تراجيديا المغرب الكبير: ما بعد هجوم حفتر



يعبر الهجوم الذّي أقدم عليه اللواء حفتر في أبريل 2019، على العاصمة الليبية طرابلس، عن تقاطعٍ للمصالح بين الفواعل الأساسية المحليّة والدولية بمنطقة المغرب الكبير أكثر من كونه مجرّد تعبيرٍ عن “ثنائية الثورة والثورة المضادة” كما يُسمّيها الإعلام. ويمكن أن يكون الوضع الجديد الذّي تعرفه الجزائر هو السبب المباشر لما يشهده إقليم المغرب الكبير هذه الأيام من حركةٍ لافتة، فبعدما تمكّنت قيادة الأركان من تحقيق انتصارٍ أولّي في صراع الأجنحة داخل الجزائر، شنّ اللواء حفتر هجومه بغرض السيطرة على طرابلس القريبة من الحدود الشرقية للجزائر، في وقتٍ يُطلق فيه المغرب أضخم مناورةٍ عسكريةٍ في تاريخه على مقربة من الحدود الغربية الجزائرية بمنطقة جبل صاغرو، وهي منطقة تحمل رمزيةً ذاتُ صلةٍ بحرب الرمال بين المغرب والجزائر سنة 1963.
الأمر الذّي يبعث على التساؤل، هل لهذه الأحداث علاقةٌ مترابطةٌ خاصّة وأنّها جاءت بشكلٍ متسلسلٍ زمنياً؟ وهل سيدخل إقليم المغرب الكبير قريباً مرحلة غليانٍ مُتناميٍ؟
في سنة 2001، نشر البروفيسور جون ميرشايمر من جامعة شيكاغو أحد أكثر الكتب تأثيراً في حقل السياسة الدولية إلى الآن، حمل الكتاب عنواناً ذي دلالاتٍ مخيفةً، “تراجيديا سياسات القوة العظمى”، تنتهي نتائجه بأنّ السياسة الدولية ما هي في النهاية إلاّ تراجيديا بأتمّ معنى الكلمة نظراً لعوامل عديدةٍ أبرزها أنّ الدول وفي “نظام دولي فوضوي” تغيب عنه سُلطةٌ عليا تضبط السلوكيات أو تُوّفر الحماية لن يكون أمامها سوى الاعتماد على الذات عبر التسلّح ونسج التحالفات أو التوافقات القائمة على المصلحة المشتركة لا أكثر.
يُعتبر الوضع الراهن في منطقة المغرب الكبير مختبراً جديداً لما يقصده ميرشايمر “بالتراجيديا”، فالتداخلات القائمة بين دول المنطقة من جهة والقوى الدولية والإقليمية الفاعلة من جهةٍ أخرى، تُنذرُ حقّاً بمأساةٍ جديدةٍ تُحدق بشعوب هذه المنطقة، نتحدثُ هنا عن الجزائر، ليبيا والمغرب خصوصاً، أمّا القوى الخارجية فإنّنا نتحدث عن فرنسا، الولايات المتحدة، روسيا، الإمارات، مصر وقطر على وجه التحديد.
وبالرغم من أنّ التنافس بين هذه الدول يُعدُّ أصلاً في علاقتها ويظهر جلّياً في ملفاتٍ عديدة، إلاّ أنّ الأمر لن يكون مفاجئاً وفقاً لطرح ميرشايمر ومدرسته إذا ما حدث تنسيقٌ بين هذه الدول أو معظمها في ملفاتٍ أخرى، فهذا ما يُمسى بمبدأ العقلانية في السياسة الدولية، حينما يجد المتنافسون مصالحاً مشتركةً في مسألةٍ ما أو لربّما في شخصٍ ما بعينه كما حدث مع اللواء حفتر.

1ـ الدور الفرنسي:

إنّ فرنسا تعيش اليوم “صراعاً وُجودياً” في الجزائر قد يُنهي نفوذها القائم هناك منذ سنة 1830 بل وفي كامل المنطقة، خاصّةً مع هزيمة “حلفائها المحلّيين” في الجزائر تحت أقدام العسكر الحلفاء المفضلّين للروس، ويُعدُّ انتصار العسكر في الجزائر -في نظرنا أيضاً- نقطةً إضافيةً لقوى الشرق الصاعدة (روسيا والصين) على حساب الولايات المتحدة، أمّا بالنسبة للقوى الإقليمية الأخرى، فإنّ كلاًّ منها سيعمل على الاستثمار العقلاني في نتائج حراك الجزائر لصالحه.
لقد كان هجوم اللواء حفتر مباشرةً بعد استتباب الأمر للعسكر في الجزائر، وقد تمّ تصوير الأمر في الجزائر بأنّه تهديدٌ للأمن القومي للبلاد وتشتيتٌ تقوده فرنسا عبر حفتر ضدّ الجيش الجزائري المنتصر لتوّه، قد يكون لفرنسا بالفعل دورٌ في تحريك حفتر لتكون رسالةً منها إلى الطرف المنتصر في صراع الأجنحة في الجزائر مفادها أنّ فرنسا بإمكانها أنّ تظلّ فاعلاً مؤثّراً على الأمن القومي للجزائر رغم تراجع دور حلفائها المحلّيين الآن، وأنّ على قيادة الأركان أن تكون حذرةً قبل اتخاذ أيّ قرارٍ مستقبليٍ قد يُهدّد المصالح الفرنسية المُتبقيّة في جزائر-ما بعد بوتفليقة.
لكن، لماذا لم تُحرّك فرنسا “بيدقها هذا” حينما كان حُلفاءها داخل النظام الجزائري يُصارعون العسكر لتكون سنداً لهم؟ ولماذا جاء تحريكها هذا متأخّراً أو لنقل بعد انتصار عسكر الجزائر مُباشرةً؟ طرحُ تشتيتِ الحراك لا يُقدّم لوحده تفسيراً منطقياً بليغاً.

2ـ الدور الروسي:

نعرف بأنّ روسيا تُعتبر أيضاً داعماً كبيراً لحفتر، فمن المستحيل أن يُقدِم الرجل على خطوةٍ كهذه من دون موافقة الروس، خاصّة وأنّها على مقربة حدود حليفٍ استراتيجي انتصر لتوّه في معركةٍ حاسمةٍ أي الجيش الجزائري وقيادة أركانه، هل كان قرار حفتر بدعم روسي؟ هل يحتاج الروس إلى رسائل “على النمط الفرنسي” لجيش الجزائر؟
لا نرى في ذلك منطق، لكن يبدو بأنّ الروس قد غضّوا الطرف كما يُقال عن سلوك حفتر الهجومي.

3ـ الدور الإماراتي:

بالنسبة للإمارات، فقد صرّح مسؤوليها علانيةً بدعمهم لهجوم حفتر. وتحظى الإمارات بعلاقات وديّة مع الجزائر سواء مع رئيسها السابق، أو مع قائد الأركان الحالي الذّي كانت له زيارة إليها قبل بداية الحراك بقليل، بشكلٍ نُسائل به مرّة أخرى ذلك الطرح القائل بأنّ الإمارات تحاول التأثير على حراك الجزائر وانتصار قيادة الجيش.
لقد بدا لنا مع بداية الحراك بأنّ قائد الأركان الجزائري قد تمكّن من إقناع الإمارات وبعض الدول الخليجية الأخرى بالامتناع عن ممارسة دورٍ سلبي إلى حدٍّ ما في حِراك الجزائر، وقد اتضح ذلك من خلال التغطية الإعلامية لقنواتها الرئيسية لحراك الجزائر، والتّي تبدو إلى الآن مختلفةً إلى حدٍّ ما عن التغطية الإعلامية لذات القنوات المؤثّرة في “دول الربيع العربي” من قبل.
قد يكون المقابل الذّي قدّمه النظام الجزائري لهذه الدول مرتبطاً بوعودِ باستثمارات اقتصادية كبيرةٍ في الجزائر في المستقبل المنظور، كما قد يكون الأمر مرتبطاً أيضاً بتعهّد الجزائر بممارسة دورٍ وساطةٍ ما (أو ضغطٍ ما) أكثر فاعليةٍ في كلٍّ من الملف السوري الذّي صار هاجساً لدول الخليج، أو في الملف المغربي بعد الأزمة الدبلوماسية لبعض هذه الدول كالسعودية والإمارات مع المغرب نهاية العام الماضي.
لكن، هجوم حفتر في هذا التوقيت بالذات، قد يضيف لنا بُعداً آخر لهذه الزيارة، كما قد يجيب بشكلٍ منطقيٍ عمّا سبق من تساؤلات، حيث يعرف حفتر جيّداً حدود قوتّه العسكرية، كما يعرف في المقابل حدود قوة الجزائر صاحبة التسليح الأكبر في أفريقيا، بل ربّما قد أخذ “درساً عملياً” قبل أشهرٍ قليلةٍ عن حدود قوة الجزائر في اليوم الذّي هدّد فيه بإمكانية فتح جبهةٍ عسكريةٍ ضدّها، لذا يبدو لنا أنّه من المستبعد بمكان أن ينتحر حفتر بتقدّمه نحو الحدود الشرقية للجزائر بهدف تشتيت الحراك وانتصار العسكر في الجزائر.
بناءً على ما سبق، يبدو لنا بأنّ هجوم حفتر في هذا التوقيت بالضبط جاء ليُعبّر عن توافقاتٍ ومكاسبٍ مشتركةٍ لكلّ الأطراف المعنية في هذا الصدد، فهو قبل كلّ شيءٍ يُقدّم خدمةً حيويةً لقيادة الأركان الجزائرية التّي تجتهد منذ مدّة لأجل تحصيل شرعيةٍ وقبولٍ في أعين الشعب المتظاهر بالملايين في الشوارع، وهجوم كهذا من شأنه أن يزيد من حظوظ قيادة الجيش للمرحلة القادمة من تاريخ الجزائر، كما إنّه يُوفّر لها مصدراً جديداً للتهديدات الخارجية المُحدقة بالجزائر والتّي تستلزم تكاثفاً شعبياً والتحاماً مع الجيش المنتصر لتوّه.
أمّا فرنسا، فإنّ دعمها لحفتر وأمثاله، سيبقيها طرفاً فاعلاً في شمال إفريقيا ومنطقة الساحل على مقربةٍ دوماً من الجزائر، “تاج مستعمراتها القديمة ونفوذها المتلاشي الحديث”.
وستتمكّن روسيا أيضاً من عقد صفقات تسلّحٍ جديدةٍ مع الجزائر صاحبة أعلى نسبةٍ من مشتريات السلاح الروسي في أفريقيا والمُحاطة بسياجٍ من الأزمات والمشاريع الدولية والإقليمية المتضاربة، ولن تجد القيادة الجديدة في الجزائر بذلك صعوبةً في تبرير ضخامة مثل هذا التسلّح مستقبلاً، خاصّة وأنّها مُلزمةٌ من الآن فصاعداً بمباشرةِ إصلاحاتٍ اجتماعية واقتصادية ضروريةٍ تستلزم تعديلاً في ميزانية الدولة لصالح القطاعات المدنية أكثر من القطاع العسكري، كما سيُعزّز حفتر وأمثاله أيضاً من حظوظ روسيا في إرساء حلمها الجيوبوليتيكي القديم، قاعدةٌ عسكريةٌ تطلّ على المتوسط، قد تتموضع شمال غرب ليبيا، ولما لا في الجزائر أيضاً إذا انفلتت سلوكيات الفواعل الداخلية والخارجية عن مبدأ العقلانية في إدارة هذا الصراع. 
بالنسبة للإمارات، فإنّ دعمها لهجوم حفتر في هذا التوقيت من شأنه أن يُساهم مُجدّداً في حشد جهودها الساعية إلى دعم كلّ القوى التّي بإمكانها سدّ الطريق أمام النفوذ التركي أو القطري في العالم العربي لاسيما وأنّ الوضع في الجزائر والسودان مُناسبٌ جدّاً لاستئناف مثل هذه الجهود.

4ـ الدور المصري:

ستجد مصر في هجوم حفتر أمراً مُحبّذاً طالما سيُعزّز كما قلنا شرعية المؤسسة العسكرية في الجزائر، خاصة وأنّ نظام السيسي العسكري من أكثر الأنظمة العربية خوفاً من انتقال عدوى نموذج التغيير السلمي المليوني الذّي قدّمه الشعب الجزائري.

5ـ الدور القطري:

يُساهم هجوم حفتر في هذا التوقيت في تقديم مادةٍ إعلاميةٍ دسمةٍ لدولة قطر وقناة الجزيرة، سوف تعمل على محاولة الاستثمار في حراك الجزائر لاستقطاب الجماهير والنخب الجزائرية الشبابية الصاعدة بخطابٍ إعلاميٍ يُصوّر المسألة بأنّها خطةٌ إماراتيةٌ-سعوديةٌ بالتعاون مع قيادة الأركان الجزائرية لأجل الالتفاف حول المطالب الشرعية للحراك بإسقاط النظام، الأمر الذّي قد يُوفّر لها فرصةً مناسبةً لسحب “الجزائر الجديدة” إلى صفّها بعد عقودٍ طويلةٍ من سياسة الحياد الجزائرية وعدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى.

6ـ الدور المغربي:

أمّا المغرب، فقد أدرك بأنّ التغيّرات الطارئة في الجزائر واسترجاع العسكر لنفوذهم هناك من شأنه أن يُعزّز أكثر سياسة الجزائر تجاه قضية الصحراء الغربية، كما يُدرك المغرب أيضاً الطريقة التّي تتحرّك بها القوى الدولية والمال الخليجي في ليبيا والمنطقة عموماً على غرار خطوة حفتر الهجومية في هذا التوقيت بالضبط، لذا فإنّ أفضل وسيلة لإظهار قدرة المغرب على حماية أمنه القومي و”وحدته الترابية” رغم كلّ التحدّيات المحيطة به هي القيام بمناوراتٍ عسكريةٍ ضخمةٍ على مقربة من حدوده مع الجزائر. يتميّز الجيش المغربي بتسليحه الأمريكي ثمّ الفرنسي إلى حدٍّ ما، لذا، سوف تُساهم خطوة حفتر هذه من جديدٍ في تنشيط مبيعات “المركّب الصناعي-العسكري الأمريكي” من السلاح في المغرب الذّي يعيش أصلاً وهم التهديد الجزائري.

خلاصة:

إنّ أغلب الفواعل الإقليمية والدولية في المغرب الكبير تجد لها مكسباً ما من وراء هجوم اللواء حفتر في هذا التوقيت بالضبط، وتحاول تكييف تصريحاتها ومواقفها وفقاً لهذه المكاسب، أمّا الخاسر الأكبر على رقعة الشطرنج المغاربية الجديدة فهي شعوب هذه المنطقة التّي يُقدّر عليها أن تعيش “تراجيديا مُتجدّدة” لا تقلّ تشاؤماً عن تراجيديا البروفيسور ميرشايمر [1].
تعليقات