العامل الخارجي والانسداد السياسي في الجزائر


 عبد النور بن عنتر: أستاذ محاضر، جامعة باريس 8 (فرنسا)

ليس من مصلحة القوى الخارجية زعزعة استقرار الجزائر في وقت تعاني فيه المنطقة من ترهل الدولة والاحتراب؛ لذا فهي تتجاهل المطلب الديمقراطي في تعاملها مع السلطة الجزائرية، وتصرف النظر عن مسائل الحريات وحقوق الإنسان وبناء دولة القانون.
تطرح حالة الانسداد السياسي الحالي في الجزائر، جراء عدم استجابة السلطة للإرادة الشعبية المعبرة عنها من خلال المسيرات الضخمة التي دخلت أسبوعها الرابع منتصف مارس 2019، والتي يرتفع سقف مطالبها يوماً بعد يوم كردّ على محاولات الحكام الالتفاف عليها، تساؤلات حول انعكاسات حالة الاحتقان السياسي والحراك الاجتماعي في البلاد على استقرارها واستقرار تخومها الجغرافية ودور العامل الخارجي في ذلك. تحاول هذه المقالة تحليل بعض جوانب إشكالية العامل الخارجي، والانسداد الراهن، وتداعيات ذلك على الاستقرار محلياً وإقليمياً.

الاستقرار أولاً

تنظر القوى الخارجية إلى الجزائر على أنّها عامل استقرار في بيئتها الإقليمية، خاصة في سياق القلاقل الأمنية المتنامية في المنطقة المغاربية-الساحلية منذ ما يقارب عقد من الزّمن. فهي تقرّ بدور الجزائر في الحفاظ على الأمن الإقليمي وتسعى لتدعيمه، ليس بالضرورة لمصلحة الجزائر، وإنّما لأنّ مصالحها تقتضي ذلك. ومن ثمّ ليس من مصلحة هذه القوى زعزعة استقرارها. كما تُقدم الجزائر نفسها كعامل استقرار في منطقتها، وتتقاطع بعض مصالحها الأمنية ومصالح القوى الخارجية. ويعدّ هذ الإدراك/الإقرار نقطة توافق استراتيجية بين القوى الخارجية والجزائر. وبالفعل، فهذه الأخيرة عامل استقرار في الإقليم المغاربي-الساحلي وتبذل جهداً معتبراً، عدّة وعتاداً (أمنياً وعسكرياً) ووساطة (سياسياً)، لصون الأمن الإقليمي وتسوية الأزمات في دول الجوار. وهي البلد الأكثر انخراطاً في تأمين الحدود في المنطقة والأكثر ذوداً عن الأمن الإقليمي. لكنّ الجزائر ليست حليفاً غير مشروط للقوى الخارجية، فرغم الضغوطات تمسكت بالمبادئ المؤسسة لعقيدتها السياسية والأمنية لاسيما تلك القائمة على مبدأ عدم التدخل (في شؤون غيرها و/أو نشر قواتها خارج ترابها). أمّا نقطة التوافق الاستراتيجية الأخرى فتتمثل في مبدأ الاستقرار أولاً، وقد تدعمت قناعات حكام الجزائر وشركائهم الخارجيين بهذا المبدأ مع توسع رقعة الاضطرابات في المنطقة. لكن في هذه المقولة مغالطة، لأنّ المشكلة ليست في الاستقرار وإنّما في طبيعته ومضامينه.

بالنّظر للتداخل بينهما أصبح التوافقان الاستراتيجيان -مع مرور الزمن- عقبة أمام الانفتاح السياسي في الجزائر. فالقوى الخارجية –رغم إطناب خطاب السلطة في الحديث عن الأيادي الخارجية المترصدة بالبلاد– ليست لها مصلحة في زعزعة استقرار الجزائر في وقت تعاني فيه المنطقة من ترهل الدولة والاحتراب. لذا فهي تتجاهل المطلب الديمقراطي في تعاملها مع السلطة الجزائرية، وتصرف النّظر عن مسائل الحريات وحقوق الإنسان وبناء دولة القانون. إذ لا تهتم القوى الخارجية بالاستقرار البنيوي لأنّ الاستقرار الأمني أولويتها حتى ولو كان نسبياً وظرفياً، مضحية بالحريات وحقوق الإنسان التي يتغنى بها خطابها. فكان أن دعمت -على طريقتها- التسلطية، ولسان حالها الاعتبارات الأمنية أولى من الاعتبارات الأخلاقية (حقوق الإنسان والديمقراطية).
أمّا السّلطة الجزائرية فتوظف هذه المدركات والمصالح الخارجية لخدمة مآرب داخلية. فهي تتخذ من القلاقل في دول الجوار وفي دول الربيع العربي، في نسخته المجهضة، ذريعة للحشد والتعبئة، ولرفض أي انفتاح سياسي بدعوى تحصين الجبهة الداخلية لمواجهة التهديدات القادمة من الخارج، مسوّقة ومروّجة لاستقرار محلي، هو في واقع الحال شكلي أكثر مما هو فعليّ، وإن كان وضع الجزائر مستقراً مقارنة ببعض جيرانها. وهو استقرار تتخذه القوى الخارجية بدورها حجة لتثمين دور الجزائر إقليمياً، وذريعة لاستبعاد مسائل الحريات من تعاملها معها ما دامت القاعدة هي الاستقرار أولاً.

هناك علاقة طردية بين القلاقل في التخوم الجغرافية التي بدأت مع الأزمتين الليبية والمالية، وسيرورة تدعيم التسلطية في الجزائر. وإن كان هذا الدعم قد عرف نقلة نوعية مع التوجه نحو الرئاسة على مدى الحياة بإلغاء تحديد الرئاسة في ولايتين فقط (خمس سنوات لكل واحدة) بموجب التعديل الدستوري لعام 2008 (قبل العدول عنه في 2016)، حتى يبقى الرئيس بوتفليقة في الحكم. ويُعد هذا التعديل خطيئة استراتيجية ارتكبتها السلطة، وزكّاها شركاؤها الدوليون، أسهم إلى حدّ كبير في خلق الظروف التي قادت إلى الانسداد السياسي الحالي.

بيد أن تغليب المصالح الأمنية الظرفية على المصالح الأمنية المتوسطة والبعيدة المدى، يؤدي دائماً إلى نتائج عكسية؛ إلى وضع تلك المصالح على المحك في الحال والمآل. فالسلطة والقوى الخارجية أغفلت حقيقة أساسية وهي أنّ الاستقرار يُصان بشكل أفضل ويكون أكثر ديمومة بفتح باب المشاركة السياسية في الحكم والبناء التدريجي للديمقراطية ودولة القانون. أمّا الاستقرار المبني على التسلطية وتدعيمها وعلى الغلق التام للحقل السياسي فهو ظرفي، وهذا ما أكّدته المظاهرات الحالية في الجزائر التي أثبتت، لمن كان له أدنى شك، وهم الاستقرار المسوّق له.

نظراً للتصورات الخاطئة للسلطة وللقوى الخارجية، فإنّ دور الجزائر كعامل استقرار في بيئتها الإقليمية سيتراجع بفعل الشرخ المتنامي في الجبهة الداخلية جرّاء رفض الشعب للسلطة القائمة. ومن ثمّ فالعملية تحصيل حاصل، إذ لا يمكن لأي دولة أن تكون عامل استقرار في منطقتها إن كانت هي نفسها تعيش انسداداً سياسياً بل أزمة سياسية حقيقية. ويبدو أنّ حالة الانسداد الحالية مرشّحة لمزيد من التوتر الداخلي بفعل التمديد غير الدستوري لحكم بوتفليقة ولأجل غير مسمّى (وغموض تام بشأن الضمانات الخاصة بالعملية الانتقالية لاسيما مع غياب رزنامة سياسية محددة المعالم والآجال) والالتفاف على مطالبة الشعب برحيل بوتفليقة ومن معه.

إن استمرّت السلطة في مماطلتها في الاستجابة لمطالب الشعب المنتفض، فمن المرجح أن يصبح هذا الانسداد السياسي خطراً على الجزائر وعلى جوارها، لأنّه سيُدخلها في أزمة داخلية حادة ستقود حتماً إلى تراجع دورها كعامل استقرار في المنطقة، مما قد يعرض الأمن الإقليمي المختل أصلاً إلى مزيد من عدم الاستقرار. فدول الجوار المضطربة التي تعتمد على الجزائر لتجاوز أزماتها الداخلية بامتداداتها الإقليمية، ستجد نفسها في مأزق مع تخبط سندها الإقليمي في محنة داخلية. ومن ثمّ فاستمرار الانسداد السياسي الحالي سيأتي ولو جزئياً على الدور الذي تلعبه الجزائر في التوازنات الإقليمية وفي الأزمات الداخلية والإقليمية في المنطقة، دور مرغوب فيه إقليمياً ودولياً لأنّه يعمل لصالح استقرار المنطقة، لكن شتان بين الاستقرار كوسيلة (البعد الظرفي) والاستقرار كغاية (البعد البنيوي).

لا يمكن للاستقرار التسلطي أن يكون إلاَّ ظرفياً، فهو إلى الزوال لا محال. أما الاستقرار الحقيقي والدائم فيكون بفتح باب المشاركة السياسية في الحكم وبناء الديمقراطية. وقد أكّدت المسيرات الحالية، لمن له أدنى شك، أن الاستقرار القائم على التسلطية ظرفي، وهو على درجة عالية من العرضية. ومن ثمّ فالتخويف بما يحدث في الدول الأخرى لتبرير تقييد الحريات وغلق الحقل السياسي لا يجدي نفعاً، فالسبيل الأنجع لتفادي عدواها هو إرساء قواعد نظام ديمقراطي بشكل سلسل.

أخطأت السلطة ومعها القوى الخارجية التقدير في مقاربتها للاستقرار مراهنة على الاستقرار التسلطي. فمع تمسك بوتفليقة بالحكم، حتى خارج الأطر الدستورية، ناهيك عن القواعد الديمقراطية، فتحت السلطة جبهة داخلية هي في غنى عنها في ظلّ القلاقل في دول الجوار. فبدل تحصين الجبهة الداخلية بفتح الحقل السياسي للمشاركة وإرساء تدريجي لقواعد بناء دولة ديمقراطية، تبنت السلطة خيار تدعيم تسلطها ونموذج الرئاسة إلى مدى الحالة، وما يلازمهما من انتهاك للحريات، ونهب للمال العام، واستشراء للفساد، وقمع للمظاهرات، فكان أن استفزت السلطة الشعب الذي انتفض ضدها. فعوض أن تطلق عملية انتقال سياسي سلس ومتحكم فيه من خلال إصلاحات سياسية واقتصادية عميقة ولكن تدريجية، تتمّ في ظروف عادية، بعيداً عن السياق المتأزم، تسمح في نهاية الأمر بتحصين الجبهة الداخلية ودور الجزائر الإقليمي على حدّ سواء، فضلت السلطة تشديد قبضتها وتدعيم حكمها التسلطي. ولذا فهي تتحمل مسؤولية تاريخية فيما آلت إليه وستؤول إليه الأوضاع في البلاد.

الدور المزدوج

قد يكون العامل الخارجي، في الأزمة الحالية، مُعقِّداً للأمور وسبباً في زيادة الاحتقان، كما قد يكون مسهلاً ومساهماً في خفض حدة التوتر وفي إطلاق عملية سياسية شاملة تضع أسس مرحلة انتقالية سلسة وحقيقية. التزمت القوى الدولية عموماً بعض الحذر في ردود فعلها حيال ما يحدث في الجزائر. فهي تعلم جيداً أنّ كل ما سيصدر عنها سيندد به طرف آخر على أنّه تدخل في شأن محلي. وقد حاولت السلطة ضرب شرعية المسيرات الشعبية بالحديث عن مؤامرة وأيادٍ خارجية، لكنّها في نهاية المطاف هي من تلقى مساندة خارجية، فرنسية تحديداً. لو استندنا إلى موقفي الولايات المتحدة وفرنسا، فيمكن القول إنّ العامل الخارجي يعدّ -في الوقت الراهن- عاملاً مُعقِّداً بسبب الانحياز للسلطة على حساب المطالب الديمقراطية للشعب. فأمريكا وفرنسا زكتا تمديد الرئيس بوتفليقة حكمه خارج أي إطار دستوري ولأجل غير مسمّى. فبعد أن التزمت الحذر، اختارت فرنسا الانحياز للسلطة، وهذا ما اعتبره الجزائريون تدخلاً في شؤونهم الداخلية. فالسلطة ألغت الانتخابات – دون أي سند قانوني – بسبب الرفض الشعبي لمرشحها الرئيس المنتهية ولايته، ولجأت إلى التمديد لأجل غير مسمى بدعوى تنظيم المرحلة الانتقالية – دون أي سند قانوني – التي كانت ترفض حتى التفوه بها قبل اندلاع انتفاضة 22 فبراير 2019. وزكّت فرنسا هذه الخطوة المزدوجة مثيرة انتقادات حادة في أوساط الجزائريين. من الواضح أنّ الشعب الجزائري يريد انتقالاً بدون يوتفليقة، بينما تريد السلطة والقوى الخارجية انتقالاً معه وبإشرافه. وقد استدعت السلطة شخصيتين دبلوماسيتين قديمتين-جديدتين (الأخضر الإبراهيمي ورمطان لعمامرة) لهما سمعة دولية، وكلفتهما بمهمة الترويج والتسويق لخيار التمديد – خارج الأطر القانونية.

إنّ القوى التي يُعتقد -عموماً- أنّها مُتتبعة للوضع في الجزائر وعلى دراية بما يحدث فيه، قد تفاجأت بالمظاهرات وبحجمها وبمطالبها، وهي في حالة إرباك مثلها مثل السُّلطة. ويعبر انحيازها عن خوفها على مصالحها ومما هو آتٍ؛ أي السلطة التي قد تحلّ محلّ السلطة الحالية، وعلى انعكاسات عدم الاستقرار في الجزائر على جوارها الإقليمي. فهي تتخوف من أن تتحول الجزائر من عامل استقرار في تخومها إلى مصدر لعدم الاستقرار فيها، في وقت تشهد فيه معظم دول المنطقة اضطرابات سياسية، ما سيزيد من تهديد مصالح تلك القوى ومن أعبائها الأمنية في المنطقة. وهو تخوف شرعي، بيد أنّ انحيازها يُعقِّد الأمور وربما يسهم في خلق الظروف المواتية للمشهد الذي تتخوف منه أصلاً. إنّ مراهنة القوى الخارجية، الغربية تحديداً، على الاستقرار التسلطي (الظرفي)، بدل الاستقرار الديمقراطي (البنيوي)، وانحيازها للسلطة على حساب المطالب الشعبية – كما حدث في دول أخرى من قبل – سيسهم في حالة الانسداد السياسي في البلاد ما سيمس باستقرارها وبالتالي باستقرار المنطقة نظراً لدور الجزائر في صون الأمن الإقليمي. وبالتالي فموقف هذه القوى سيضرّ في نهاية المطاف بمصالحها.

احتمال التدخل الخارجي

تدلّ بعض المؤشرات على أن هناك تسوية استراتيجية بين قوى خارجية، لاسيما فرنسا، والسلطة الجزائرية مفادها انحياز الأولى للثانية ضد مطالب الشعب شريطة: عدم استخدام العنف ضد المتظاهرين، لأنّ ذلك سيضع تلك القوى في مأزق حيال الرأي العام محلياً ودولياً؛ إطلاق عملية انتقال ديمقراطي متسلسل متحكم فيه، يحول دون استحواذ تيارات معادية (لمصالح هذه القوى الخارجية) وبشكل سريع على مقاليد الحكم في الجزائر. ويبدو أن القوى الخارجية تلقت ضمانات فيما يخصّ عدم اللجوء للقوة. المؤشر الرئيسي هو أن رمطان لعمامرة أكّد بأنّ السلطة الحالية لن ترتكب الأخطاء نفسها التي أُرتكبت في ليبيا وسوريا. وتعدّ هذه المسألة معضلة بالنسبة للسلطة الجزائرية التي تعودت على إدارة المظاهرات بالقمع كما فعلت العام الماضي مع مظاهرات الأطباء والمعلمين والأساتذة... (قمع يُحمِّل المتظاهرون حالياً رئيس الوزراء الجديد محمد بدوي، الذي كان حينها وزيراً للداخلية، مسؤوليته)، فهي لم تتعود -قط- على التعامل بدون عنف مع مظاهرات سلمية.

قد تتسبب حالة الانسداد في انزلاق أمني، مثل استخدام السلطة القوة ضد المتظاهرين. وحينها قد تنقلب القوى الخارجية عليها، وتتخذ من هذا الانزلاق الأمني ذريعة للتدخل في شؤون الجزائر، وبما أنّه ستكون للأزمة الحالية تداعيات إقليمية إن واصلت السلطة تجاهل مطالب الشعب، فإنّ ذلك قد يسرِّع التدخل الخارجي، بشكل أو بآخر. لذا يُستبعد أن يكون موقف القوى الخارجية نهائياً، بل هو مرشح للتطور حسب مقتضيات الأحداث ومنعطفاتها.

أعرب المتظاهرون عن رفضهم القاطع لأي تدخل في الشأن المحلي، ما يدل على حرصهم على أن تكون انتفاضتهم، على السلطة الحاكمة، محلية المنشأ (endogenous) والأداء والتنفيذ. بالطبع تشكل هذه الاستقلالية بحدّ ذاتها معضلة للسلطة وللقوى الخارجية، لكنها مجدية في نفس الوقت للسلطة الجزائرية والأطراف الخارجية لأنّ هذه الاستقلالية الثلاثية الأبعاد، تُمثّل صمامة أمن وأمان للاستقرار الداخلي والإقليمي. فعكس الدول الأخرى التي أصبحت خطراً على جيرانها بسبب أزمتها الداخلية، فإنّ حالة الجزائر أكثر تعقيداً من منظور الأمن الإقليمي لأنّها الأكثر التزاماً به والأكثر ذوداً عنه، وبالتالي فأيّ إخلال باستقرارها سيمس الاستقرار الإقليمي من جهة ويفقده سنده الأقوى من جهة أخرى. ومن ثمّ فحتى من منظور واقعي ومصلحي، لا اعتبار فيه للمستلزم الأخلاقي/الديمقراطي، من مصلحة الأطراف الخارجية مساندة تسوية انتقالية ديمقراطية فعلية للأزمة الحالية في الجزائر، دون أن تتحول تلك المساندة إلى تدخل في شؤون البلاد.



تعليقات