منحنى القوة وأزمة الاقتصاد السياسي الأمريكي
وليد عبد الحي
وليد عبد الحي
يبدو ان ميركنتيلية الرئيس ترامب ، وبراغماتية العقل الامريكي،ونظريات القوة الواقعية القديمة(مورغانثو ونيبور) والواقعية الجديدة (كينيث والتز وتلاميذه) لم تُجدِ نفعا في أخذ المكانة الامريكية للأمام وتحدي نظرية بول كينيدي( صعود وهبوط القوى العظمى) ولا نظرية جوهن غالتنغ حول تراجع الولايات المتحدة بل واحتمال تفككها.إن رصد مؤشرات التراجع في الفترة الحالية يعزز استنتاجنا السابق، ويكفي التوقف عند المؤشرات التالية للتأكيد على ما كتبته سابقا ان الانسحاب الامريكي من غرب آسيا هو نتيجة ضعف بنيوي وليس ترجمة “لنزعة سلمية” استيقظت فجأة في الوجدان الامريكي:1- العجز التجاري : تشير البيانات الامريكية الى أنه منذ أزمة الرهن العقاري عام 2008 والعجز قائم لكنه في العام الماضي(2018) بلغ ذروته ووصل الى 621 مليار دولار(ستمائة وواحد وعشرين مليار) وهو ما يعني الفشل الواضح تماما في سياسة ترامب الميركنتيلية،ويكفي ملاحظة ان حجم الواردات الامريكية ارتفع 217.7 مليار في العام الماضي بينما لم تزد الصادرات الامريكية عن 148.9 مليار قياسا للعام 2017، وهو ما يعني ان الاتجاه في اتساع الهوة بين الصادرات والواردات تزداد.2- مع كل الضجيج الذي رافق اجراءات ترامب ضد الصين ومحاولة لجم تدفق سلعها للسوق الامريكي من خلال السياسات الجمركية والحمائية، فإن العجز التجاري بين البلدين أزداد ليصل الى 419.2 مليار لصالح الصين ،وهو ما يعني زيادة في الخلل لصالح الصين قياسا بالعام الماضي حوالي 43.6 مليار دولار. وبالمقارنة فإن الحالة في الميزان التجاري الامريكي الاوروبي تشهد نفس الوضع مع الصين، فرغم قيود ترامب على بعض الواردات من اوروبا ، فإن العجز التجاري عام 2018 ارتفع 17.9 مليار دولار ليصل الى 169.3 مليار دولار لصالح اوروبا.3- بلغ اجمالي الديون الامريكية في العام الماضي ما مجموعه 21.97 تريليون دولار( أؤكد تريليون)، وهو ما يعادل حوالي 77% من القيمة الاسمية لاجمالي الناتج المحلي الامريكي ،وهو ما يعني زيادة عن العام الماضي بقيمة 146%(مائة وست واربعون) وهو الأعلى منذ الكساد الكبير عام 1929.4- العجز في الموازنة العامة: بلغ العجز في موازنة الدولة للعام 2018 ما مجموعه 779 مليار دولار، وهو العجز الاعلى منذ 2012، وتشير التوقعات الى انه سيبلغ في عام 2019 تريليون دولار ، أي بزيادة تصل الى حوالي 28% عن العام الحالي.5- ان الاعلان عن الانسحاب الأمريكي من
سوريا والتوجه نحو نفس السياسة في العراق وأفغانستان بدأ يثر مخاوف في كوريا الجنوبية من احتمال تخفيض او سحب ال 28 الف عسكري امريكي إذا سارت الامور بين بيونغ يانغ وسيئول في اتجاه ايجابي في حدود معينة، لاسيما ان ترامب يشكو دائما من نفقات الانتشار الامريكي، ولعل فكرة “الناتو العربي” تتضمن في طياتها الانسحاب الامريكي وضمان المصالح الامريكية من خلال تحميل الاعباء للحماية لدول أخرى بخاصة الخليجية ،وهو النهج الذي يفعله ترامب مع دول الناتو الاوروبية ولو من خلال الضغط لزيادة نفقات اوروبا في الناتو، وهو ما جعل فكرة تفعيل بعض فقرات اتفاقية ماستريخت 1992 تروج في الاوساط الاوروبية لانشاء قوة دفاعية أوروبية ” منفصلة”، وهو ما تضغط فرنسا والمانيا لانجازها، بخاصة ان خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي يجعل القدرة الأمريكية على تكييف قرارات الاتحاد الاوروبي اقل فاعلية قياسا للفترات التي كانت فيها بريطانيا في قلب الاتحاد.6- السلم الاجتماعي: في مؤشرات الجريمة والعنف الاجتماعي تحتل الولايات المتحدة المرتبة الاولى بين الدول الغربية في معدل الجريمة طبقا لمؤشرات 2018-2019، حيث بلغ مؤشرها 47.13 وهو نفس معدل الجريمة في اثيوبيا.7- بالمقابل فإن الولايات المتحدة ما تزال تحتل مراتب أولى في قطاعات اقتصادية وعلمية وتقنية، لكن هذه المراتب إما ثابتة لسنوات او أنها تتراجع ولو ببطء نظرا للإرث الغني لهذه الدولة، لكن المزاحمة لها تزداد وبوتيرة عالية، بخاصة ان القدرة على احتمال التمدد الزائد(overstretch) في أقاليم العالم أصبح مكلفا للغاية بشريا واقتصاديا واجتماعيا.لا أدري الى أي مدى يدرك القادة العرب أن بنية النظام الدولي وأنماط تفاعلاته ليست مستقرة او ثابتة للأبد ، ولعل ايقاع التغير المتسارع يعزز ذلك، وهو ما يستدعي التفكير في نسج شبكة علاقات دولية جديدة على المستويين الاقليمي والدولي…وإدراك ان القوة المالية أمر مهم لكنها قاصرة إذا لم تتكامل مع متغيرات القوة الأخرى وتوظيف الموقع الجيواستراتيجي والجيوسياسي للاصطفاف الدولي الذي يلوح في الافق، لكن الضرورة تقتضي التنبيه الى ان ” الدولة في مراحل تراجعها” – قد – تصبح أكثر عدوانية وشراسة في إدارة علاقاتها الدولية على أمل المحافظة على موقعها في سلم القوى الدولي، وثمة نماذج تاريخية على هذا…ربما.