تغيرات السياسة الدولية 2019: ماذا لو شهد النظام الدوليّ حربًا عالمية ثالثة؟


محمد عبد الله يونس

على الرغم من أن احتمالية تفجر حرب عالمية جديدة قد تبدو مستبعدة وفقًا لحسابات المنطق والرشادة التي يعتمد عليها التيار السائد في التحليلات السياسية؛ إلا أن تتبع نشأة المصطلح ذاته تكشف عن أن هاجس الحرب لم يغبْ يومًا عن إدراك صناع القرار والنخب في الدول الغربية، إذ يرجع إطلاقه إلى مجلة "التايم" في عام 1941 في خضم الحرب العالمية الثانية لوصف أحد التطورات الرئيسية في مجريات الحرب، ثم أصبحت كلمة "الحرب العالمية الثالثة" شائعة الاستخدام لوصف مواجهات عسكرية ممتدة تخوضها القوى الكبرى، مثل: الحرب الباردة، أو الحرب الدولية على الإرهاب بعد أحداث 11 سبتمبر. وعلى الرغم من ذلك، يظل تحقق سيناريو الحرب العالمية وفقًا لمعايير وتطورات الحربين السابقتين أمرًا شديد التعقيد يرتبط بسياقات وتناقضات استثنائية تتجاوز الواقع المعتاد للتفاعلات الدولية. 
تزامن مع الاحتفال بمئوية الحرب العالمية الأولى في نوفمبر 2018، طرح العديد من المحللين تساؤلات حول دوافع تفجر الحرب العالمية، وأسباب إخفاق المؤسسات والترتيبات الدولية في منع نشوب المواجهات عالمية النطاق. وفي هذا الإطار، تكشف مراجعة التنظير للحربين العالميتين عن عدة سياقات تزيد من احتمالية الحرب العالمية، يتمثل أهمها فيما يلي:
1- صعود الفواعل المارقة (Rouge Actors): تفترض الواقعية الجديدة أن الاضطراب في النظام الدولي يرتبط بالتغير في توزيع القوة. وفي هذا الصدد، يُعد وجود دول قوية غير راضية عن الوضع الراهن (Status Qou) للنظام الدولي -وفقًا لأورجانسكي- تمتلك من القدرات المادية ما يعزز التصورات لدى قيادتها بإمكانية فرض واقع عالمي جديد في مقابل سعي القوى الكبرى التقليدية لمنع هذه القوة المتحدية (Challenger) من تغيير توازن القوى، وهو ما يؤدي -وفقًا لروبرت جلبن- إلى تفجر "حروب الهيمنة" (Hegemonic Wars) في النظام الدولي.
ولا تقتصر "الفواعل المارقة" على الدول، وإنما تشملُ أيضًا القادة السياسيين، والنخب القومية المتطرفة التي تسعى لاستعادة مكانة الدولة، أو رد الاعتبار بعد هزيمة تاريخية، على غرار سعي "هتلر" والنازيين لإنهاء معاهدة فرساي التي تم إقرارها عام 1919، واعتبروها إذلالًا للكرامة الوطنية بعد الهزيمة في الحرب العالمية الأولى. كما تشمل فئة الفواعل المارقة بعض الجماعات القومية والعرقية، والفاعلين من غير الدول، مثل دور تنظيم "اليد السوداء" العسكري الصربي في تأجيج الاضطرابات في البلقان، والتي وصلت أوجها عقب اغتيال الصربي "جافريلو برينسيب" (المنتمي للتيار القومي) لولي عهد الإمبراطورية النمساوية المجرية الأرشيدوق "فرانز فرديناند" في 1914. 
2- تزايد "اضطراب التحالفات": تتصاعد احتمالات تفجر الحروب الدولية في حالة وجود نظام دولي متعدد الأقطاب يغلب عليه التقارب أو التماثل في القدرات بين القوى الدولية الكبرى، وهو ما يؤدي إلى تصاعد الطلب على التحالفات بهدف حسم توازن القوى لصالحها. فعلى سبيل المثال، تسببت شبكة التحالفات المعقدة والمتغيرة بالقارة الأوروبية خلال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين في حالة من التحفز بين القوى الأوروبية بسبب المخاوف من اختلال توازن القوى. وينطبق الأمر ذاته على الحرب العالمية الثانية التي شهدت مزيدًا من الاستقطاب بين التحالفات العسكرية، مما جعل السياقات مهيأة لتفجر الحرب عقب الاحتلال الألماني لبولندا في عام 1939. ولا ينفصل ذلك عن سباقات التسلح التي تزيد من التحفز لدى الدول لعسكرة الصراعات الإقليمية، واللجوء للقوة العسكرية.
3- صراعات الاستعمار والتوسع: تركز بعض التفسيرات لتفجر الحروب العالمية على الصراعات الاستعمارية بين القوى الكبرى واتجاهات التوسع الخارجي باعتبارها ضمن المسببات الرئيسية للحروب العالمية. فقد أشار "فلاديمير لينين" في كتابه "الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية" الصادر في عام 1917م، إلى أن الحرب العالمية الأولى ترجع إلى الصراع الاستعماري بين الدول الرأسمالية التي باتت تتحكم بها الاحتكارات الكبرى، ورأس المال الصناعي، وتزايد الحاجة لتصدير رؤوس الأموال، والتوسع عالميًّا، وهو ما أدى للصدام بين مصالح القوى الكبرى ومن ثمّ تفجرت الحرب.
أما الحرب العالمية الثانية فقد ارتبطت بالنزعات التوسعية للقوى الأوروبية، حيث سعت إيطاليا خلال حكم "موسوليني" لإعادة بناء الإمبراطورية الرومانية حول البحر المتوسط، وقامت باحتلال ألبانيا واليونان وإثيوبيا. وتطلعت التيارات النازية لبناء "ألمانيا العظمى"، واستعادة ما أسموه الحق التاريخي في بعض الأقاليم الناطقة بالألمانية التي نزعت منها خلال الحرب العالمية الأولى، مثل الألزاس واللورين، كما سعت لضم النمسا، واحتلال كل من تشيكوسلوفاكيا وبولندا قبل أن تتوسع على امتداد القارة الأوروبية بعد تفجر الحرب. وينطبق الأمر ذاته على اليابان التي سعت للتمدد في إقليم منشوريا، واحتلال الصين، وذلك بعد احتلال شبه الجزيرة الكورية في عام 1910.
4- هيمنة التطرف القومي: يعد التطرف القومي من العوامل الدافعة لتفجر الصراعات بصفة عامة، إذ تهيمن على صناع القرار والنخب الحاكمة رؤى حول استحقاق دولهم مكانة تتناسب مع تاريخها، وإعادة إحياء الإمبراطوريات العظمى، وهو ما يدفعهم لحشد الشعوب لدعم المشروعات التوسعية، في ظل تنامي قيم العداء للآخر، واضطهاد القوميات والأقليات الأخرى والتي تهيمن على سياسة الدولة والثقافة السائدة بالمجتمعات.
 وتتزايد حدة التطرف القومي مع "عسكرة القومية" عبر هيمنة الطابع العسكري (Militarism) على الدولة والمجتمع، ليتحول بناء القوة العسكرية غاية في حد ذاته، ويتم تسخير كافة موارد الدولة لإنتاج الأسلحة وبناء القدرات العسكرية، وتشكيل جيوش ضخمة قادرة على اجتياح دول الجوار، وهو ما شهدته ألمانيا وإيطاليا واليابان قبيل الحرب العالمية الثانية.
سيناريوهات "الحرب الثالثة": 
لا يعني توافر السياقات الدافعة للاضطراب في النظام الدولي أن تفجر الحرب العالمية يصبح حتميًّا، فقد تستمر حالة الاحتقان والترقب لفترات ممتدة دون أن يؤدي ذلك إلى نشوب حرب بين القوى الكبرى، وقد تجد الأخيرة مسارات بديلة تستعيض بها عن المواجهات العسكرية المباشرة، مثل "الحروب بالوكالة Proxy War" بين حلفائها في أقاليم العالم المختلفة، مثل فترة الحرب الباردة. 
وفي هذا الصدد، ترتكز السيناريوهات المفترضة لحرب عالمية ثالثة، والتي عادةً ما يتم استبعاد أغلبها استنادًا لحسابات الرشادة والوضع الراهن للعلاقات الدولية، على عدة مسارات يتمثل أهمها فيما يلي:
1- سيناريو "الحرب الشاملة": يتضمن هذا السيناريو حدوث مواجهة عسكرية مباشرة بين القوى الكبرى (مثل: الولايات المتحدة، والصين، وروسيا)، بسبب حدوث تعارض حاد في المصالح، وتصاعد تهديدات البقاء ووحدة كيانات هذه الدول. فعلى سبيل المثال، ترى "كيوان ليو" (الخبيرة الاقتصادية) في مقالها المعنون: "من الأزمة الاقتصادية إلى الحرب العالمية الثالثة"، والمنشور على موقع "بروجيت سيندكيت" في نوفمبر 2018، أن الأزمات الاقتصادية الداخلية الحادة قد تدفع بعض الدول لخوض مواجهات عسكرية خارجية لتشتيت انتباه الداخل عن تردي الأوضاع الاقتصادية.
بينما يجادل آخرون بأن الحروب الاقتصادية الضاغطة التي تتضمن فرض حظر على تصدير سلع أساسية إلى دول معينة، قد تؤدي إلى تفجر مواجهات عسكرية، على غرار تسبب حظر تصدير البترول إلى اليابان في قيامها بمهاجمة ميناء بيرل هابر بالولايات المتحدة في 1941 خلال الحرب العالمية الثانية. ويظلّ هذا السيناريو مستبعدًا في ظل تزايد تعقيد الاقتصاد الدولي، وعدم تجاوز الحروب التجارية لخطوط حمراء يتم التوافق عليها بين الدول، وتطوير كوابح لمنع الانزلاق في المواجهات العسكرية المباشرة وقنوات للاتصال المباشر لخفض حدة التوترات بناء على خبرة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق في منع تفجر حرب نووية فيما بينهما، فضلًا عن قيود الرشادة والعقلانية التي تمنع اللجوء للمواجهة العسكرية الشاملة والمباشرة بين القوى الكبرى.
2- سيناريو "التمرد الكوري": يتمثل هذا السيناريو في قيام "دولة مارقة" دون مستوى القوى الكبرى بتفجير مواجهة عسكرية عالمية بصورة غير محسوبة عبر استخدامها السلاح النووي في مهاجمة دولة كبرى أو دولة حليفة لدولة كبرى. وفي هذا الصدد، طرح العديد من المحللين سيناريوهات تخيلية، قُبيل المفاوضات الكورية-الأمريكية وسياسة المهادنة التي اتّبعها الزعيم الكوري "كيم جونج أون"، لاحتمالات قيام كوريا الشمالية بمهاجمة الولايات المتحدة أو كوريا الجنوبية أو اليابان، أو أي من حلفاء الولايات المتحدة في القارة الآسيوية، بالسلاح النووي، وتمردها على القيود التي تفرضها الصين على سياساتها العدوانية لمنعها من اتخاذ إجراءات غير محسوبة على المستوى الدولي، مما يتسبب في "تورط" الصين والولايات المتحدة والدول الآسيوية في مواجهة عسكرية تتطور سريعًا لحرب عالمية. ويظل هذا السيناريو مستبعدًا في ظل سيطرة الصين على النظام الكوري اقتصاديًّا وسياسيًّا، ورصدها أي محاولة لاتباع سياسات غير محسوبة، وقدرتها على التدخل استباقيًّا لمنع هذا السيناريو المفترض، فضلًا عن تفضيل "كيم جونج أون" لسياسة المهادنة لخفض حدة الضغوط الدولية على كوريا الشمالية. 
3- سيناريو "الإرهاب النووي": أدى اتجاه عدد كبير من الدول والقوى الإقليمية لامتلاك السلاح النووي إلى تصاعد احتمالات فقدان السيطرة على السلاح النووي، واحتمالية توظيفه من جانب فاعلين مسلحين من غير الدول، خاصة الجماعات الإرهابية، في مهاجمة مصالح بعض الدول الكبرى. وفي هذا الصدد، يؤكد "بنيوت بلوبدياس" (الأستاذ المتخصص في دراسات الأمن بمعهد الدراسات السياسية بباريس) على ضرورة مراجعة الثقة الزائدة في القدرة على السيطرة على تداول المواد النووية، وأمان الترسانات النووية، وإحكام السيطرة الدولية على تداول المواد النووية، فشبكة التهريب التي قادها الباكستاني "عبدالقدير خان"، والتي أسهمت في انتقال القدرات والتكنولوجيا النووية لكلٍّ من كوريا الشمالية وليبيا وإيران، تُعد دليلًا على تهديدات انتقال الأسلحة النووية لفاعلين من غير الدول، وبناء ما يطلق عليه "سلاح نووي بدائي". 
وتتصاعد تهديدات هذا السيناريو الافتراضي في حالة ارتباط الإرهاب النووي بدعم دولة أو مجموعة دول (State-Sponsored Terrorism) للجماعات المسلحة، وتورطها في دعم الاستهداف النووي للقوى الكبرى، في إطار صراع إقليمي يشهد تعارضًا في مصالح القوى الكبرى، وتدخلها بصورة مباشرة لدعم أطراف الصراع مثل الصراع السوري، بحيث يمثل الهجوم النووي "نقطة التحول" (Tipping Point) التي تؤدي إلى حدوث "الانجراف الإقليمي" نحو حرب عالمية النطاق، وهو ما يتصل بخبرة تحول الصراعات في القارة الأوروبية إلى حروب عالمية بسبب حالة الاستقطاب واختلال توازن القوى. وفي المقابل، فإن الحالة الراهنة لتوازن القوى الدولي، وعدم ارتباط القوى الدولية بصورة مباشرة بأيٍ من الجماعات الإرهابية، وفقدان الأخيرة لقدرات بناء وتطوير أسلحة نووية؛ يزيد من عدم احتمالية تحقق هذا السيناريو. 
4- سيناريو "الحرب غير المقصودة": يُعد سوء الإدراك والحسابات الخاطئة من أخطر سيناريوهات تفجر الحروب العالمية، إذ يرى "بنيوت بلوبدياس" أن تجنب الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي لمواجهة مباشرة خلال أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 لم يكن نتاج حسن تدبير القيادات السياسية في الدولتين، بقدر كونه نتاج عامل الصدفة الذي منع وقوع حادث عارض يحفز المواجهة العسكرية.
وتعددت خلال الحرب الباردة الحوادث غير المحسوبة التي كادت تتسبب في تفجر مواجهات عسكرية مباشرة بين القطبين الدوليين، مثل تهديد الجنرال "دوجلاس ماك آرثر" (قائد العمليات العسكرية الأمريكية في آسيا) باستخدام السلاح النووي ضد كوريا الشمالية، وشن حرب شاملة ضد الصين. وتُعد حادثة "آبل آرشر" نموذجًا تاريخيًّا على احتمالية تفجر حرب عالمية نتيجة لحسابات خاطئة حينما حشد الاتحاد السوفيتي استعداداته العسكرية بسبب المناورات العسكرية لحلف شمال الأطلسي في غرب أوروبا عام 1983 لاعتقاد القيادات العسكرية أنها إعداد لحرب نووية ضد دول أوروبا الشرقية.
وقد تتسبب بعض الحسابات الخاطئة والتقديرات غير الدقيقة لدى القيادات الميدانية في تفجر حرب بين القوى الدولية، ويستشهد "مايكل جودمان" (أستاذ الاستخبارات والشئون الدولية بجامعة "كينجز كوليدج" في لندن) بإمكانية تفجر حرب عالمية إذا ما قرر "فاسيلي آرخيبوف" قائد الغواصة السوفيتية في توجيه أيٍّ من الأسلحة النووية ضد السفن الحربية الأمريكية خلال أزمة الصواريخ الكوبية. وعلى الرغم من أن حسابات الردع قد تحجّم مثل هذه التطورات، إلا أن حالة التحفز والترقب والاستقطاب قد تؤدي لتزايد فرص حدوث الحسابات الخاطئة، على الأقل على مستوى القيادات الميدانية.
مرحلة "ما بعد الحرب": 
تستند سيناريوهات "الحرب العالمية الثالثة" لمعطيات افتراضية لا تتوافر في السياقات الدولية الراهنة، وهو ما يدفع لاستبعاد حدوثها، إلا أن التعامل مع هذه الاحتمالات المستبعدة باعتبارها "بجعًا أسود" (Black Swans) قد يكون المدخل الأكثر ملاءمةً لطرح سؤال: ماذا لو نشبت فعلًا حرب عالمية ثالثة؟. 
تبدأ الإجابة على هذا السؤال من مراجعة خبرات الحروب العالمية وما تبعها من ترتيبات عالمية فرضتها الأطراف المنتصرة، إذ تتصدع أركان النظام الدولي السابق على الحرب، ويتشكل "نظام عالمي جديد" يَكتب قواعده ويقوم ببناء مؤسساته الرئيسية المنتصرون في الحرب، بما يضمن تحقيقهم مكاسب مباشرة، واستدامة الهيمنة على النظام الدولي.
وفي المقابل، تتفاوت رؤى الأطراف المنتصرة لنظام وترتيبات ما بعد الحرب بناء على عوامل التوافق أو التنافر المصلحي أولًا والأيديولوجي في المرتبة الثانية، ومدى التماثل أو التفاوت في توزيع القوة فيما بينها. فعلى سبيل المثال، في حالة انتصار تحالف تقوده قوة مهيمنة يخضع لقياداتها عدد من القوى المتوسطة -مثل حلف الناتو- فإن القوة المهيمنة تنفرد بترتيب واقع النظام الجديد، وتختلف الأوضاع بصورة جذرية في حالة وجود تحالف بين قوى كبرى متماثلة أو متقاربة في القوة، مثل تحالف المنتصرين في الحرب العالمية الثانية الذي تضمن صراعًا ضمنيًّا بين الاتحاد السوفيتي وكتلة الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة.
ويتمثل البُعد الثالث لمرحلة ما بعد الحرب في "تسويات السلام"، والتعامل مع الأطراف المهزومة في الحرب. وفي هذا الإطار، فإن الإجراءات الأكثر شيوعًا تتمثل في المحاكمات الدولية لقادة الحرب، وفرض شروط الاستسلام، والاحتلال لأقاليم هذه الدول أو استقطاع أقاليمها وتقاسمها بين القوى المنتصرة، وتصفية القدرات العسكرية والاقتصادية لهذه الأطراف، وفرض وصاية دولية عليها، وهو ما يتوقف على رؤى الدول المنتصرة التي تتراوح ما بين سياسات الانتقام والتعويضات على غرار تسويات فرساي بعد الحرب العالمية الأولى، أو الاحتواء وإعادة التأهيل لضم الأطراف المهزومة للمجتمع الدولي بعد تحييد اتجاهات الصراع والعسكرة سياسيًّا وثقافيًّا، وهو النهج الذي اتّبعته الولايات المتحدة خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
أما البعد الرابع فيتمثل في "إعادة البناء" ومواجهة حالة الدمار والانهيار التي تسببت فيها الحرب، وهو ما يتصل بإعادة هيكلة مؤسسات النظام الاقتصادي العالمي لاستعادة الاستقرار الاقتصادي والنمو وصياغة مشروعات ضخمة لإعادة الإعمار تقوم برعايتها الدول المنتصرة الأقل تأثرًا بالحرب، خاصة في إطار التحالفات الدولية، مثل مشروع "مارشال" لإعادة بناء ما دمرته الحرب في أوروبا، ويتسبب تعثر "إعادة البناء" في استمرار حالة الاضطراب وعدم الاستقرار التي تعوق تأسيس نظام جديد، وتجاوز مرحلة الحرب، وتحفيز المجتمعات والدول على قبول السلام.
وأخيرًا، يتمثل البعد الخامس في حسابات "الحرب القادمة" أو الصراع الدولي الذي قد يتفجر عقب نهاية الحرب العالمية، وهو ما يمكن اعتباره المسار البديل لافتراض إعادة بناء النظام الدولي، والتوصل إلى معادلة لتحقيق السلام والاستقرار، فحالة الفوضى والاضطراب وانعدام اليقين قد تكون هي السمة الحاكمة لمرحلة ما بعد الحرب، مما يجعلها أقرب إلى مرحلة بينية فاصلة ما بين حرب انتهت وحرب قادمة لم تكتمل أركانها بعد بسبب اختلال توازن القوى والتعارض التام بين مصالح الأطراف المنتصرة، أو تمكن الأطراف المهزومة من إعادة بناء قدراتها العسكرية والرد الانتقامي على تسويات الحرب السابقة.
تعليقات