الإستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط بين الثابت والمتغير في عهد ترامب


اعداد : د. خالد هاشم محمد – باحث في المركز العراقي للدراسات الاستراتيجية
مثّل فوز دوانالد ترامب مفاجأة على الصعيدين الأميركي والعالمي، وأبرزت توجهاته الإستراتيجية الجديدة على المستوى الخارجي، وخصوصاً إزاء منطقة الشرق الأوسط الشديدة الاضطراب. جانب كبير من التغيير قياسا بسلفه باراك اوباما، هذه المقالة تحاول توقّع ما ستكون عليه إستراتيجية ترامب في منطقة الشرق الأوسط،
تأسيساً على ما صدر من ترامب من تصريحات ومواقف جديدة لإدارته سواء إثناء حملته الانتخابية أو بعد توليه الحكم.
أهمية الموضع:
أثار فوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب في الانتخابات، التي جرت في نوفمبر 2016، العديد من التساؤلات حول مستقبل الإستراتيجية الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط، في ضوء تصريحاته ومواقفه إبان الحملة الانتخابية.
توصف الإستراتيجية الأميركية تجاه منطقة الشرق الأوسط بالثابتة والمتغيرة  وفقًا لما تقتضيه المصلحة الوطنية الأميركية، كما إنها تتأثر بمؤسسات صنع واتخاذ القرار السياسي. تبعاً لذلك مثلت استراتيجي دونالد ترامب في الشرق الأوسط تغييرًا عن إستراتيجية سلفه باراك أوباما، خاصة تصريحاته بإلغاء صفقة البرنامج البرنامج النووي الإيراني، واتخاذ موقف مغاير من الأزمة السورية، وإعطاء الأولوية لمحاربة تنظيم “داعش” على رحيل النظام السوري، وكذلك علاقاته مع إسرائيل، وجعلها أكثر تحالفا، وكذلك  الاتجاه نحو التقارب مع مصر([1]). كما واستندت تلك الإستراتيجية تجاه المنطقة على عقيدة رجل الصفقات الذي اتبع آليات العرض والطلب في التعامل مع دول المنطقة بما يعزز مكانة واشنطن دون دفع أي مقابل لحماية شركائها بل هم من يدفعون مقابل الحماية، وبالتأكيد هناك جوانب من الاستمرار في تلك الإستراتيجية تجاه منطقة الشرق الأوسط.
  • ومن هنا يتم طرح التساؤل التالي للدراسة: ما هي حدود التغير في الإستراتيجية الأمريكية تجاه قضايا وأزمات منطقة الشرق الأوسط وتحالفاتها الإستراتيجية في عهد ترامب؟ وما هي جوانب الاستمرارية في تلك الإستراتيجية؟
ومن هذا التساؤل الرئيسي تنبثق عدة تساؤلات فرعية:
  • 1_  ما هي أهداف الإستراتيجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط؟
  • 2_  ما هي محددات التوجه الأمريكي تجاه الشرق الأوسط في عهد ترامب؟
  • 3_ ما هي توجهات الإستراتيجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط في عهد ترامب؟

أولاً: أهداف الإستراتيجية تجاه الشرق الأوسط.
    تمحورت الإستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط بعد أحداث 11سبتمبر حول مجموعة من الأهداف:
1_ التصدي للإرهاب: مواجهة ما يعرف بالإرهاب أخذت المرتبة الأولى من الاهتمام الأمريكي  في الشرق الأوسط  بعد أحداث 11 سبتمبر، وقد اعتمدت تلك التنظيمات الإرهابية وعلى رأسها تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام(داعش) في تمويل نشاطاتها وتطوير قدراتها على العالم الإسلامي وكان من أهدافها تقويض أنظمة الشرق الأوسط المتحالفة مع الولايات المتحدة، لذا سعت الولايات المتحدة على مواجهة تهديدات تلك التنظيمات التي تستهدف أصدقائها وتقديم المساعدات اللازمة لها لحفظ استقرار المنطقة([2]).
بالنسبة لإستراتيجية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في مكافحة الإرهاب تطالب بأن يتحمل حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط مزيدا من العبء في مكافحة “الإسلاميين المتشددين” مع الإقرار بأن تهديد الإرهاب لن يتم القضاء عليه نهائيا،   كما ينبغي على الولايات المتحدة أن تتجنب الالتزامات العسكرية المكلفة ”المفتوحة“([3]).
2_ منع انتشار أسلحة الدمار الشامل: تعد منطقة الشرق الأوسط من أكثر المناطق في العالم التي تثار فيها المسألة النووية بين الحين والأخر، وذلك لأهميتها سياسيا واقتصاديا وجغرافيا في المدرك الاستراتيجي للقوى الكبرى، ورغم تعدد المحاولات والجهود الرامية لإنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية في الشرق الأوسط، فأن تلك الجهود والمحاولات في سبيل جعل هذه المنطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل قد باءت بالفشل.
ومن المعروف أن أغلب دول المنطقة عدا إسرائيل  موقعة على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، وأن أغلبها ليس فقط لا تملك أسلحة دمار شامل بل لا تملك حتى القدرة النووية للأغراض السلمية عدا إيران.
ومن بين الأهداف الإستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط، منع انتشار أسلحة الدمار الشامل بكل أنواعها، كما أن انتشار هذه الأسلحة يهدد أصدقاء الولايات المتحدة في المنطقة لا سيما الخليج وإسرائيل وكذلك القوات الأمريكية المنتشرة حول المنطقة، وتحت هذه الذريعة، قامت الولايات المتحدة باحتلال العراق عام 2003، كما تعمل الولايات المتحدة على منع إيران من امتلاك تلك الأسلحة([4]).
بالنسبة لترامب، فان مصلحة العالم هي في منع وتطوير انتشار أسلحة الدمار الشامل، ولذلك تستهدف إستراتيجيته في منع هيمنة أي قوة مُعادية للولايات المتحدة على الشرق الأوسط، وركزت إدارة ترامب بشكل رئيسي على مواجهة إيران، واعتبرتها الدولة الرائدة في العالم في رعاية الإرهاب من خلال تقديم السلاح والتمويل، كما اتهمتها أيضاً بمواصلة تطوير برنامج صواريخ باليستية طويلة المدى، وتنفيذ أنشطة إلكترونية خبيثة، والعمل على استدامة دائرة العنف وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط وتهديد حلفاء الولايات المتحدة بالمنطقة([5]  .(
3_ تدفق النفط بأسعار مناسبة: يوجد في منطقة الشرق الأوسط أكبر مخزون نفطي في العالم يفي بحاجة الولايات المتحدة من الطاقة اللازمة لتفوقها العسكري والاقتصادي والسياسي، لهذا تحرص واشنطن على تدفق النفط من الشرق الأوسط وبأسعار مناسبة.
وتطلبت سياسة الهيمنة على النفط ضرورة التدخل في شؤون منطقة الشرق الأوسط، واعتبرت الولايات المتحدة منظمة أوبك المصدرة للنفط مصدر تهديد لاقتصاديات السوق الحر ورأت ضرورة الحد من تأثيرها من خلال الضغط على الدول النفطية لتقوم بتعديل سياستها النفطية بما يتواءم ومصالح الولايات المتحدة.
وفي هذا الصدد ربط ترامب ما بين الدعم الأميركي لدول الشرق الأوسط وخفض أسعار النفط، داعيا الدول الخميس في منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) إلى خفض أسعار الخام، قائلا “إن بلاده توفر الأمن لدول الشرق الأوسط المنتجة للنفط بينما تقوم هذه الدول بدفع الأسعار للارتفاع”([6]. (
4_ استقرار الأنظمة الصديقة: حرصت الولايات المتحدة على أبقاء علاقات الصداقة مع الأنظمة السياسية في الخليج العربي ومصر والأردن والمغرب، وتحرص تلك الدول على إرضاء المطالب السياسية الأمريكية بالمنطقة فتقابلها واشنطن بالتأييد والمساندة.
بالنسبة لترامب فأن موقفه من تلك الأنظمة الصديقة يتمثل في أهمية مشاركة دول المنطقة، خاصة الغنية منها، في تحمل أعباء التكلفة المالية المتعلقة بقضايا المنطقة، وذكر أن الولايات المتحدة أنفقت 7 تريليونات دولار في الشرق الأوسط على مدى 18 عاما، وأن الولايات المتحدة لا يجب أن تتحمل المسؤولية عن هذه التكلفة الهائلة، وعلى دول المنطقة دفع هذا الثمن([7]).
5_ اَمن إسرائيل: اهتمت الولايات المتحدة  طويلاً بأمن إسرائيل لأنها الدولة الوحيدة التي تمارس الديمقراطية الغربية ومنحازة للمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، لهذا تعمل الولايات المتحدة على تثبيت هذه الدولة وتهيئة الظروف مع العرب والمسلمين لإنهاء حالة الصراع العربي الإسرائيلي وإقامة سلام دائم في المنطقة. كما تلعب إسرائيل بحكم موقعها الجغرافي في المنطقة كحارس استقرار للأنظمة القائمة وفي منع أي تحول راديكالي أو ديني قد يضر بمصالحها ومصالح الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة.
بالنسبة للرئيس الأمريكي ترامب يعتبر أحد أكثر الرؤساء الأمريكيين تعبيرا عن الانحياز لإسرائيل، والسعي نحو تقوية التحالف معها. فقد كتب ترامب في أكتوبر 2016 على حسابه بموقع التواصل الاجتماعي: “لقد قلت في مناسبات عديدة إنه في عهد إدارة ترامب، فإن الولايات المتحدة ستعترف بأن القدس هي العاصمة الوحيدة والحقيقية لإسرائيل”([8]). وهو ما تم بالفعل في العام 2018 ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، كما انه يدعم تحالفا قويا بين بلاده وإسرائيل”.
كما اتهم ترامب سلفه أوباما بتخريب العلاقات مع إسرائيل. وشدد على التزامه بأمن إسرائيل، مؤكدا ضرورة اعتراف السلطة الفلسطينية بإسرائيل كدولة يهودية، ووقف جميع الهجمات الإرهابية ضدها([9]).
6_ تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان: توظف الولايات المتحدة موضوعة الديمقراطية وحقوق الإنسان كأحد الوسائل التي تخدم  مصالحها في الشرق الأوسط، وهي تستخدم هذه الوسيلة تحديدا بما يخدم أهدافها، فقد ترى الولايات المتحدة أن تدعيم الديمقراطية قد يضر بمصالحها عندما تصل أحدى التيارات الإسلامية إلى الحكم عن طريق الانتخابات.
يري ترامب أن دعم الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط، والتقارب مع التيارات الإسلامية أديا إلي عدم الاستقرار، وانتشار الحروب الأهلية في العديد من الدول العربية، وصعود التنظيمات الإرهابية مثل “داعش”، وجبهة النصرة وغيرهما. ولذلك، فقد تبنى ترامب منظوراً واقعياً في التعامل مع قضايا المنطقة مما يعني  تراجع الترويج للديمقراطية في أجندة إدارة ترامب تجاه الشرق الأوسط. كما يرفض ترامب فكرة “الاستثناء الأمريكي”، والدور القيادي الأخلاقي الأمريكي للعالم. ومن ثم، يرفض مبدأ تغيير الأنظمة بالقوة، ونشر الديمقراطية، أو حقوق الإنسان، والميل للانعزالية، والتركيز على الشأن الداخلي([10]).
ومن المتوقع أيضا أن يزداد اهتمام الكونجرس الأمريكي الجديد(ذو الأغلبية الديمقراطية في مجلس النواب) بقضايا حقوق الإنسان والديمقراطية، والسعي لتبنى تشريعات تربط التعاون الاقتصادي والعسكري مع دول المنطقة بمشروطية سياسية، في المقابل سوف تقوم إدارة الرئيس ترامب بالتأكيد على مصالح الولايات المتحدة بحلفائها في المنطقة في إطار إستراتيجية “أمريكا أولاً”([11]).
ثانياً: محددات التوجه الأمريكية تجاه الشرق الأوسط في عهد ترامب.
     هناك عدد من المحددات الداخلية والخارجية التي تشكل إطارا حاكما لإستراتيجية إدارة الرئيس ترامب تجاه منطقة الشرق الأوسط، وتؤثر بشكل كبير في توجهات تلك الإستراتيجية، وحدود التغير فيها.

1- المحددات الداخلية:
أ- مؤسسية صنع الإستراتيجية الأمريكية: رغم أن شخصية الرئيس ترامب، وسماته الشخصية واقتناعاته تلعب دورا مؤثرا في توجهات الإستراتيجية الأمريكية، إضافة إلي أن سيطرة الجمهوريين على الكونجرس الأمريكي، بمجلسيه النواب والشيوخ، تعطي حركة ومرونة أكبر لترامب في التعامل مع القضايا الإستراتيجية، فإن عملية صنع واتخاذ قرارات تلك الإستراتيجية هي نتاج التفاعل والتوافق بين المؤسسات الأمريكية، التي تشمل الرئيس، ومستشاره للأمن القومي، ووزارتي الخارجية والدفاع، وكذلك الكونجرس، وجماعات الضغط، ومراكز الأبحاث، وهي عملية معقدة يحكمها حجم وتشابكات المصالح الأمريكية في المنطقة، والتي تفرض حدودا على إمكانية حدوث تغييرات جذرية، في ظل ضعف خبرة ترامب السياسية، وعدم درايته بتعقيدات أزمات الشرق الأوسط([12]).
وقد أبرزت تعيينات ترامب لطاقم وزرائه ولاحقا التغييرات التي طالت عدداً منهم، أن هناك توجها من جانب إدارة ترامب لاتخاذ مواقف مختلفة تجاه أزمات وقضايا منطقة الشرق الأوسط.
وليس من المتوقع أن يؤدى سيطرة الديمقراطيين في مجلس النواب الجديد إلى تحول هيكلي في توجهات الإستراتيجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، وسوف يستمر الرئيس ترامب في لعب الدور الأكبر في مجال السياسة الخارجية. بالمقابل، من المتوقع أن يقوم مجلس النواب الجديد بوضع قيود على مبادرات الرئيس التي تتطلب موافقة مجلسي الكونجرس (النواب والشيوخ)، خاصة تلك التي تتطلب موازنات مالية، مثل تمويل برامج المعونات الخارجية. وأن يسعى للتأثير بشكل أكبر على السياسة الخارجية من خلال دوره الرقابي. وسوف يستخدم أدوات الرقابة، مثل التحقيقات وطلب المعلومات وجلسات الاستماع لتوجيه أسئلة واستفسارات للمسئولين التنفيذيين عن السياسة الخارجية تجاه المنطقة وبلدانها([13]).
ب- الاتجاه الانعزالي في الإستراتيجية الأمريكية: يتبني ترامب سياسة العزلة البناءة، ومبدأ “أمريكا أولا”، والتي تمثل تحول كبير في الإستراتيجية الأمريكية على نمط ما قام به الرئيس الأسبق مونرو عام 1821. وتقضي هذه الإستراتيجية بتفعيل الموارد الكامنة. سواء كانت طبيعية، أو بشرية، أو تكنولوجية، لإعادة بناء الولايات المتحدة كفاعل رئيسي في النظام الدولي، وعدم الانغماس في الصراعات الإقليمية، كما يحدث في منطقة الشرق الأوسط([14]).
ج- عقيدة ترامب ومفهوم الصفقة: تقوم عقيدة ترامب على مبدأ ومفهوم الصفقة في التعامل مع قضايا السياسة الخارجية، ويرتكز على أن حجم انخراط أمريكا في قضايا العالم، ومنطقة الشرق الأوسط تحديدا، سوف يرتبط بمقدار ما تحققه من منافع اقتصادية للولايات المتحدة، وهذا نابع من عقلية رجل الأعمال الذي يتعامل بمنطق المكاسب والخسائر، والذي برز في تصريحاته في مراجعة التعاون مع حلف الناتو، والدفاع عن الدول الصديقة، وصفقة البرنامج النووي الإيراني، والانفتاح على كوبا، والشراكة مع المحيط الهادي، وموقفه الرافض للعولمة، حيث رأي ترامب أنها كانت عبئا على الولايات المتحدة ولم تحقق لها المزايا المرجوة([15]. (
د- التغير في الآليات لا الأهداف: هناك ثوابت في الإستراتيجية الأمريكية تشكل استمرارية لها، بغض النظر عن طبيعة الإدارة الأمريكية، جمهورية كانت أو ديمقراطية، وأن التغير فقط دائما ما يكون في الآليات، ما بين اللجوء إلي الآليات الصلبة كالحرب، والتدخل العسكري، والعقوبات، وهي غالبا مرتبطة بالجمهوريين، وما بين الآليات الناعمة، مثل الدبلوماسية، والمفاوضات، والمساعدات، وهي غالبا مرتبطة بالإدارات الديمقراطية. لكن هناك اتفاقا بين كل الإدارات على تحقيق تلك الثوابت، التي ترتبط بكيفية تحقيق المصالح الأمريكية([16]).
ورغم أن مواقف وتصريحات ترامب تنبئ بعزمه إحداث تغيير كبير في توجهات الإستراتيجية الأمريكية في العالم باتجاه الانعزال، ورفض العولمة، واتفاقيات التجارة الحرة، وإعادة النظر في شراكات الولايات المتحدة الخارجية، فإن الشرق الأوسط يمثل أحد جوانب الاستمرارية في الإستراتيجية الأمريكية، نظرا لتشابك المصالح الأمريكية فيها، وأن التغيير سيكون في نطاق الآليات، والاعتماد على الآليات الصلبة، خاصة استخدام القوة العسكرية في محاربة الإرهاب، وتنظيم “داعش” عبر الغارات الجوية مع تجنب التدخل العسكري المباشر، كذلك استخدام أداة العقوبات ضد بعض الدول، ومنها إيران، بدلا من آليات الدبلوماسية والمساعدات.
2_ المحددات الخارجية:
أ–  تراجع الطلب على النفط:  شهد عام 2018، وصول الولايات المتحدة لمكانة أكبر دولة منتجة للبترول في العالم، وزيادة صادراتها البترولية عن وارداتها، نتيجة للاكتشافات النفطية الجديدة في النفط الصخري وهو تحول تاريخي سوف يؤثر بالتأكيد على توجهاتها تجاه منطقة الشرق الأوسط، وقد أعلن الرئيس الأمريكي ترامب، في حوار له مع جريدة الواشنطن بوست، في ديسمبر 2018 “البترول يفقد أهميته شيئا فشيئا كسبب لبقائنا في المنطقة، لأننا ننتج المزيد منه.. لذا، وكما تعلمون، قد نصل فجأة إلى نقطة لا نحتاج فيها إلى البقاء في هذه المنطقة”([17]).
وفى هذا الإطار سوف يشهد عام 2019 استمرار الجدل الأمريكي داخل المؤسسات الرسمية وغير الرسمية حول الأهمية الإستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط، وجدوى العلاقة مع الحلفاء الرئيسيين في المنطقة العربية. لكن من المتوقع أيضا استمرار الهدف الأمريكي في استثمار العلاقة مع الدول العربية المنتجة للبترول لتحقيق هدف الحفاظ على سعر معقول لهذه السلعة وتجنب الاضطراب وعدم الاستقرار في الأسواق العالمية للبترول.
ب_ التوجه نحو آسيا: مثل سعى الولايات المتحدة نحو زيادة الاهتمام بالقارة الآسيوية سواء للمشاركة في ثمار النمو بهذه القارة الواعدة اقتصاديا، أو لمواجهة تصاعد النفوذ الاستراتيجي الصيني بها، والذي يهدد الوجود الأمريكي في القارة الآسيوية([18]). وجاء إبرام اتفاق سلام مع كوريا الشمالية بشأن برنامجها النووي من خلال الضغط عليها عبر العقوبات الاقتصادية التي أتت ثمارها في سياق القمة الأميركية الكورية في سنغافورة، وعليه فقد أعلن الزعيم الكوري وقف التجارب النووية والبدء في تفكيك بعض المنشأة الخاصة بالتجارب النووية، كما طالب “ترامب” بالعودة إلى اتفاقية الشراكة عبر الهادي مع بعض القوى الآسيوية بعد انسحابه منها إبان توليه الحكم في يناير 2017.
وبالتالي يمكن القول أن التوجه الأمريكي نحو أسيا الذي بدأ في عهد أوباما واستمر في عهد ترامب يعنى بالضرورة إعادة ترتيب الأولويات الأمريكية في العالم، وإعادة توزيع درجة الاهتمام والإمكانات الإستراتيجية الأمريكية بعيدا عن الشرق الأوسط وقريبا من آسيا([19]).
ج_ محدودية التأثير: لم تعد الولايات المتحدة اللاعب الوحيد في الشرق الأوسط، بخلاف ما كان في السنوات، التي أعقبت انتهاء الحرب الباردة، وسقوط الاتحاد السوفيتي. فقد برز في السنوات الخمس الأخيرة لاعبون رئيسيون، مثل روسيا التي أصبحت فاعلا في الكثير من الأزمات والقضايا مثل الأزمة السورية. وهذا الصعود الروسي كان نتيجة مباشرة لإستراتيجية إدارة أوباما المتخبطة، وعقيدته بعدم الانخراط المباشر في الصراعات في الشرق الأوسط، وإعادة التموضع في مناطق أخرى من العالم، مثل شرق وجنوب آسيا([20]).
ولا شك في أن محدودية الدور الأمريكي ستفرض قيودا على حركة وخيارات الإستراتيجية الأمريكية، وتدفعه إلى التقارب والتنسيق مع اللاعبين الدوليين، كروسيا، واللاعبين الإقليميين، كتركيا ودول الخليج عند التعامل مع أزمات وقضايا المنطقة، مثل مشكلة الإرهاب واللاجئين. فموسكو على سبيل المثال اتخذت من سوريا موطئ قدم لها أدى إلى زيادة تواجدها من الناحية العسكرية من خلال إقامة قواعد عسكرية جديدة يمكن استخدامها كمحاور إستراتيجية في نقل الطاقة من موسكو نحو الغرب الأوروبي عن طريق سوريا، فضلًا عن نشر منظومات الدفاع الجوي (s400)، و(s300). لكن من جانب أخر في حالة إبداء ترامب ثقة أكثر من سلفه أوباما تجاه موسكو، وسعيه لبناء علاقات أقوي معها، فإن الفجوة بينه وبين النخبة العسكرية والاستخباراتية الأمريكية ستزداد.
إضافة لذلك، فإن منطقة الشرق الأوسط، التي تعد أكثر ساحات العالم سخونة، تمر بحالة شديدة من السيولة والهلامية، خاصة بعد مرحلة اندلاع الثورات العربية، ونشوب الكثير من الأزمات والحروب الأهلية في العديد من الدول، مثل اليمن، وليبيا، وسوريا، والعراق، وتتسم تلك الأزمات بأنها بلا أفق واضح نحو الحل السياسي، كما تتشابك أطرافها الداخلية مع الأطراف الإقليمية والدولية، وتغيرت معها أنماط التحالفات والخريطة الجيواسترايتجية.
ولذلك، فإن حالة عدم الاستقرار وتبدل قواعد اللعبة يضعان قيودا على الدور الأمريكي في التعامل مع تلك المشكلات، ويجعلانها أقل تأثيرا في توجيه مساراتها العسكرية أو تسويتها السياسية، وهو ما يفرض على الإدارة الأمريكية بناء تحالفات مع الأطراف الفاعلة في الإقليم، كروسيا، وتركيا، وإيران، والسعودية، ومصر، وهو أمر يواجه أيضا تحديات عديدة، في ظل تعارض المواقف والمصالح بين هذه الدول في الكثير من تلك الأزمات، كما يبرز بشكل جلي في الأزمة السورية، إضافة إلى أن تعدد الجبهات المفتوحة أمام ترامب في داخل أمريكا وفي العالم سوف يحد من خياراته بشأن الشرق الأوسط([21]).
هذه الأسباب مجتمعة أصبحت محددات إمام توجه الولايات المتحدة لتقليل ارتباطها بالشرق الأوسط، بمعنى تجنب التورط في مشكلات المنطقة وعدم لعب دور قيادي بالنسبة لها.
وبالتالي، فإن هذا الإطار سوف يؤثر بشكل كبير في توجهات إدارة ترامب، ونمط تعامله مع قضايا الشرق الأوسط وتفاعلاته، ونمط آلياته وتحالفاته، ونوعية الخيارات المتاحة أمامه.
ثالثا: توجهات الإستراتيجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط في عهد ترامب.
    لا يمكن فصل توجهات الإستراتيجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط عن الرؤية التي تبنتها إدارة ترامب للعالم، والتي استندت بشكل أساسي على مبدأ “أمريكا أولاً”، وحديث ترامب عن أنه مع كل قرار وكل عمل ستقوم به إدارته، ستضع مصالح الولايات المتحدة في المقدمة.
وتركز إستراتيجية ترامب تجاه منطقة الشرق الأوسط على عدد من القضايا الرئيسية، حضر بعض منها في خطابات وكلمات الرئيس ترامب، خلال مدة حكمه، مثل الحرب على الإرهاب وتنظيم “داعش”، واتفاق البرنامج النووي الإيراني، والعلاقات مع الدول الخليجية ومصر، وموضوع الصراع العربي الإسرائيلي وصفقة القرن، والتحالف الاستراتيجي للشرق الأوسط، وكما أظهرت تلك المواقف توجها نحو إحداث تغييرات على الإستراتيجية الأمريكية تجاه قضايا وملفات الشرق الأوسط، فما هي ملامح وحدود هذا التغير؟
1_ الحرب على الإرهاب:  تنظر الولايات المتحدة للمنظمات الإرهابية الجهادية على أنها تشكل أخطر تهديد إرهابي للأمة الأمريكية وأسلوب الحياة الأمريكي، وأن منطقة الشرق الأوسط لا تزال موطناً لأخطر المنظمات الإرهابية في العالم، وتبنت إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي هدف هزيمة تنظيم “داعش” كهدف رئيسي ضمن أولوياتها([22]).
رأي ترامب أن الاجتياح الأمريكي للعراق عام 2003 كان السبب في ظهور تنظيم “داعش”، لافتا إلى أن الانسحاب من العراق عام 2011 أيضا كان خطأ كبيرا من جانب أمريكا، لأنها لم تترك أي جندي في العراق، وأن من أحد أخطاء أمريكا بالعراق أيضا هو تركها للبترول، وهو المصدر الذي اعتمد عليه التنظيم الإرهابي لكي يوفر مصادر مالية للتمويل. لذلك، انطلق ترامب من موقف مبدئي مناهض للإرهاب و”داعش”، واتهم كلا من أوباما وهيلاري كلينتون بأنهما يدعمان “داعش”، وأبدا موقفا مغايرا عن النهج الأمريكي، حيث اقترح حلا جذريا للقضاء على “داعش”([23]).
لكن ترامب لم يطرح رؤية إستراتيجية شاملة، وآليات محددة لمحاربة الإرهاب. كما إن موقفه من التطرف الإسلامي يتسم بالعمومية، وغياب الرؤية المحددة، ويمثل تكرارا لإستراتيجية جورج بوش الابن. كما أن هناك تحديات تواجه إدارة ترامب في محاربة تنظيم “داعش”. فالغارات الجوية لم تفلح في القضاء على التنظيم بشكل نهائي، وهذا يتطلب إرسال قوات برية لمحاربته على الأرض، وعبر إستراتيجية حرب العصابات والمدن، وهو ما يضع قيدا على إمكانية إرسال الولايات المتحدة لقوات برية، والذي أعلنه في برنامجه الانتخابي، وسيكون الاعتماد على قوات من الدول الإقليمية بمساعدة أمريكية، وهو ما يعني أن إستراتيجية ترامب بشأن محاربة الإرهاب وتنظيم “داعش” في العراق وسوريا ستكون امتدادا لإستراتيجية إدارة أوباما، مع اختلافات طفيفة في الحلفاء، حيث سيعتمد ترامب بشكل أكبر على روسيا وتركيا([24]).
ومع نهاية عام 2018، أعلن الرئيس ترامب هدف القضاء على تنظيم “داعش” قد تحقق، وبناء عليه أصدر قراره بسحب القوات الأمريكية من سوريا. ومن ثم، فمن المتوقع انخفاض اهتمام الولايات المتحدة بقضية مكافحة الإرهاب في المنطقة في عام 2019، خاصة مع تزايد الإحساس الأمريكي بالأمان من العمليات الإرهابية في الداخل، والاعتقاد بأنه تمت هزيمة داعش بعد طردها من غالبية الأراضي التي كانت تسيطر عليها في العراق وسوريا([25]).
2_ الاتفاق حول البرنامج النووي الإيراني: أعلن ترامب، أكثر من مرة، رفض اتفاق البرنامج النووي مع إيران، وعدّه تهديدا لأمن الولايات المتحدة، وأمن إسرائيل، ووعد بإلغاء هذه الصفقة، والبحث عن صفقة جديدة بشروط أفضل للولايات المتحدة، حيث رأي أن الشركات الأمريكية لم تستفد من رفع العقوبات على إيران، خاصة في مجال استخراج النفط، وإنما استفادت منها الشركات الأوروبية والروسية([26]).
لكن اتضح هناك قيودا أيضا على إلغاء صفقة البرنامج الإيراني، تتمثل في كونها تمت تحت رعاية الأمم المتحدة، وتصديق مجلس الأمن الدولي، ضمن صفقة “الخمسة+واحد”، وقد أعلنت الدول الخمس الأخرى الموقعة على الاتفاق عن تحفظها على توجه ترامب نحو إلغائها. من ناحية أحرى، فإن تقاطعات السياسة، ودور إيران البارز في سوريا قد يدفعان إلى إجراء اتصالات وتفاهمات بين البلدين فيما يتعلق بتنظيم “داعش”. كما أنه ليس بمقدور ترامب بناء إجماع دولي لمواجهة إيران، حتى لو صدق على إلغاء الاتفاق النووي، على عكس الرئيس أوباما الذي تمكن من بناء تحالف دولي داعم لسياسته تجاه إيران فيما يخص الملف النووي، والتوصل لهذا الاتفاق
كما اتهم ترامب إيران بدعم ورعاية التنظيمات المسلحة في المنطقة، وأكد إعادة تشديد العقوبات الاقتصادية على طهران. ولذلك، فإن تلك المواقف ستؤدي إلى زيادة العلاقات الأمريكية – الإيرانية توترا، بعد أن شهدت حالة من التقارب الحذر في عهد أوباما، بعد توقيع الاتفاق النووي([27]).
وفى هذا الإطار كان الخروج الأمريكي من الاتفاق النووي مع إيران، وعودة الولايات المتحدة لتطبيق عقوبات اقتصادية صارمة على إيران، منها وضع قيود صارمة على صادراتها البترولية بهدف حرمانها من المصدر الرئيسي للدخل. ومن المتوقع أن تقوم الولايات المتحدة خلال عام 2019 بإعطاء أولوية للملف الإيراني وأن تقوم بتصعيد العقوبات الاقتصادية تجاهها.
وفي كل الأحوال، فإن العلاقات بين البلدين ستظل في حالة من الشد والجذب، وفقا لحسابات المصالح والتفاعلات الإقليمية، وملفات وأزمات المنطقة في العراق وسوريا، ومعادلة العلاقات بين أمريكا ودول الخليج من ناحية، وأمريكا وإيران من ناحية أحرى.
3_ العلاقة مع الحلفاء:
تحدث ترامب أكثر من مرة عن أن دول المنطقة يجب أن تدفع مقابلا عادلا لقاء دفاع الولايات المتحدة عنها، وأن الولايات المتحدة لا يجب أن تتحمل المسؤولية عن هذه التكلفة الهائلة، وعلى دول المنطقة دفع هذا الثمن. وقد أعلن الرئيس الأمريكي في نهاية 2018، أن المملكة العربية السعودية سوف تتحمل جانبا كبيرا من إعادة الأعمار في سوريا.
لكن كثيرا من مواقف ترامب، وقناعاته السياسية، خاصة فيما يتعلق بالاستغناء عن الحلفاء، وخصخصة الأمن، وإلزام الدول الحليفة بدفع تكلفة الدفاع عن مناطقها، سواء في منطقة الخليج، أو كوريا، أو اليابان، تفتقد الواقعية، وعدم فهم تعقيدات العلاقة بين أمريكا وهذه الدول، التي تقوم على تبادل المصالح بأشكالها المختلفة، حيث إن التعاون العسكري الأمريكي مع الخليج يستهدف بالأساس تحقيق المصالح الأمريكية، وجني العديد من المنافع الاقتصادية، وصفقات الأسلحة، والتعاون ألاستخباراتي والأمني في مكافحة الإرهاب([28]).
ولنأخذ الحليف السعودي على سبيل المثال الذي لديه العديد من أوراق الضغط التي تمكنه من مواجهة تداعيات أي تطورات سلبية في العلاقات، مثل التهديد بسحب الاستثمارات السعودية الضخمة في الولايات المتحدة، ووقف التعاون الأمني والاستخبارتي في مكافحة التنظيمات المتطرفة. من ناحية أحرى، فإن مواقف ترامب المتشددة ضد إيران، وتهديده بإلغاء الاتفاق النووي، الذي عارضته معظم دول الخليج، قد يدفعان إلى التقارب الخليجي – الأمريكي لاحتواء التهديدات الإيرانية في المنطقة، خاصة في العراق، واليمن، والتعاون لحل الأزمة السورية. ولذا، من غير المتوقع حدوث تباعد أو توتر في العلاقات الأمريكية – الخليجية، رغم تصريحات ترامب المتشددة.
ومن المتوقع أن تستمر الإدارة الأمريكية في هذا النهج خلال عام 2019، ومطالبة حلفائها في منطقة الشرق الأوسط بدفع فاتورة تنمية الأراضي الفلسطينية أو إعادة الأعمار في سوريا واليمن([29]).
من جانب آخر، وفي ضوء استمرار التحديات الأمنية في منطقة الشرق الأوسط، سواء تلك المتعلقة بالإرهاب الدولي، الذي يمثله تنظيم “داعش”، وجبهة النصرة (فتح الشام)، وبقايا القاعدة في بلاد الشام، والمنظمات المتطرفة في ليبيا، والمخاطر المحيطة بسلامة الملاحة الدولية في مضيقي هرمز وباب المندب، أتجه الرئيس الأمريكي ترامب إلى تصحيح الخلل الذي أصاب العلاقات المصرية – الأمريكية في عهد أوباما.
والواقع أن العلاقات بين البلدين تحكمها مصالح إستراتيجية متبادلة، وضعت دائما سقفا وحدودا لمستوي التصاعد أو الصدام بينهما، وتتمثل في المحافظة على معاهدة السلام المصرية- الإسرائيلية، والمرور العسكري الأمريكي في قناة السويس، والتعاون الأمني والاستخبارات في مكافحة الإرهاب، لكنها شهدت شدا وجذبا، نتيجة لأجندة أوباما بشأن الديمقراطية والإصلاح السياسي في مصر بعد 30 يونيو، ومع ذلك، ظل التعاون العسكري بين البلدين مستمرا، وظلت المساعدات العسكرية، التي تقدر بـ 1.3 مليار دولار، كما هي دون تغيير. كما أفرجت إدارة أوباما عن المساعدات العسكرية التي جمدتها في، عقب فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة([30]) في أغسطس 2013، بينما شهدت المساعدات الاقتصادية تراجعا منذ عهد بوش الابن([31]).
ولذلك، فقد تراجعت المطالب الأمريكية في عهد ترامب بشأن الإصلاح وتحقيق الديمقراطية في مصر، والتي كانت سببا في توتر العلاقات بين البلدين، سواء في عهد بوش الابن، أو في عهد أوباما، حيث تغلب على ترامب حسابات الواقعية، وتحقيق المصالح، والتخلي عن المثالية. كما أن تنويع مصر لسياستها الخارجية، والاتجاه شرقا صوب روسيا والصين يعطيان لها استقلالية وندية أكبر في التعامل مع الولايات المتحدة، على خلاف ما كان سائدا من علاقات تبعية، إبان عهد مبارك.
وبذلك مثلت العلاقات المصرية-الأمريكية أحد مجالات التغيير في إستراتيجية إدارة ترامب، خاصة على مستوي الخطاب السياسي، حيث انتقلت من مرحلة البرود والفتور، التي شهدتها إبان إدارة الرئيس أوباما، نتيجة لمواقفه من ثورة 30 يونيو 2013، وقضية الديمقراطية والحريات في مصر، إلى مرحلة من التقارب والتنسيق مع الرئيس السيسي بشأن القضايا الإقليمية، خاصة ملف مكافحة الإرهاب، والوضع في ليبيا وسوريا.
4_ صفقة القرن: تراجعت الإدارة الأميركية عن كونها وسيطًا محايدًا في عملية السلام بين الشعب الفلسطيني وإسرائيل وعليه فقد تبنت سياسات غير متوازنة ومغايرة لإدارة “أوباما” التي حاولت عدم المواجهة مع دول المنطقة من خلال الانحياز تجاه إسرائيل، حيث قامت إدارة “ترامب” بالاعتراف بالقدس الشرقية عاصمة لإسرائيل وأمرت بنقل السفارة الأميركية إليها في خطوة مفاجئة تراجع عن تنفيذه العديد من الرؤساء الأميركيين، مما أدى إلى زيادة وتنامي الانتهاكات ضد الفلسطينيين نتيجة تخلي الولايات المتحدة عن كونها وسيط محايد في إدارة عملية السلام إلى كونها طرف متحيز يساهم على تصفية القضية، فضلاً عن استمرار الضغط الأميركي بوقف المساعدات المقدمة إلى وكالة الأونروا للقضاء على حلم العودة للاجئين الفلسطينيين في المقابل أصدرت إسرائيل قانون القومية اليهودية([32]).
وفي سبتمبر 2018، أعلن الرئيس ترامب وعلى هامش اجتماعه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، أن إدارته ستطرح خطة سلام فلسطينية إسرائيلية في الشهور المقبلة (ما بين شهرين أو أربعة)، وبذلك أعاد موضوع “صفقة القرن” للصدارة مرة أخرى بعد أن ساد اعتقاد أن الولايات المتحدة قد تخلت عنه، وأشار ترامب إلى أن “حل الدولتين” يمثل الخيار الأفضل لاتفاقية سلام فلسطينية إسرائيلية، وأنه يأمل إبرامها قبل نهاية فترته الرئاسية الأولى، وبالرغم من أنه لم تتضح بعد تفاصيل الرؤية الأمريكية لتسوية قضايا الحدود والمستوطنات والقدس واللاجئين وغيرها، فمن المتوقع أن تطرح الولايات المتحدة هذه الرؤية خلال العام الحالي، وبالرغم من أن الإعلان عن انتخابات جديدة في إسرائيل في إبريل المقبل قد يؤجل إطلاق هذه المبادرة، فسوف يعول الأمريكيون على قيام الدول العربية الصديقة للولايات المتحدة بإقناع وتشجيع الفلسطينيين على التفاوض بشأن الأفكار التي سترد في هذه المبادرة، وعدم رفضها من البداية([33]).
5_ التحالف الاستراتيجي للشرق الأوسط: أعلن الرئيس الأمريكي ترامب في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة (سبتمبر 2018) أن بلاده تعمل مع دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن لإقامة تحالف استراتيجي إقليمي لتحقيق الأمن في الشرق الأوسط، وأعقب ذلك قيام وزير خارجيته بالاجتماع مع نظرائه من هذه الدول للتحضير لقمة سوف تستضيفها الولايات المتحدة لمناقشة إنشاء هذا التحالف الذي بات يعرف باسم “التحالف الاستراتيجي للشرق الأوسط”.
وتشير الأخبار الأولية إلى أن التحالف يتضمن ليس فقط التعاون العسكري ولكن يمتد أيضا للتعاون الاقتصادي والدبلوماسي، وتنسيق العمل من أجل إنهاء الصراع في سوريا واليمن، ومواجهة إيران، والتصدي للتهديدات الجديدة، مثل الهجمات الإلكترونية على البنية التحتية. في حين اوباما لم يكن متحمسا لهكذا نوع من التحالفات خصوصا إذا كانت تستهدف التهديدات الإيرانية للمنطقة وذهب إلى أن التفاهم وليس المواجهة مع إيران كفيل لحل المشاكل([34]).
ولكن هناك أيضا عددا من الأسئلة التي ربما لا تزال محل النقاش حول طبيعة وحدود التعاون في المجالات الأخرى، منها العسكري، ومن المتوقع أن يتم طرح المبادرة المتعلقة بإنشاء هذا التحالف في خلال هذا العام.
الخاتمة:
    إن توجهات إستراتيجية إدارة ترامب تجاه الشرق الأوسط قد شهدت بعض التغيرات النسبية عن توجهات إستراتيجية إدارة أوباما، في ضوء تصريحاته ومواقفه، لكنها لن تكون استنساخا من توجهات إستراتيجية إدارة بوش الابن، وتجربة المحافظين الجدد. كما أن هناك حدودا لحجم ومدي التغير في الإستراتيجية الأمريكية تجاه المنطقة في عهد إدارة ترامب، نتيجة لتعقيدات وتشابكات المصالح، وتطورات الأحداث على الأرض، وظهور متغيرات جديدة، مثل تصاعد الإرهاب، وبروز لاعبين فاعلين، وخريطة التحالفات الجديدة بالمنطقة، وتغيرها بشكل مستمر. وسيكون التغيير محدودا مقارنة بالتحولات الأخرى المتوقعة من جانب الإدارة على المستوي الدولي، سواء في علاقات الولايات المتحدة مع أوروبا، وحلف الناتو، والمحيط الهادي، أو موقفها من العولمة.
كما سيكون التغيير محصورا في الآليات، حيث سيكون الاعتماد بشكل أكبر على الآليات الصلبة، مثل استخدام القوة العسكرية، والغارات الجوية، والعقوبات. كما سينحصر التغيير في قضايا محددة، مثل الحرب على الإرهاب، ومواجهة “داعش”، حيث سيكون ترامب أكثر حزم وتشدد عن سلفه اوباما في التعامل مع قضايا الإرهاب والجماعات المتطرفة، وفيما يتعلق بالملف النووي الإيراني، فقد تبنى ترامب هدف مواجهة إيران، واعتبره التوجه الرئيسي للإستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط، وهو بالتأكيد تحول نوعي،
كما يؤمن ترامب أيضا بالتعامل مع الدول ويعتبرها محور الاستقرار في المنطقة، كالتقارب مع روسيا في سوريا، والانفتاح على مصر. مختلفا عن اوباما الذي جاء إلى القاهرة ليوجه خطاباً “للشعوب الإسلامية”. لكن من غير المتوقع حدوث تغييرات جذرية فيما يتعلق ببقية القضايا. وفي كل الأحوال، فإن إدارة ترامب سوف تشكل مرحلة جديدة، ومختلفة في الإستراتيجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط.
من جانب أخر، فإن الشرق الأوسط وأزماته ستظل ضمن أولويات الإستراتيجية الأمريكية، ويصعب فك الاشتباك معها بشكل كامل، أو الانسحاب منها، نتيجة لحسابات المصالح الأمريكية في المنطقة، ونتيجة لتعاظم الدور الروسي فيها بما قد يؤثر سلبا في نفوذ الولايات المتحدة ومصالحها في الكثير من مناطق العالم الأحرى، مثل شرق أوروبا، ووسط آسيا.
وبالتالي هذا التوجه لم ولن يعني انسحاب الولايات المتحدة بالكامل من الشرق الأوسط. فالولايات المتحدة ستحافظ على قدر من الاهتمام بهذه المنطقة لعدة أسباب، أولها يتعلق بكون الولايات المتحدة قوة كبرى في العالم وستظل مهتمة بأن تلعب دورا ما في الشرق الأوسط. السبب الثاني يتعلق بإسرائيل، وتعهدها بالحفاظ على وجود وأمن الدولة العبرية، وهو أحد ثوابت الإستراتيجية الأمريكية. والسبب الثالث يتعلق بسعر النفط وتأثيره على الاقتصاد العالمي. فما زالت منطقة الخليج تلعب دورا مهما في تحديد سعر النفط كسلعة عالمية تخضع لمتطلبات العرض والطلب.
ولكن المؤكد أن أهمية المنطقة للولايات المتحدة في تراجع مستمر، ومن ثم فإن رغبتها في التورط في شئونها أو لعب دور قيادي بشأن قضاياها هي أيضا في تراجع مستمر. 
المصادر:
1) احمد سيد احمد، “الصفقة” وعقيدة ترامب في السياسة الخارجية، الاهرام المصري، متاح على الرابط التالي:
2) محمد كمال، امريكا والشرق الاوسط في عامين، متاح على الرابط:                                                                                                             .                                             https://www.almasryalyoum.com
3) احمد سيد احمد، ادارة ترامب وقضايا الشرق الاوسط: حدود التغيير ، السياسة الدولية، 22/1/2017، متاح على الرابط التالي: http://www.siyassa.org.eg
4 ) مجموعة مؤلفين، الشرق الاوسط في ظل أجندة السياسة الخارجية الأمريكية: دراسة تحليلية للفترة الانتقالية بين حكم أوباما وترامب، ط1، المركز الديمقراطي العربي، برلين، 2017. ص254_257.
5) محمد الشرقاوي, ترامب والاتفاق النووي الإيراني: تبريرات أمنية أم استراتيجية اقتصادية؟, مركز الجزيرة للدراسات، قطر، 21 مايو, 2018, متاح على الرابط التالي:http://studies.aljazeera.net
[1] ) Bob Woodward, Fear: Trump in the White House, New York:2018, P115.
2 ) Eliot A. Cohen, The Big Stick: The Limits of Soft Power and the Necessity of Military Force, New York: Basic Books, 2018. PP 197_199.
3 ) A. Trevor Thrall and Benjamin H. Friedman, US Grand Strategy in the 21st Century, Routledge: 2018. P187.
4 ) Ali Soufan, Anatomy of Terror: From the Death of bin Laden to the Rise of the Islamic State, New York: W.W. Norton and Company, 2017, P321.
5)  ANDREW MILLER, SHADOW GOVERNMENT: The Trouble Before the Storm: The past year gives no indication that Trump is ready for a military crisis in the Middle East, Foreign Policy, FEBRUARY 6, 2018, at: https://foreignpolicy.com
6) Daniel L. Byman, Comparing Al Qaeda and ISIS: Different goals, different targets, Brookings, at: https://www.brookings.edu.
7) Jonathan LandayWarren Strobel, Trump counterterrorism strategy urges allies to do more, at: https://www.reuters.com.
8(  Gregory L. Schulte, Stopping Proliferation Before It Starts: How to Prevent the Next Nuclear Wave, Foreign Affairs,  July/August 2010 Issue, at: https://www.foreignaffairs.com.
9 ) Michael R. Pompeo, Confronting Iran: The Trump Administration’s Strategy, October 15, 2018, at:https://www.state.gov.
10) Tim Daiss, How Much Does The U.S. Spend On Defending Global Oil Supplies?,  Sep 24, 2018, at:https://oilprice.com.
11) Z. Byron Wolf, Trump keeps saying the US has spent $7 trillion in the Middle East, April 25, 2018,https://edition.cnn.com.
12) Statement by President Trump on Jerusalem, December 6, 2017, at: https://www.whitehouse.gov.
13) Adam Entous, Donald Trump’s New World Order: How the President, Israel, and the Gulf states      plan to fight Iran—and leave the Palestinians and the Obama years behind.  June 18, 2018 Issue, at:  https://www.newyorker.com.
14) LEON HADAR, Give Trump a Chance in the Middle East: Bush and Obama already helped destroy the region and damage U.S. interests there. How much worse could it get? Foreign Policy , JUNE 27, 2017, at: https://foreignpolicy.com.
15) Mira Rapp-Hooper, Deciphering Trump’s Asia Policy: What “America First” Will Mean for Regional Order, Foreign Affairs, November 22, 2016, at: https://www.foreignaffairs.com.
16) Aaron Blake, President Trump’s full Washington Post interview transcript, annotated, The washingtonpost, November 27, 2018, at: https://www.washingtonpost.com.
17) Mohamed Kamal1& Khalid Hashim Mohammed, Obama and transformation strategy from the Middle East to the Asia – Pacific Region, Asian Social Science, 6 June 2017, p48.
18) Donald Trump focuses fire on Iran’s support for ‘terrorists and militias’, The Guardian, at:https://www.theguardian.com.
19) Roberta Rampton, Steve Holland, Trump seeks to ‘reboot’ U.S. relationship with Egypt in Monday talks, Reuters, MARCH 31, 2017, at: https://www.reuters.com.
20) Ishaan Tharoor, For Palestinians, Trump is all pain and no peace, The Washington post,
August 28, 2018, at: https://www.washingtonpost.com.
21) Steve Holland, Yara Bayoumy, Trump says he wants two-state solution for Middle East conflict, Reuters, SEPTEMBER 26, 2018, at: https://www.reuters.com.
22) Yara Bayoumy, Jonathan Landay, Warren Strobel, Reuters, JULY 27, 2018, at: https://www.reuters.com.
[1] ) ANDREW MILLER, SHADOW GOVERNMENT: The Trouble Before the Storm: The past year gives no indication that Trump is ready for a military crisis in the Middle East, Foreign Policy, FEBRUARY 6, 2018, at: https://foreignpolicy.com.
[2] ) Daniel L. Byman, Comparing Al Qaeda and ISIS: Different goals, different targets, Brookings, at: https://www.brookings.edu.
[3] ) Jonathan LandayWarren Strobel, Trump counterterrorism strategy urges allies to do more, at: https://www.reuters.com.
[4](  Gregory L. Schulte, Stopping Proliferation Before It Starts: How to Prevent the Next Nuclear Wave, Foreign Affairs,  July/August 2010 Issue, at: https://www.foreignaffairs.com.
[5] ) Michael R. Pompeo, Confronting Iran: The Trump Administration’s Strategy, October 15, 2018, at:https://www.state.gov.
[6] ) Tim Daiss, How Much Does The U.S. Spend On Defending Global Oil Supplies?,  Sep 24, 2018, at:https://oilprice.com.
[7] ) Z. Byron Wolf, Trump keeps saying the US has spent $7 trillion in the Middle East, April 25, 2018,https://edition.cnn.com.
[8] ) Statement by President Trump on Jerusalem, December 6, 2017, at: https://www.whitehouse.gov.
[9] ) Adam Entous, Donald Trump’s New World Order: How the President, Israel, and the Gulf states      plan to fight Iran—and leave the Palestinians and the Obama years behind.  June 18, 2018 Issue, at:  https://www.newyorker.com.
[10] ) LEON HADAR, Give Trump a Chance in the Middle East: Bush and Obama already helped destroy the region and damage U.S. interests there. How much worse could it get? Foreign Policy , JUNE 27, 2017, at: https://foreignpolicy.com.
[11]) محمد كمال، امريكا والشرق الاوسط في عامين، متاح على الرابط:                  .
. https://www.almasryalyoum.com
[12] ) Bob Woodward, Fear: Trump in the White House, New York:2018, P115.
[13] ) محمد كمال، مصدر سابق.
[14] ) Mira Rapp-Hooper, Deciphering Trump’s Asia Policy: What “America First” Will Mean for Regional Order, Foreign Affairs, November 22, 2016, at: https://www.foreignaffairs.com.
[15] ) احمد سيد احمد، “الصفقة” وعقيدة ترامب في السياسة الخارجية، الاهرام المصري، متاح على الرابط التالي:http://www.ahram.org.eg
[16] ) احمد سيد احمد، ادارة ترامب وقضايا الشرق الاوسط: حدود التغيير ، السياسة الدولية، 22/1/2017، متاح على الرابط التالي: http://www.siyassa.org.eg
[17] ) Aaron Blake, President Trump’s full Washington Post interview transcript, annotated, The washingtonpost, November 27, 2018, at: https://www.washingtonpost.com.
[18] ) Mohamed Kamal1& Khalid Hashim Mohammed, Obama and transformation strategy from the Middle East to the Asia – Pacific Region, Asian Social Science, 6 June 2017, p48.
[19] ) مجموعة مؤلفين، الشرق الاوسط في ظل أجندة السياسة الخارجية الأمريكية: دراسة تحليلية للفترة الانتقالية بين حكم أوباما وترامب، ط1، المركز الديمقراطي العربي، برلين، 2017. ص254_257.
[20] ) Eliot A. Cohen, The Big Stick: The Limits of Soft Power and the Necessity of Military Force, New York: Basic Books, 2018. PP 197_199.
[21] ) A. Trevor Thrall and Benjamin H. Friedman, US Grand Strategy in the 21st Century, Routledge: 2018. P187.
[22] ) Ali Soufan, Anatomy of Terror: From the Death of bin Laden to the Rise of the Islamic State, New York: W.W. Norton and Company, 2017, P321.