أمن الطاقة في العلاقات الروسية – الأوروبية: قراءة وفق نظرية الاعتماد المتبادل



محفوظ رسول


يحظى موضوع أمن الطاقة في العلاقات الروسية – الأوروبية بأهمية متعاظمة في دراسة العلاقات الدولية، حيث أصبح هذا الموضوع أحد الهواجس والقضايا الموجعة في المأمورية السياسية بين الطرفين، بل غدا للطاقة دور مهم في تحديد منحى مسار العلاقة بين هذين القطبين؛ ذلك بأن دول هذا الاتحاد تعتمد بشكل بالغ على إمدادات الطاقة الروسية بنسبة لا تقل في أحسن أحوالها عن 30 بالمئة من حاجاتها الطاقية، فضـلاً عن أنها تصل عند بعض دول أوروبا الشرقية إلى قرابة 100 بالمئة. بينما تعتمد روسيا اعتماداً شديداً على سوق الطاقة الأوروبية، وبنسبة لا تقل عن 70 بالمئة من صادراتها الطاقية‏[1]، وهو ما يجعل العلاقة بين هذين القطبين تتميز بنوع من الحاجة والتبعية المتبادلة على نحوٍ يمكن أن نطلق عليه اعتماداً طاقياً متبادلاً. غير أن هذا الاعتماد يقع ضمن نطاق مستويات متباينة من دولة أوروبية إلى أخرى.
لقد طرحت الأزمات الأوكرانية المتتالية ارتهان الأمن الطاقي الأوروبي، مثلما طرحت ارتهان الأمن الطاقي الروسي نفسه، فضـلاً عن قابليته الشديدة للعطب، نظراً إلى الاعتماد الصارخ للقطبين على دول العبور في أمن الإمدادات الطاقية. وعلى هذا الأساس فما مدى درجة الاعتماد الطاقي المتبادل بين روسيا ودول الاتحاد الأوروبي؟ بمعنى آخر هل يمكن اعتبار العلاقات الطاقية بين روسيا ودول الاتحاد الأوروبي علاقات اعتماد متبادل؟ وإلى أي مدى وصل هذا الاعتماد؟ هل إلى درجة الحساسية أم إلى درجة القابلية للعطب (الهشاشة)؟ وهل هي علاقات اعتماد متبادل تماثلي أم غير تماثلي؟
تتكون الاجابة عن هذا التساؤل من خلال التطرق إلى مفهوم أمن الطاقة، وطبيعة العلاقات الطاقية بين روسيا ودول الاتحاد الأوروبي، فضـلاً عن محاولة قياس درجة الاعتماد الطاقي المتبادل بين هذين القطبين؛ وذلك عبر منظارَي الحساسية والهشاشة؛ زيادة على تحديد علاقات الاعتماد التماثلي وغير التماثلي بين أطراف وفواعل العلاقة.

مفهوم الأمن الطاقي

يُرجع دانييل يورغن في مقال له تحت عنوان «ضمان أمن الطاقة» المفهوم إلى عشية الحرب العالمية الأولى؛ حين اتخذ اللورد ونستون تشرشل قراراً تاريخياً بتحويل تشغيل السفن الحربية البريطانية من الفحم إلى النفط. ويعد تشرشل أول من طرح تعريفاً لمفهوم أمن الطاقة حينما أشار إلى أنه «يكمن في التنوع والتنوع وحده» (Lie in Variety and Variety Alone)‏[2].
لقد استُعمل أمن الطاقة كمفهوم في وسائل الإعلام والبحث الأكاديمي، غير أن تعاريفه بقيت مبهمة، وفي أغلب الأحيان محدودة‏[3]. وذلك نظراً إلى تعدد المقاربات والمناظير والفواعل التي تناولت قضية أمن الطاقة. وهكذا يختلف أمن الطاقة من دولة إلى أخرى، حسب وضع الدولة في سوق الطاقة نفسها، حيث يقوم مفهوم أمن الطاقة عند الدول المصدرة الطاقة عموماً على أنه أمن الطلب؛ بمعنى ضمان إنتاج كافٍ من مصادر الطاقة، مع ضمان الطلب المستمر عليها، وبأسعار تنافسية (عالية) تسدد تكاليف الاستثمار وتحقق عوائد مالية مهمة. بينما يقوم المفهوم عند الدول المستوردة على أنه أمن الإمدادات الطاقية؛ بمعنى ضمان إمدادات طاقة كافية من موردين موثوق بهم، مع ضمان الوصول الآمن لهذه الإمدادات من دون خطر إعاقتها، وبأسعار معقولة (منخفضة) من أجل الحفاظ على الأداء الاقتصادي ومعدلات النمو، وبتكلفة اجتماعية أقل‏[4]. وهكذا يصبح السعران المنخفض والمرتفع أحد أهم تحديات ضمان أمن الطاقة بين الدول المصدرة والدول المستوردة؛ ذلك بأن فكرة السعر الملائم أو المناسب هي فكرة غامضة ومحيرة، فالسعر الملائم لدولة ما ليس ملائماً لدولة أخرى. وهو ما يسهم بدوره في تقليص أوجه التعاون بين الدول المنتجة فيما بينها من جهة، وبين الدول المصدرة ونظيرتها المستهلكة من جهة ثانية، حتى يفضي في الأخير إلى ما يسمى معضلة الطاقة؛ التي تعني «أن سعي الدولة نحو تحقيق أمن الطاقة الخاص بها، سوف يؤثر في سياسات الطاقة للدول الأخرى، سواء كانت مصدرة أو مستوردة»‏[5].
لو كنا في محاولة الجمع بين التعريفات السابقة لقلنا إن أمن الطاقة يعني التوازن السليم بين العرض والطلب على الطاقة بغرض تسهيل التنمية الاقتصادية والتطور الاجتماعي لكل من المصدِّرين والمستوردين. إنه توازن يُقصد منه التوافق بين مجموعة متنوعة من مصادر الطاقة ومجموعة معقدة من الحاجات. معنى هذا أن ننظر إلى أمن الطاقة نظرة تعاونية لا نظرة نزاعية. بعبارة أخرى، إن تحقيق أمن الطاقة بين الدول المصدرة ونظيرتها المستوردة ينبغي أن ينطلق من مبدأ لعبة غير صفرية (ربح – ربح) في علاقات الدول، لا من نظرة نزاعية عادة ما تفضي إلى معضلة الطاقة.
ولا تشذ روسيا عن باقي الدول المنتجة والمستوردة لمصادر الطاقة؛ حيث تعرف أمنها الطاقي – مثلما يذهب إليه الباحث بمركز استراتيجية الطاقة بموسكو م. بيلوفا (M. Belova) على أنه: «ليس هناك تعريف وحيد لأمن الطاقة.. لروسيا مثل أي مورد طاقي آخر، أمن طاقة.. يدور حول أمن الطلب.. وأسعار طويلة المدى، والتزامات طويلة المدى أيضاً..»‏[6]. والحقيقة أن أمن الطاقة الروسي يقوم على ضرورة الاستخراج الكافي من مصادر الطاقة الروسية الواقعة في مناطق جغرافية صعبة وقاسية، مثلما يتضمن ضرورة الوصول الآمن إلى أسواق الطاقة العالمية، خاصة الأوروبية منها؛ فضـلاً عن ضرورة التصدير الآمن لإمدادات الطاقة الروسية دون عرقلتها من طرف دول العبور، وبأسعار عالية تحقق أرباحاً مهمة. زيادة على ضرورة امتلاك التكنولوجيات المناسبة والضرورية لاستخراج الطاقة، وامتلاك والتحكم في شبكة خطوط نقلها نحو الأسواق الخارجية. ناهيك بضرورة التنويع وخلق توازن سليم في أسواق الطاقة الروسية بما لا يجعل روسيا تابعة لسوق طاقة واحدة. والحقيقة أن هذا المفهوم يجعل من روسيا فاعـلاً ودولة محورية مهمة في توازنات الطاقة في السوق الدولية بوصفها منتجاً طاقياً كبيراً. فلا عجب من استخدام الأدبيات السياسية عبارة: «ليس لروسيا سياسة خارجية وإنما سياسة طاقة»‏[7].
يقوم مفهوم أمن الطاقة لدى الاتحاد الأوروبي على أمن إمدادات الطاقة؛ حيث يتضمن هذا المفهوم تصوراً يقوم على ضرورة «استمرارية الإمدادات من مصادر موثوقة، وسهلة الوصول إليها، وبأسعار معقولة، وبآثار مقبولة بيئياً»‏[8]. نستشف من هذا التعريف أربعة عناصر رئيسة تشكل المضمون الحقيقي لمفهوم أمن الطاقة الأوروبي؛ يتعلق أولها باستمرارية توافر موارد الطاقة في السوق من بترول وغاز طبيعي وفحم… وتدفقها بشكل مستديم بلا انقطاع نحو دول الاتحاد الأوروبي. ويتعلق ثانيها بضمان توفر مصادر طاقة موثوقة من مناطق الإنتاج (المتمركزة أساساً في روسيا ومنطقة الخليج وشمال أفريقيا). ويتعلق ثالثها بضمان أسعار معقولة لمختلف موارد الطاقة (خاصة الغاز والنفط نظراً لشدة الاعتماد عليه). بينما يرتبط رابعها بضمان حماية البيئة، وعدم إلحاق الضرر بها. وهكذا أضحى أمن الطاقة الأوروبي – بعد الأزمات الطاقية التي شهدها – يقوم على بعد آخر يتمثل بضرورة تنويع مناطق إمدادات الطاقية بغية تقليل التبعية الطاقية الأوروبية لروسيا‏[9].
يتضح من خلال المفهومين الروسي والأوروبي لأمن الطاقة أن هناك اتفاقاً واضحاً بين المفهومين؛ في ما يتعلق بضرورة استمرار تدفق إمدادات الطاقة بين الطرفين بصفة دائمة. بيد أن موطن الخلاف يتمثل بالطريقة المثلى التي يمكن من خلالها ضمان استمرار هذه الإمدادات، وحجمها، وطرق نقلها.

ثانياً: نظرية الاعتماد المتبادل
في تحليل علاقات الطاقة بين الدول

أصبح الاعتماد على التحليل الليبرالي الجديد (نظرية الاعتماد المتبادل) لقضايا السياسة الدولية أمراً بالغ الأهمية، نظراً إلى ارتفاع مستويات الترابط الاقتصادي بين الأمم؛ فيما يعرف بنقاش مسير العولمة. وتعد نظرية الاعتماد المتبادل إحدى أهم تلك الطروحات الليبرالية الجديدة المناهضة لفكرة التحليل الواقعي الصرف. ويعرِّف روبرت كيوهان وجوزيف ناي في كتابهما القوة والاعتماد الصادر عام 2012 مفهوم الاعتماد على أنه: «حالات تتميز بالتأثيرات المتبادلة بين الدول أو بين الفواعل في مختلف الدول»‏[10]. ويميز روبرت كيوهان بين الاعتماد المتبادل وبين الاعتماد أو الترابط البسيط، ذلك بأن اعتماد الدولة على دولة أخرى في وارداتها الطاقية يختلف عن اعتمادها على دولة أخرى في بعض المنتجات الاقتصادية غير الاستراتيجية. ولأن الدول المنتجة للطاقة تعتمد على عمليات التصدير قصد الحصول على عوائد مالية – من أسواق البلدان المستهلكة – قصد مواصلة عجلة التنمية الاقتصادية، وبخاصة في الحالة الروسية – الأوروبية، فإن هذه العلاقة تخلق اعتماداً متبادلاً بين هذين القطبين. يطرح روبرت كيوهان وجوزيف ناي في نظريتهما حول الاعتماد المتبادل مفهومين شكّلا أعمدة مهمة في نظريتهما؛ هما مفهوم الاعتماد المتبادل الحساس ومفهوم الاعتماد المتبادل القابل للعطب (Sensitivity and Vulnerability Interdependence).
يعني مفهوم الحساسية حسب الكاتبين «تلك الكلفة التي تعانيها الدولة من قبل التأثيرات المفروضة عليها من الفواعل الخارجية، قبل أن تلجأ الدولة إلى محاولات تعديل وتغيير سياساتها». بينما يعني مفهوم القابلية للعطب (Vulnerability) «مسؤولية الفواعل لتحمل التكاليف المفروضة عليها من طرف الأحداث الخارجية بعدما تكون سياستها قد عدلت فعـلاً»‏[11].
بناء على ما سبق، يعني مفهوم الاعتماد المتبادل الحساس (Sensitivity Interdependence) عند كيوهان وناي: «درجات الاستجابة ضمن إطار سياسي يركز على مدى سرعة التغيرات الحاصلة في بلد ما، وما يمكن أن تحدثه من تغيرات عظمى في بلد آخر، فضـلاً عن مكامن هذه التأثيرات العظمى». ويقول كيوهان وناي إن دراسة الاعتماد المتبادل لا تتوقف على مجرد حجم صفقات التدفق عبر الحدود، ولكن أيضاً بتلك التأثيرات العظمى التي تغيِّر أسباب صفقات الحكومات والدول.
يمكن أن تقاس حساسية الاستيراد بتكلفة النفط الخارجي، ونسبة المجموع العام للنفط المستورد، مثـلاً، نجد أن الاعتماد الحساس للولايات المتحدة الأمريكية واليابان وأوروبا الغربية تأثرت بأسعار النفط المتزايدة عام 1973 – 1975، غير أن الولايات المتحدة كانت أقل حساسية من اليابان في ما يخص ارتفاع أسعار النفط حينها‏[12]. وهكذا يستدل على مستوى حساسية الاعتماد المتبادل الطاقي، عبر حجم الطاقة المستوردة بالنسبة إلى الطلب العام عليها في الدول المستوردة. بينما يقاس مستوى هشاشة الاعتماد المتبادل أو القابل للعطب عبر بدائل الطاقة المستوردة، وتكلفة تحويل تلك البدائل المحتملة إلى بدائل ممكنة. هنا نجد أن الدول التي تعتمد على استيراد الطاقة بنسبة 35 بالمئة من حاجاتها الطاقية قد تبدو حساسة لارتفاع أسعار الطاقة. غير أنه إذا قامت إحدى هذه الدول بالبحث عن بدائل محلية لوارداتها الطاقية عبر تكلفة مقبولة، فإنها ستكون أقل قابلية للعطب من تلك الدولة التي لا يتوافر لديها مثل هذه البدائل‏[13].
إن تحليل العلاقات الطاقية بين روسيا وأوروبا يجب أن يأخذ بعين الاعتبار التطرق إلى حالتَي الحساسية والقابلية للعطب بين مختلف فواعل العلاقة، وذلك قصد قياس مستوى التناظر بين طرفَي العلاقة.

ثالثاً: تطبيق نظرية الاعتماد المتبادل
على علاقات الطاقة بين روسيا ودول الاتحاد الأوروبي

1 – صور العلاقات الطاقية بين روسيا والاتحاد الأوروبي
تعد روسيا فاعـلاً طاقياً كبيراً؛ حيث تمتلك أكبر احتياطي عالمي من الغاز الطبيعي، مقداره 1.688 تريليون م3 (tcf) بما يعادل 23.4 بالمئة من الاحتياطي العالمي من الغاز الطبيعي. ووصل الإنتاج الروسي من هذا المورد عام 2014 إلى 605 مليار م3 سنوياً؛ تم تصدير ما لا يقل عن 191 مليار م3 منه، فاتجه الجزء الأهم نحو أوروبا، بينما تم استهلاك الباقي محلياً. ويتوقع أن يصل الإنتاج الروسي من الغاز عام 2035 إلى 727.3 مليار م3، كما يتوقع أن يصدر منه حوالى 268 مليار م3 خلال تلك السنة‏[14].
تمتلك روسيا أيضاً ثامن أكبر احتياطي عالمي من النفط؛ يقدّر بنحو 10 إلى 12 بالمئة من الاحتياطي العالمي من النفط. وقدرت قيمة هذه الاحتياطيات المؤكدة مع مطلع عام 2016 بنحو 80 مليار برميل. بينما بلغ إنتاج روسيا من النفط عام 2015 مقدار 11.3 مليون برميل يومياً من النفط وباقي السوائل النفطية الأخرى. وقامت في إثرها روسيا بتصدير 7.5 مليون برميل يومياً من النفط الخام، بينما استهلكت 3.5 مليون برميل يومياً من النفط‏[15].
وهكذا يشكل قطاع الطاقة في روسيا ربع الناتج المحلي الإجمالي، وتسهم إيرادات النفط والغاز أكثر فأكثر في الموازنة الروسية؛ ففي عام 2013 موّلت تلك الإيرادات أكثر من 45 بالمئة من موازنة الدولة. بحيث يأتي الدخل الرئيس من النفط؛ الذي وصلت إيراداته عام 2013 إلى 191 مليار دولار، ومن الغاز نحو 28 مليار دولار؛ وهكذا يوفران الغاز والنفط معاً 68 بالمئة من إيرادات التصدير الروسية.
وجاء على الطرف الآخر الإنتاج الطاقي لدول الاتحاد الأوروبي لعام 2013، وفق المعادلة التالية: مقدار إجمالي إنتاج الطاقة الأولية لدول الاتحاد 789.8 مليون طن معادل نفط = 131.8 مليون طن معادل نفط من الغاز + 66.2 مليون طن معادل نفط من النفط + 155.8 مليون طن معادل نفط من الفحم + 226.3 مليون طن معادل نفط من الطاقة النووية + 192 مليون طن معادل نفط من الطاقة المتجددة + 17.7 مليون طن معادل نفط من طاقات أخرى‏[16].
استهلكت دول الاتحاد الأوروبي خلال السنة نفسها 1.666 مليار طن معادل نفط، بما جعل هذه الدول تستورد قرابة مليار طن معادل نفط لتغطية حاجاتها من الطاقة خلال السنة نفسها. وهكذا استورد الاتحاد الأوروبي (عام 2013) 33.50 بالمئة من حاجته النفطية من روسيا، مثلما استورد 39 بالمئة من حاجته من الغاز من روسيا أيضاً. وهو ما يجعل روسيا أول موّرد للنفط والغاز نحو الاتحاد الأوروبي. بمعنى أن دول الاتحاد الأوروبي تعتمد بشدة على إمدادات الطاقة الروسية، بما يجعلها أكثر تبعية لواردات الطاقة الروسية‏[17].
تشهد روسيا على الطرف الآخر أيضاً تبعية طاقية شديدة نحو سوق الطاقة الأوروبية؛ حيث يتجه ما يزيد على 80 بالمئة من الإنتاج الروسي من النفط والغاز نحو السوق، بينما تستورد روسيا ما يفوق نصف حاجتها من التقنية الخاصة باستخراج النفط والغاز من الاتحاد الأوروبي. وهكذا يمكن القول إن روسيا بحاجة إلى السوق الطاقية الأوروبية قصد تصريف إنتاجها، بينما تحتاج دول الاتحاد الأوروبي إلى إمدادات الطاقة الروسية قصد تلبية حاجاتها، وهو ما يخلق تبعية طاقية متبادلة بين القطبين‏[18].
2 – مؤشرات إدراك الاعتماد الطاقي الروسي – الأوروبي
لخصت المفوضية الأوروبية في أيار/مايو 2014 اعتماد أوروبا على الغاز الروسي على النحو التالي: «تعتمد ست دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي على روسيا فقط كمورد خارجي وحيد لوارداتها من الغاز الطبيعي؛ ومنها ثلاث دول تعتمد على استخدام الغاز الطبيعي لتلبية أكثر من ربع حاجاتها من الطاقة»‏[19]. وهكذا يتضح من خلال هذه العبارة مستوى التبعية الطاقية لبعض دول الاتحاد الأوروبي لروسيا، بما يجعلها أكثر ارتهاناً لإمدادات الطاقة الروسية.
حريٌّ بنا الإشارة إلى أنه ستحلل درجة حساسية وهشاشة الاعتماد الطاقي بين روسيا والاتحاد الأوروبي عبر تحليل التمايز داخل دول الاتحاد الأوروبي نفسه، وعبر تمايز علاقاتها الطاقية مع روسيا. ويكون هذا عبر التمييز بين مجموعتين مختلفتين من درجات الاعتماد المتبادل؛ حيث تتمثل المجموعة الأولى بدرجات الاعتماد المتبادل بين دول أوروبا الغربية وروسيا؛ في حين، تتمثل المجموعة الثانية بدرجات الاعتماد المتبادل بين روسيا وبلدان العبور، المتمثلة بدول أوروبا الشرقية. حيث يمكن تمييز اختلافات كبيرة بين مستويات الحساسية والهشاشة بين هذه المجموعات وروسيا.
أ – الاعتماد الطاقي للاتحاد الأوروبي:
بين الحساسية والقابلية الشديدة للعطب
تشهد دول الاتحاد الأوروبي مستويات عالية من الحساسية والقابلية الشديدة للعطب في إمداداتها الطاقية القادمة من روسيا، ولا سيَّما في معاملات الغاز الطبيعي. ويمكن تميز هذه المستويات وفق عنصرين مهمين هما:
(1) حساسية الاعتماد الطاقي الأوروبي: يمكننا قياس درجات حساسية الاعتماد الطاقي لدول الاتحاد الأوروبي عبر عدد من المتغيرات لعل أهمها؛ متغير تنوع مزيج الوقود الأساسي، ومتغير استيراد التبعية وإحلال الوقود، ومتغير تركيز السوق وحصتها من المناطق غير المستقرة سياسياً في الواردات الطاقية. والحقيقة أن القاء نظرة على الوضع الطاقي الحالي في الاتحاد الأوروبي، يثبت لنا أن جميع معايير زيادة درجة حساسية الاعتماد الطاقي يبدو أنها موجودة، وهي كما يلي:
– تعد مساهمة إنتاج النفط والغاز في مزيج الطاقة لدول الاتحاد الأوروبي ضعيفة؛ حيث يسهم النفط بنسبة 9.1 بالمئة، والغاز الطبيعي بنسبة 16.7 بالمئة من مزيج إنتاج الطاقة لدول الاتحاد الأوروبي.
– تصل درجة الاعتماد الأوروبي على واردات الطاقة إلى نسب مرتفعة جداً (قرابة 53 بالمئة من الحاجات الأوروبية للطاقة).
– تهيمن روسيا على حصة كبيرة جداً من سوق الطاقة في أوروبا؛ (39 بالمئة من سوق الغاز الطبيعي، ومقدار 33.5 بالمئة من سوق النفط لدول الاتحاد). وهو ما يجعل التبعية الأوروبية لإمدادات الطاقة تتركز عند مورد واحد مهم يتمثل بروسيا‏[20].
– يتسلّم الاتحاد الأوروبي مقدار 80 بالمئة من إمدادات الطاقة القادمة من روسيا عبر أوكرانيا كدولة عبور؛ وهو ما يجعله يواجه توجساً دائماً بشأن قطع إمدادات الطاقة على خلفية الأزمات الأوكرانية المتتالية، بما يؤثر في استدامة سلسلة الطاقة نحو أوروبا.
نتيجة لما سبق، يمكن اعتداد درجة حساسية الاعتماد الطاقي للاتحاد الأوروبي ذات حساسية مرتفعة. وهذه الحساسية هي انعكاس إلى حد كبير لحقيقة مفادها أن الاتحاد الأوروبي يعتمد على إمدادات خطوط أنابيب الغاز القادمة من روسيا، وليس لديه القدرة الكافية في الوقت الراهن على خلق بدائل فورية لتبعيته الطاقية نحو روسيا‏[21]. نتيجة لذلك، تم طرح فكرة تنويع طرق ومناطق الاعتماد الأوروبي على توريدات الطاقة الخارجية. ومع ذلك – وفقاً لنظرية الاعتماد المتبادل – فإن درجة حساسية الاعتماد الطاقي الأوروبي، ليست مهمة بقدر أهمية ودرجة هشاشة الاعتماد الطاقي الأوروبي، وقابليته الشديدة للعطب.
(2) هشاشة الاعتماد الطاقي الأوروبي: يمكن قياس هشاشة الاعتماد الطاقي للاتحاد الأوروبي من خلال النظر – ليس فقط على نسبة حاجات الاتحاد الأوروبي من الطاقة وتكاليف قطع إمدادات الطاقة – ولكن أيضاً في بدائل الطاقة المستوردة، وتكاليف التحول إلى البدائل الممكنة. وهكذا، ينبغي أن ينظر إلى هشاشة الاعتماد الطاقي للاتحاد الأوروبي في علاقته مع روسيا عبر منظار مجال تهديدات يشمل المدَيَين القريب والبعيد؛ مثل عدم قدرة الاتحاد الأوروبي على إنجاز طرق بديلة لإمدادات الطاقة الروسية، وقضية زيادة الاستثمارات في مجال تحسين كفاءة استخدام الطاقة، وتكنولوجيات الطاقة البديلة، والطاقات البديلة. وتشير توقعات وضع الطاقة في الاتحاد الأوروبي إلى ما يلي:
– يتوقع استمرار هيمنة مصادر الطاقة التقليدية في المدى القصير والمتوسط في مزيج الطاقة الأوروبي، نظراً إلى التكلفة العالية نسبياً لموارد الطاقة البديلة.
–  يتوقع زيادة نمو الاعتماد الأوروبي على واردات الطاقة الخارجية، حيث سيصل استيراد الغاز الطبيعي إلى نسبة 75 بالمئة من حاجة الاتحاد الأوروبي بحلول عام 2030. بينما لن يتجاوز خلالها نمو المصادر البديلة نسبة 27 بالمئة من حصة مزيج الطاقة.
– يتوقع بقاء روسيا واحدة من المصادر الرئيسية الأهم لإمدادات الطاقة للاتحاد الأوروبي، ولا سيَّما مع قرب نضوب واستنزاف مصادر إمدادات الطاقة من مناطق أخرى من العالم.
– يُتوقع أن تكون روسيا المورد الأكثر موثوقية لإمدادات الطاقة في السنوات القادمة مقارنة مع باقي المناطق الجغرافية الأخرى؛ التي تشهد صراعات صدامية لا يمكن حلها في المدى القريب. ويتوقع أن تغدو عملية تنويع مناطق الإمداد أكثر صعوبة بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي، وبخاصة في المديين القريب والمتوسط، بسبب تكلفتها العالية، ووقوعها في مناطق غير مستقرة سياسياً وأمنياً.
– ترتبط دول الاتحاد الأوروبي بعقود إمدادات طويلة المدى مع شركة غازبروم الروسية؛ تتضمن استيراد الاتحاد الأوروبي مقدار 180 – 200 مليار متر مكعب من الغاز من طرف شركة غازبروم الروسية، ومعظم هذه العقود تمتد إلى ما وراء عام 2025، وبعضها إلى ما بعد عام 2030، وهو ما يجعل دول الاتحاد الأوروبي أكثر ارتباطاً بإمدادات الطاقة الروسية.
– يجعل الانقسام الحالي في سياسة الطاقة الأوروبية، من دول هذا الاتحاد أكثر هشاشة وضعفاً في مواجهة ضغوط الدول المنتجة، ولا سيَّما روسيا. فلا عجب من لجوء روسيا إلى اصطياد الدول الأوروبية فرادى عبر توقيع كل منها صفقات طويلة المدى مع روسيا. وعلى هذا النحو واستناداً إلى نظرية الاعتماد المتبادل، فإن غياب التماسك والتضامن في سياسة الطاقة الأوروبية المشتركة سيزيد من مستوى حساسية وهشاشة الاعتماد الطاقي الأوروبي تجاه روسيا.
تعليقات