من هجمات نيوزلندا لضربات هولندا….الإرهاب يخترق القارة العجوز


إن العملية الإرهابية التى حدثت مؤخراً في هولندا ، وقبل بضعة أيام في نيوزلندا ، فأنه من المتوقع أن تنتشر في أوروبا بصورة واضحة فى الفترة المقبلة نتيجة نظرية التمدد والانتشار وبالتالي فإن التطرّف والإرهاب سيتصاعد بقوة فى الفترة المقبلة ليس فقط فى أوروبا وحدها بل وفِى أسيا أيضاً وفِى مناطق أخرى، فالعمليات المنفردة التي تقوم بها الجماعات الإرهابية التي لا يربطها رابط محدد ستكون أساس ما سيجري في أوروبا، فالبيئة الحامية للتطرف متوغلة في فكر اليمين المتطرف والذي صعد في معظم الأنظمة الحاكمة في الغرب الأوروبي والذي سيستمر يتحدى الحكومات والشعوب وستنتقل العدوى لباقي دول الجوار.
     لا شك أن للعنف تاريخه المرتبط ارتباط وثيق بالفرد، وقد ارتبط بالصراعات سواء سياسية أو الثورات، وطفرات التاريخ، بالإضافة إلى الارتباط بالتطوّر العلمي، كما أن هناك علاقة بين الإرهاب الدولي والإرهاب الداخلي حيث كشفت العديد من التقارير في أوربا أن ما كانت تعانيه بعض الدول من إرهابٍ داخلي كفرنسا وإيطاليا وأسبانيا في السبعينيات والثمانينيات ليس إرهاباً داخلياً فحسب؛ إذ كانت الجماعات الإرهابية تتعاون بعضها مع بعض، وهذا التعاون لم يقتصر على جماعاتٍ تحمل الأيديولوجيات نفسها بل هذا التعاون كان قائماً بين جماعاتٍ تحمل أفكاراً سياسية.
    أثار الإرهاب نقاشاً حاداً تخطى ما أثاره غيره من النقاشات فهو أكثر خطورة، فلم يعد الإرهاب بمعنى الجريمة من حيث إنها استخدامٌ للعنف، ضد مصالح بعينها في خدمة إيديولوجية معينة ، بل أصبح مفهوماً أشمل فهو إرهاب سياسي، اقتصادي، اجتماعي، أيديولوجي. كما أن الإرهاب لم يكن حكراً على فكر بعينه فهو تقنية يمكن لكل ذي مصلحة الاعتماد عليه، وأنه لا ضرورة لأن يكون الإرهاب أيديولوجية لفئة ما متى تلجأ إليه، بل يمكن أن يكون فقط أسلوب في مرحلة بعينها.
     فالإرهاب هو مفهوم قانوني ذو أبعاد سياسية، وانعدام الرغبة في الوصول لتعريف موحد يعكس حقيقة الوضع السياسي، إضافة إلى أن المكاسب التي استطاعت الدول الصغيرة أن تحققها في ظل نظام تعدد، أصبح أمراً يصعب تحقيقه في ظل سياسة القطب الواحد، وتظهر الأزمة الأمريكية الأخيرة مدى صحة هذا الاستنتاج، فالرغبة الواضحة لدى الولايات المتحدة الأمريكية هي فقط إنشاء تحالف دولي تقود به العالم لخدمة مصالح خاصة بها كانت تخطط لها سابقاً مستفيدة من أعمال إرهابية لم يقم دليل قاطع على ارتكابها من جهة معينة لتشن حرباً حقيقية ضد شعب سقته الحروب منذ أكثر من عشرين عاماً(1) .
موقف الدول من الإرهاب الجديد
      هناك تعارض بين مواقف الدول الأوربية ومواقف دول العالم النامي من قضية الارهاب تبلغ درجة كبيرة من التناقض، فالإرهاب الفردي في أشكال معينة وعلى أيدي مرتكبين معينين بالنسبة للدول الغربية هو وحده الذي يجب مكافحته والتغلب عليه وليس أي شيء آخر ، ونتيجة لذلك فقد تم تقدم أعضاء هذا الفريق باقتراحات لمكافحة الإرهاب بهذا المعنى ، أما بالنسبة لدول العالم الثالث. فإن الإرهاب الذي تشرف عليه الدولة، أو الذي تمارسه بنفسها هو وحده الذي يجب معالجته ومواجهته بالقوة ، وليس أي شيء آخر(2).
     فإنه من غير المنطقي تركيز الانتباه على بعض الرهائن على طائرة مخطوفة مثلاً ، بينما يتم تجاهل الكوارث الواقعة على الأمم التي هي رهائن كلها في جنوب إفريقية وفلسطين والبوسنة ، والعالم المتحضر لا يقدم لهذه الشعوب سوى الكلمات الحزينة، مثلما حدث من معظم الدول حيال مجزرة ( قانة ) في لبنان 1996م .وإن ما يستعصي على فهم دول العالم الثالث أكثر حتى من ذلك هو إطلاق اسم ( الإرهاب ) على عمل يائس له دوافع سياسية أو وطنية يقوم به فرد أو مجموعة أفراد ، بينما لا تطلق هذه التسمية على أعمال مماثلة يرتكبها آخرون يعملون لدوافع ذاتية خاصة ، وعندما تزال الأسباب الكامنة وعندما تطبق الإدانة بعدالة ومساواة فإن الإرهاب سوف يتلاشى من تلقاء نفسه(3).
ونتيجة لعدم الإتفاق بين الدول الأوربية والدول النامية على تعريف الإرهاب تحولت ظواهر التطرف العنيف والإرهاب من حوادث استثنائية إلى واقع شبه يومى فى مختلف أنحاء العالم. ومع التزايد المستمر فى وتيرة تلك الوقائع، وتباين السياقات التى تحدث فى إطارها، والتغير فى شكل العمليات ونوعية مرتكبيها، تتجدد الحاجة إلى دراسات جادة لطبيعة تلك الظواهر وسبل مواجهتها.
وعلى الرغم من بروز نظرية الجذور الاجتماعية والاقتصادية لدراسات الإرهاب ، وهى تلك التى تربط بين التهميش الاجتماعى من ناحية والقيام بعمليات إرهابية من ناحية أخرى، فإنه منذ أحداث الحادى عشر من سبتمبر، اهتزت الثقة بمقولات تلك النظرية. حيث أن التفسيرات النفسية القائمة على فرضية الاختلال أو الاضطراب النفسى لمرتكبى الحوادث الإرهابية لا تدعمها الأدلة المتوافرة عن مرتكبى الأعمال الإرهابية، والتى بينت أن نسبة ضئيلة جدًا من المتهمين فى حوادث الإرهاب اتسمت بمشاكل نفسية، مما استدعى البحث فى تفسيرات بديلة(4).
وفى إطار التحليلات البديلة، تتضح العوامل الثقافية، التى تسمح بتكريس ثقافة مجتمعية حاضنة للفكر المتطرف الذى يسمح بالتمييز ضد الآخر، بما يمثل البنية التحتية للسلوك الذى قد يستحيل عنيفا، فى ظل توافر الفرصة لذلك، فضلا عن دور صناعة السلاح فى دعم ثقافة العنف لتعزيز مكاسبها(5).
كما تطرح  فى إطار العوامل المفسرة- سمات السياق، مثل أزمات الانسداد السياسى، أو مشكلات الاندماج فى الدول الغربية، والتى يندفع فى إطارها أبناء المهاجرين، أو المتحولون إلى الإسلام، إلى الانخراط فى أعمال عنيفة، فضلاً عن عوامل أخرى ذات طبيعة فردية أو ذاتية، مثل أزمات التحقق لدى الشباب، سواء فى جوانبه المادية أو الروحية(6).
وبرغم تركيز معظم الدراسات على التطرف الدينى، وخاصة الإسلامى، فى ضوء صعود داعش على الساحه ، فإن أوراق الدراسة تتطرق إلى أنماط مختلفة من الأفكار المتطرفة، خاصة فى أفريقيا والهند، تلعب فيها مجموعة من العوامل المركبة دورًا فى الميل إلى التطرف العنيف.
خاتمــــــــة
     بالنظر للعمليات الإرهابية التى نشهدها فى العالم  سنجد أنها نتاج تحولين كبيرين أحدهما يرجع للتغيير الذى أصاب بنية الجماعات الجهادية وانتقالها من المحلية والصراع مع السلطة الداخلية، بغرض إسقاطها، وبناء مشروعها الإسلامى، إلى صراع انتقامى متعولم، ومع هذا التحول حدث تغير أعمق يتعلق بتراجع تأثير الإطار العقائدى الحاكم لهذه الجماعات، ففى عهد الجماعات الجهادية المحلية كان هناك إطار عقائدى وتفسير فقهى خاطئ للدين يحرك هذه الجماعات، والآن، تراجع حتى الغياب، هذا الإطار لصالح شعارات دينية سطحية تُستدعى لتبرير القتل والإرهاب الذى يتشكل أساسا نتيجة الواقع الاجتماعى والسياسى.
    فالجدل حول من المسئول عن العمليات الارهابية هل الدين أم السياق الاجتماعى هو جدل ارتبط بالتحولات التى أصابت التيارات المتطرفة فى نصف القرن الأخير، فدوافع الإرهاب طوال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضى كانت  النص الدينى أو بالأحرى التفسير المنحرف للنص الدينى. فقد امتلكت الجماعات الجهادية مرجعية فكرية وعقائدية متكاملة تدور حول مفهوم الحاكمية للّه، واعتبرت النظم القائمة هى نظم جاهلية لا تطبق أحكام الله ولذا وجب تكفيرها وإسقاطها بالعنف، وأن مدخل أى عضو للانضمام إلى التنظيمات الجهادية الكبرى كان يبدأ بالإيمان بمرجعية عقائدية متكاملة تستند إلى تفسير خاص للنص الإسلامى يدفع العنصر بعد سنوات من الانخراط فى هذه التنظيمات إلى ممارسة العنف والإرهاب فى مواجهة ما كان يعتبره «النظم الكافرة» والمجتمع الجاهلى.
    ومع بدايات العقد الماضى فهناك تراجع ملحوظ في دور الدين كمحدد فى عملية التجنيد لتنظيمات القاعدة وداعش، صحيح، إنه ظل حاضرا كمبرر للقتل أو الانتحار، ولكن من يصنع الكراهية والإرهاب وتكفير المخالف لم يعد أساسا تفسيرا منحرفاً للنص الدينى يقضى التكفيرى سنوات لدراسته، مثلما فعل جهاديو القرن الماضى، إنما هو واقع طائفى فى العراق أشعر قطاعاً واسعاً من السنة بالاضطهاد والتهميش، أو مظالم سياسية وطائفية وجرائم حرب ارتكبها النظام فى سوريا فدفعت جزءاً من السنة للانضمام لداعش أو جبهة النصرة (جبهة فتح الشام الآن)، أو التواطؤ معهما. فها هي أوروبا تعاني ويلات الضربات الإرهابية وبات عليها دراسة الوضع الراهن جيداً للخروج بتوصيات يتم تنفيذها لتقويض الهجمات الإرهابية التي تأتي دون سابق ميعاد في محاولة منها لإعادة الإستقرار للقارة العجوز.
/ محمد بغدادي
الباحث في العلوم السياسية والإدارة العامة
كلية الاقتصاد والعلوم السياسية

تعليقات