية الضرورية لأمنها القومي، أو الحصول علي معونات عسكرية واقتصادية من أية مصادر خارجية حتى وإن لم يتبع ذلك الارتباط رسميا بإطار تحالف أو تكتل دولي معين، أو توقيع ميثاق عدم اعتداء مع دولة أخرى، إذا ما كان لمثل هذا الميثاق دلالة خاصة فيما يتعلق بالمقدرة علي حماية الأمن القومي، أو إتباع سياسة محايدة تقوم علي تخفيف العداوات التي تتعرض لها الدولة في حالة انحيازها إلى تكتل دولي معين.
2ـ تنمية مقدرات الدولة من القوة:
أي سعي الدول إلى تنمية مقدراتها وامكاناتها من القوة القومية حتى وأن تم ذلك على حساب غيرها من الدول، وقد كانت هذه الحقيقة دافعا ببعض المحللين إلى الاعتقاد بأن الدافع إلى اكتساب القوة وزيادتها إنما هو دافع كامن في الطبيعة الإنسانية ذاتها، فهذا الدافع هو الذي يجعل الدول تتصارع وتتقاتل ضد بعضها.
ولكن مع مراعاة أن هذا الدافع ليس وحده هو الذي يوجه سلوك الدول، وإذا كانت كل دولة تود أن تكون لها السلطة المطلقة في كل ما يتعلق بحقها في تقرير مصيرها بعيدا عن الضغط والتحكم الخارجي، فإنه يلزم كل دولة الاحتفاظ بحد أدني من القوة يمكنها من الحفاظ على كيانها السياسي والقومي ضد الضغوط والتهديدات التي قد يتعرض لها من الخارج، وهذا لا ينفي أن هناك دولا لجأت إلى وسيلة القوة لدعم رفاهيتها الاقتصادية والحصول على المستعمرات كما حدث في الماضي، أي أن القوة قد استخدمت كوسيلة لتحقيق أهداف أخرى.
وهنا يجب التأكيد على أن الدول تحتل مواقع مختلفة من الهيكل العالمي لعلاقات القوى، وهذا التوزيع النسبي لإمكانيات الدول من القوة يحدد بشكل هام سلوكها الخارجي، فتصور الدول أو إدراكها لحقائق قوتها النسبية هو الذي يجعلها تقرر أهداف سياستها الخارجية، وترتيبها في إطار من الأولويات يتفق بقدر الامكان مع ما تسمح به امكاناتها ومقدراتها [21].
3ـ زيادة مستوى الثراء الاقتصادي للدولة:
فكل دولة تبحث عن رقعة إقليمية كافية لإيواء شعبها، وكذلك تبحث عن الموارد الاقتصادية التي تكفل لهذا الشعب المستوى المعيشي المطلوب، فالوجود القومي للدولة يتطلب توافر حد أدني من الثروة الوطنية وإن كانت هناك دول تتجاوز هذا الحد الأدنى وتجعل من البحث عن زيادة ثرواتها القومية هدفا رئيسيا لسياستها الخارجية، كالولايات المتحدة واليابان وألمانيا الغربية.
وينظر إلى الثراء المادي على أنه مؤشر لنفوذ الدولة في المجتمع العالمي، حيث تتباهي بعض الدول بأنها حققت أعلي مستويات للمعيشة والدخل في العالم، وهي حقيقة ترضي الكبرياء القومي لهذه الدول، ويرتبط بذلك أن بعض الدول تتخذ من ثرائها المادي ذريعة للنظر إلى غيرها من الدول التي لم تحقق مستويات عالية من التنمية الاقتصادية، على أنها لازالت متخلفة اجتماعيا وفنيا وتكنولوجيا عن هذه الدول المتقدمة، وقد تستغل هذا الجانب الدعائي في مخططات سياساتها الخارجية بشكل أو آخر.
وهدفي القوة والثراء المادي والاقتصادي يتشابكان مع بعضهما إلى حد كبير. فثروة الدولة ممثلة في زيادة دخلها وإنتاجها القومي يمكن تحويلها إلى قوة واضحة من الناحية العسكرية. فالدولة التي تنجح في خلق قاعدة للتصنيع الثقيل يمكنها أن تحول هذه القاعدة في وقت الضرورة إلى إنتاج المعدات الحربية لدعم جهازها العسكرية، ومن هنا يصبح من الصعوبة في كثير من الأحيان أن نقرر ما إذا كان الهدف من سلوك دولة ما هو زيادة ثرائها أو قوتها أو الحصول على الاثنين معا، فكما أن الثراء يخدم كأحدي الركائز التي تستند عليها القوة، كذلك فان القوة تدعم من مقدرة الدولة علي زيادة ثرائها [22].
4ـ التوسع:
ويأتي في إطار المؤثرات النفسية التي تحرك قادة الدول، نحو التفوق وإثبات الذات وتأكيد الكيان، وهي الأمور التي تخلع على من تحركه شعورا بالزهو والقوة، ويعتبر تعدد القوى التي تخلق هذه النزعات التوسعية لدى الدول، أو لدى بعضها على الأقل، من المظاهر القائمة خلال المراحل التاريخية المختلفة لتطور العلاقات الدولية، وهو ما دفع بعض المحللين إلى اعتبار الدافع إلى التوسع قانونا أساسيا من قوانين العلاقات الدولية [23].
5ـ الدفاع عن أيديولوجية الدولة أو العمل على نشرها في الخارج:
من الأهداف التي أصبحت تحرص عليها دول كثيرة في سياساتها الخارجية، الدفاع عن معتقداتها الأيديولوجية نظرا لما تمثله لها من دلالات تتعلق بواقعها السياسي والاجتماعي، وأيضا باتجاهاتها من الدول الأجنبية. وأحيانا لا يقف الأمر عند حد تدعيم أيديولوجية الدولة وحمايتها ضد محاولات الغزو أو التخريب الموجهة ضدها من الخارج، وإنما قد يتعداها إلى محاولة ترويج هذه الأيديولوجية ونشرها بكل الوسائل في الدول الأجنبية، وذلك اعتقادا من الدولة التي تتبع هذا الأسلوب أن اتساع نطاق المشاركة الدولية للأيديولوجية التي تعتنقها أنما يدعم مصالحها على نحو أفضل، كما يخلق مجالا أكبر من التعاطف والتجاوب النفسي مع سياساتها في الخارج.
كما أنه في حالات معينة، يبدو الارتباط وثيقا للغاية بين مقدرة الدولة علي دعم أمنها القومي وبين إبقائها على بعض الدول ملتزمة بأيديولوجيتها، إذا ما كان لهذه الدول تأثيرات استراتيجية معينة على احتياجاتها ومتطلباتها الأمنية.
وقد يتخذ الهدف المتعلق بترويج بعض الدول لأيديولوجيتها في الخارج عدة وسائل لتحقيقه ومنها الدعايات الموجهة لدول معينة، أو تشجيع الثورات التي تتبع نهجا أيديولوجيا مماثلاً، أو مساندة تلك التنظيمات أو الأحزاب أو الحركات التي تأخذ بأيديولوجية هذه الدولة.
6ـ الأهداف الثقافية:
تسعي كل دولة إلى دعم تراثها الثقافي والمحافظة عليه، فهذا التراث الثقافي الحضاري يشكل أحد المقومات الهامة التي تستند إليها القومية في إثبات وجودها، والوسائل التي تلجأ إليها في حفظ هذا التراث الثقافي تتنوع وتختلف من دولة إلى أخرى، وفي مقدمتها: حماية استقلال الدولة، فالغزو الخارجي قد ينتهي بنسخ ثقافة الأمة وتشويهها أو تغييرها بشكل يفقدها أصالتها وجوانب التميز والتفرد فيها.
ومن الوسائل الأخرى المستخدمة في هذا الصدد فرض قيود على الهجرة إلى الدولة، حفظا لتراثها الثقافي من الانقراض. وتنبع هذه القيود من تخوف الدول من عدم قدرتها على أن تستوعب وتمتص الثقافات المهاجرة إليها، وإدماجها في كيانها الثقافي القومي إلى الحد الذي يختفي معه خطر هذه الثقافات الأجنبية عليها.
وفيما يتصل بالأهداف الثقافية في علاقات الدول الخارجية، يتم التمييز بين نوعين من الدول: دول تحاول صيانة تراثها الثقافي وحفظه من الاندثار أو الغزو الثقافي الأجنبي، ودول تحاول أن تصدر ثقافتها عبر حدودها وأن تفرضها على الآخرين، كالدول الاستعمارية التي دأبت على ترديد أن رسالتها هي تحضير المستعمرات وإدخالها في دائرة المدنية التي تحددها مقاييس هذه الدول الاستعمارية، والتي تعتقد في تفوق أنظمتها السياسية والاقتصادية والتكنولوجية وأسلوبها في الحياة، والعمل على نشرها والترويج له بكل امكانياته [24].

خامساً: أدوات السياسة الخارجية:

تتعدد الأدوات التي تستخدمها الدول لتحقيق أهداف سياساتها الخارجية ومن تلك الأدوات، الدبلوماسية، والدعاية، والمبادلات الاقتصادية والقوة المسلحة، والحرب السرية، واستخدام كل هذه الأدوات أو بعضها يتم بدرجات متنوعة ويتوقف على الظروف والملابسات التي تحيط بالموقف وعلى المتغيرات الدولية المؤثرة:

1ـ الدبلوماسية:

تعرف الدبلوماسية بأنها “العملية التي يتم من خلالها اتصال حكومة معينة بأجهزة صنع القرارات في حكومة أخرى اتصالا مباشرا بما يضمن للدولة موافقة الدول الأخرى علي خططها وأهدافها أو تقبلها”، وعلي الرغم من وجود وسائل أخرى يمكن للحكومات استخدامها للتعبير عن رغبتها وأهدافها أو توجيه التهديد إلى الدول الأخرى مثل البيانات والتصريحات التي يدلى بها المسئولون السياسيون في المؤتمرات الصحفية أو الخطابات التي تلقى في الحفلات والأعياد القومية وعبر وسائل الإعلام، إلا أن معظم المحاولات الرسمية لممارسة الحكومة تأثيرها في الخارج تتم من خلال القنوات الدبلوماسية أو الاتصالات المباشرة بين رؤساء الدول أو وزراء الخارجية، ومن ثم فإن وظيفة الدبلوماسية لا تعنى تشكيل أهداف الحكومة بقدر ما هي شرح وتفسير هذه الأهداف في الخارج ومحاولة إقناع الآخرين بتعديل سياستهم لتطابق هذه الأهداف.
كما ينظر إلي الدبلوماسية علي أنها “إدارة العلاقات الدولية من خلال التفاوض، وتنظيم هذه العلاقات والتوفيق بينها عن طريق السفراء والمبعوثين” فعن طريقها تتم إقامة العلاقات الدولية وتدعيمها، ومعالجة جميع الشئون التي تهم مختلف الدول، والتوفيق بين المصالح المتعارضة ووجهات النظر المتبادلة، كذلك فإنها تلعب دورا هاما في توثيق العلاقات بين الدول وإشاعة الود وحسن التفاهم بين أعضاء الجماعة الدولية، وهي بالنسبة لكل دولة أداة فعالة لتوطيد مركزها وتعزيز نفوذها وتأكيد هيبتها في مواجهة الدول، لذلك شهدت الدبلوماسية تطورا هاما في مجال تنظيمها ومهامها[25].

2ـ المبادلات الاقتصادية:

الاعتماد المتبادل هو الطابع المميز للنظام الدولي الراهن نظرا لأن الإمكانيات والقدرات الاقتصادية ليست موزعة توزيعا متكافئا فيما بين الدول، مما يجعل الكثير منها يعتمد بدرجة كبيرة على التجارة الخارجية، على أن درجة الاعتماد على التجارة كعنصر من عناصر النشاط الاقتصادي تختلف من دولة لأخرى.
وبجانب التجارة تبرز المساعدات الاقتصادية كأداة للثواب والعقاب حيث تستغل بعض الدول احتياجات الدول الأخرى للسلع والموارد لتحقيق أهداف سياستها الخارجية مثل فرض الطاعة السياسية أو زيادة قدراتها على حساب قدرات دولة أخرى معادية أو لخلق أفلاك أو توابع اقتصادية لها لضمان أسواق ومصادر السلع والموارد الاقتصادية.
وتحقيقا لهذه الأهداف تستخدم الدول أنواعا مختلفة من الأدوات الاقتصادية منها ما يعتبر بمثابة نوع من العقاب (كالتحكم في كل من نظام الحصص والتعريفات وفرض المقاطعة والحظر) في حين يعتبر البعض الآخر كنوع من الثواب (مثل زيادة الحصص وخفض التعريفات وتقديم المساعدات والقروض والتسهيلات النقدية).
وتعتبر المساعدات أو المعونات الاقتصادية في الوقت الحاضر من أوسع أدوات السياسة انتشارا خاصة منذ ظهور الدول النامية. فهذه الدول تأمل في تحقيق التنمية الاقتصادية والتصنيع بمساعدة الدول المتقدمة التي يمكن أن تقدم لها المنح والقروض والسلع الرأسمالية والمهارات التكنولوجية اللازمة لاستخدامها في إقامة اقتصاد عنصري وتحقيق الاستقرار السياسي والأمن العسكري.
أما الدول المانحة لهذه المساعدات فإنها تأمل ـ على الأقل ـ في الحصول على عائد سياسي أو تجارى إما في المدى القصير أو المدى الطويل. وبذلك فإن المعونات الأجنبية تحقق في آن واحد مزايا لكل من الدول المتلقية والدول المانحة، إلا أن معظم المساعدات الاقتصادية لا تستهدف أغراضا إنسانية بدليل أن أغلب هذه المساعدات يذهب إلى دول دون أخرى وأحيانا لا تذهب إلى الدول ذات الحاجة الملحة.
وهنا يري البعض أن المساعدات الأجنبية سواء أكان الهدف منها الاعتبار الإنساني أم مساعدة الدول لتحقيق التنمية الاقتصادية فإنها تستخدم كأداة للتأثير على سلوك هذه الدول وذلك على الأقل بالنسبة لأهداف السياسة قصيرة المدى [26].

3ـ القوة المسلحة:

إذا عجزت وسائل النفوذ لدولة ما، أو لتحالف دولي معين، عن تغير سلوك الدولة الهدف، فإن الدولة التي تحاول التأثير قد تضطر للجوء إلى القوة وأقل استخدامات القوة عنفا هو الحصار، وإذا لم يواجه الحصار بتحد من قبل قوة أخرى، فإن تنفيذه قد ينجح دون إراقة دماء، أما إذا واجه تحد أو فشل، كأن نفذ ولكنه فشل في تغيير سلوك الدولة الهدف، فإنها تتحرك نحو تصعيد الصراع، ويأخذ هذا التصعيد عدة مستويات:
ـ مناورات ما قبل الأزمة: وتشمل حالة حرب باردة ـ أزمة ظاهرية ـ سياسية واقتصادية ودبلوماسية ـ تصريحات رسمية.
ـ الأزمات التقليدية: وتضم تشديد المواقف (مجابهة الإرادات) ـ إظهار القوة.
ـ الأزمات الحادة: وتتضمن تخفيض التمثيل الدبلوماسي، أو تعليق العلاقات أو تجميدها، أو قطع العلاقات الدبلوماسية على سبيل الاستفزاز، أو إعلان حالة استعداد قصوى، أو القيام بأعمال حربية تقليدية، أو القيام بتصعيد مزدوج على نطاق واسع، أو إعلان حرب تقليدية.
ـ تصعيد الأزمات الحادة: وتشمل إعلان حرب تقليدية ـ إجلاء للسكان.
ـ حالة الحرب المركزية: وتضم هجوم على منطقة في الداخل، أو هجوم على العسكريين، أو هجوم على الممتلكات، أو على السكان.
ـ الحرب العسكرية المركزية: وتتضمن إعلان الحرب الشاملة رسميا، حرب بطيئة ضد الممتلكات أو ضد القوات، أو قصف مقيد، أو هجوم غير محدد على القوات.
ـ حرب المدن: وتشمل. حرب بطيئة ضد المدن، أو هجوم تدميري ضد المدنيين، أو حرب واسعة.
والقوة المسلحة لا تنتج آثارها ما لم تقترن بأداة أخري دبلوماسية أو اقتصادية، وهنا يبرز مفهوم “دبلوماسية القوة” ويقوم على أن الدولة توجه أعمالا عسكرية إلى الخصم في حالة فشل المفاوضات أو أثناء هذه المفاوضات لإكراهه وإجباره على الانصياع لأهداف سياستها الخارجية، كما يدخل في إطار استخدام القوة العسكرية استعراض القوة والحشود العسكرية لإظهار استعداد الدولة لخوض الحرب عند الاقتضاء، أي التلويح بالقوة.
أي أن استخدام القوة المسلحة ليس مرادفا للحرب ولا يعتبر حربا من وجهة النظر القانونية التي لا تعترف بحالة الحرب إلا بناء على واقعة إعلانها، وإن كان التطور الهائل في الأسلحة المعاصرة يثير الارتباك في مدى ضرورة الإعلان عن الحرب نظرا لأهمية عنصر المفاجأة في الحرب الحديثة.
وهناك حالات كثيرة تلجأ فيها الدولة إلى استخدام القوة المسلحة، خاصة في عمليات الحصار البحري، كأداة للسياسة الخارجية وذلك دون اعتراف من حكومات هذه الدول بوجود حالة الحرب، فهي حالات لاستخدام القوة دون الحرب المعلنة، ويتفق هذا المفهوم مع تصور أن السياسة الدولية لعبة قوى بين الدول ذات السيادة حيث تمثل القوة المسلحة أهمية خاصة في مجال السياسة الخارجية، فمن خلالها تستطيع الدولة تحقيق أهدافها بممارسة السيطرة علي الخصوم وحل أصعب القضايا، غير أن استخدام القوة المسلحة يتوقف علي كثير من العوامل، منها الظروف الدولية والغاية من استخدام القوة وما إذا كان ذلك بقصد الدفاع أم العدوان والتوسع أم الردع أم لبواعث سلمية.
ونظراً لما يترتب على الأعمال العسكرية من أخطار، يجب أن تكون الملجأ الأخير، فلا يتم استخدامها إلا بعد استنفاذ الأدوات الأخرى والتأكد من أنها لم تعد ملائمة لبلوغ الهدف المنشود، وأن يأخذ صانعوا السياسة في اعتبارهم أن استخدام القوة العسكرية وسيلة لهدف وليست هدفا في حد ذاتها، وبعبارة أخرى فإن الغاية من ممارسة القوة العسكرية يجب أن يقتصر على تحقيق الهدف الذي تسعى إليه الدولة.
كما يجب أن يتفق مدى استخدامها مع القيمة التي تعولها الدولة علي بلوغ هذا الهدف، وأن يعتمد على حساب دقيق لمقدار المقاومة التي تتوقع مواجهتها مع الأخذ في الاعتبار أن هدف استخدام القوة هو تحطيم إرادة العدو للمقاومة وليس بالضرورة تحطيم قدرته على المقاومة، كذلك فإن اللجوء إلى الوسائل العسكرية يجب أن يسبقه حساب التكاليف والمخاطر التي يجب أن تقاس إلى حد كبير بالأرواح البشرية.
ويتطلب استخدام القوة العسكرية كذلك ترجيح النصر لأن ثمن الفشل في الحرب أعلي بكثير من ثمن الفشل في نوع آخر من أدوات السياسة. وهكذا فإن عاملي التكلفة والمخاطرة لا يحتمان الالتجاء إلى القوة العسكرية إلا عندما يكون هناك مبرر قوى واستعداد كامل لتحملها.
وفي إطار هذه الاعتبارات يبرز اتجاه متزايد يقلل من أهمية القوة العسكرية كأداة فعالة في السياسة الخارجية في مواجهة فاعلين جدد (كالشركات متعددة الجنسية والمنظمات الإرهابية) أو في التعامل مع اهتمامات جديدة في العملية السياسية، فالحرب أضحت لأسباب عديدة لا تمثل الخيار الأساسي أمام صانع القرار حتى في أكثر الدول قوة [27].

4ـ الحرب السرية:

إزاء القيود التي ترد على استخدام القوة المسلحة بشكل السافر، فإن الدول كثيرا ما تلجا إلى وسائل الحرب السرية والنفسية وعمليات المخابرات والتجسس والتخريب وتهريب السلاح والاغتيال واحتجاز الرهائن والإرهاب وتلغيم البحار والموانئ وحرب العصابات وغيرها، وجاء استخدام هذه الوسائل أمام طبيعة الوضع الانتقالي للعلاقات الدولية وتكاثر الفاعلين الدوليين، وتعدد مظاهر الفوضى العالمية من حروب وصراعات وثورات وفتن أهلية. وينبع هذا السلوك من رغبة الدول الكبرى في أن تلعب دورا قوميا نشطا على الساحة العالمية [28].

5ـ الإعلام والرأي العام:

يتم تعديل اتجاهات الرأي العام بصورتين مختلفتين: متعمدة (التغيير المتعمد لاتجاهات الرأي العام وذلك من خلال خطة مدروسة تستهدف تعديل اتجاه معين، والجهات التي يعنيها هذا التعديل هي التي تدرس الاتجاهات وتعد الخطة وتعهد إلى المختصين بتنفيذها بالأسلوب الملائم) وتلقائية (توجد حسب ما يطرأ علي الحياة وظروف الجماعة من تطورات وطبقا لتغيير العناصر المادية والمعنوية المؤثرة في حياة المجتمع كالمناخ الاجتماعي والسياسي السائد ونوع الاشباع الاقتصادي للحاجات الضرورية وفاعلية الزعماء والحكام وأثر الأحداث الهامة والتيارات الفكرية في المجتمع، ..).
أما تغيير الاتجاهات النفسية لدى الجماعات المختلفة، فيتم التمييز بين نوعين من الاتجاهات: اتجاهات جذرية متأصلة (تشكل ما يسمى بنواة الشخصية أو جوهرها) وهذه يصعب تغييرها مهما كانت قوة وسائل الإعلام، واتجاهات ثانوية (تشكلها الأحزاب السياسية والأندية والنقابات وغيرها) وهذه من السهل التأثير فيها والعمل على إعادة صياغتها[29].
تعليقات