المنظور الواقعي و النزاعات الدولية


تمهيد

هناك إجماع حول أهمية موضوع النزاعات الدولية في أجندة المنظرين لحقل العلاقات الدولية، كون حالة الاستقرار في النظام الدولي عادة ما تقترن بمدى اقترابه من أو ابتعاده عن احتمال حدوث حرب على المستوى الدولي large-scale war. وقد زاد الاهتمام بالبحث في فهم وتفسير أسباب النزاعات الدولية منذ اندلاع الحرب العالمية الأولى، ثم تضاعف هذا الاهتمام إثر فشل الترتيبات الدولية لمنع تكرار هذه الظاهرة، وذلك مع نشوب الحرب العالمية الثانية والنتائج المروعة التي نتجت عنها. تزامن كل هذا مع احتدام النقاش بين المدرسة المثالية والمدرسة الواقعية في فهم وتفسير العلاقات الدولية، وهو النقاش الذي تم حسمه لصالح المدرسة الواقعية، وهنا أقتبس الفكرة التي كتبها Michael Howard (1983): "جوهريا، لم تتغير أسباب الحرب عبر مر القرون؛ فما اعتبره Thucydides سببا للحرب البولوبونيزية، وهو تنامي القوة الأثينية والخوف الذي سببه ذلك لدى سبارتا، هو نفسه ما يمكن اعتباره سببا في اندلاع الحرب العالمية الأولى، وه تنامي القوة الألمانية والخوف الذي سببه ذلك لدى بريطانيا"[1]. وفي مسح تاريخي-تحليلي للنزاعات الدولية منذ الحروب البولوبونيزية 404-431 ق.م وصولا إلى أزمة الصواريخ الكوبية 1962، يصل Donald Kagan إلى أن الحرب كانت دائما نتاجا للتنافس/الصراع الدولي من أجل القوة، وأبعد من ذلك فهو يسجل أن الدول-ذات السيادة لا تبحث عن القوة فقط من أجل تعزيز أمنها أو الحصول على مكاسب اقتصادية، إنما تفعل ذلك أيضا من أجل تعزيز هيبتها الدولية، كما يخلص إلى أن الخوف من التهديدات، سواء كانت قريبة أو بعيدة، والتي قد لا يكون من الممكن  البقاء في مأمن منها، هو ما يفسر الثبات في ظاهرة الحرب كجزء لا يبدو  أنه سيتغير من الطبيعة البشرية.
وتعتبر حقبة الحرب الباردة بمثابة العصر الذهبي لهيمنة المنظور الواقعي في مقاربة النزاعات الدولية، وذلك بسبب قدرته على تزويدنا بتفسير واضح ومتماسك لتطور النظام الدولي من جهة، ولسلوك الدول ونزوعها المحتمل نحو استعمال القوة لتعظيم مصالحها من جهة أخرى. ويركز المنظور الواقعي على الطبيعة البشرية [الشريرة في أصلها] ومنطق الفوضى في النظام الدولي لتفسير النزاعات الدولية والمأزق الأمني للدول.
يرى Hans J. Morgenthau، أحد مؤسسي النظرية الواقعية الكلاسيكية، أن القوى [الشريرة] المتأصلة في الطبيعة البشرية هي التي تفضي إلى نشوب النزاعات الدولية، وأن المصالح المتعارضة للأفراد/للدول تجعل من العالم مكانا غير مناسب لتجسيد المبادئ الأخلاقية، ومن ثم فإن الوسيلة الأكثر فعالية لتفادي الحروب وأعمال العدوان هو تشكيل ميزان القوى، الذي يثبط الدول من اللجوء إلى محاربة بعضها البعض وبالتالي يحافظ على استقرار النظام الدولي.
وقد عمل Kenneth N. Waltz فيما بعد على إثراء النظرية الواقعية لـ Morgenthauوذلك بمحاولة إسكات الانتقادات التي اتهمت الواقعية بإهمال التفاعلات الدولية الإيجابية والمكاسب التعاونية بين الدول، إلى جانب إغفالها لتنامي الاعتماد المتبادل في النظام الدولي. لقد قدم Waltz محاولة جادة لتنقيح الواقعية الكلاسيكية، غير أنه بقي يسلم بالنظرة الهوبزية للنظام الدولي، حيث يفترض أن الحالة الطبيعية في العلاقات بين الدول هي حالة حرب:
" Among states, the state of nature is a state of war "
وأن حالة الفوضى في بنية النظام الدولي تؤدي إلى خلق ما أسماه بمعضلة اللاأمن insecurity dilemma وتدفع الدول إلى القلق بشأن أمنها. هذه الصياغة تؤشر على وجود علاقة تفاعلية/ثنائية الاتجاه بين البنية الفوضوية للنظام الدولي وكون الوحدات الدولية تعتمد على نفسها self-help units لحماية أمنها من تهديدات الوحدات الأخرى؛ بعبارة أخرى، البنية الفوضوية للنظام الدولي تزيد من اعتمادية الدول على نفسها، تماما كما أن هذه الأخيرة تفاقم من حدة الأولى.

وهذا هو جوهر النظرية الواقعية الجديدة، أو ما يعرف بشكل أكثر دقة الواقعية البنيوية structural realism.
         لن نسهب في تفحص البناء النظري للواقعية الجديدة وطبيعة التنقيحات التي مستها مقارنة مع الواقعية الكلاسيكية، لأن هذا العمل سيكون محل انشغالنا في الأجزاء القادمة. ما نريد التأكيد عليه هو أن نظرية Kenneth N. Waltz كانت استجابة نوعية – في الأساس- لمتطلبات الثورة السلوكية التي واكبت أغلب حقول المعرفة الاجتماعية، بما في ذلك حقل العلاقات الدولية كفرع من فروع العلوم السياسية. حيث عمل Waltz رفقة غيره من الواقعيين الجدد على وضع النظرية الواقعية على سكة الدراسات الاجتماعية الوضعية – التجريبية، وذلك بنقل الاهتمام الواقعي من الطبيعة البشرية المظلمة (كتفسير لنشوب النزاعات الدولية) إلى دور البنية الفوضوية للنظام الدولي في وضع الدول أمام معضلة اللأمن، مما يضعها في حالة الاستعداد الدائم لخوض الحروب حفاظا على أمنها.
         هذا الاستعراض يؤشر على خاصية تاريخية لازمت النظرية الواقعية منذ جذورها الأولى، وصولا إلى – ما نفترض أنها - الأزمة التي واجهت المنظرين الواقعيين بإلحاح متزايد مع نهاية الحرب البادرة. تتمثل تلك الخاصية في القدرة على التنقيح الذاتي والتكيف مع المتغيرات المستجدة؛ أما الأزمة التي أشرنا إليها فتتمثل في تحول طبيعة النزاعات الدولية، من نزاعات بين الدول interstate إلى نزاعات داخل الدول intrastate، أي أن الفواعل/ الأطراف في النوع الثاني ليست الدول، وهذا ما يبرر كون الواقعية في أزمة أمام هذا التحول، لأن الافتراض الواقعي الرئيسي والذي لم يتغير بتغير النقاشات داخل المنظور الواقعي intraparadigm نفسه هو أن الدولة هي اللاعب المركزي والوحيد central & unique في العلاقات الدولية.
هذا ما يبرر أهمية التساؤل حول مدى قدرة النظرية الواقعية على فهم وتفسير نمط نزاعات حقبة ما بعد الحرب الباردة. وهنا نستشهد بالبيانات الإحصائية التي أسهم بها K. Holsti: The state, War and the State of War (1996) ، حيث خلص إلى وجود انحسار في ظاهرة الحرب الدولية [محل التفسير الواقعي التقليدي]، فوفقا لما ذكره Holsti فإن عدد الحروب بين الدول قد انخفض سنويا بمعدل 0.036% خلال الفترة من 1918 إلى 1941، وإلى 0.005% خلال الفترة من 1945 إلى 1995. وفي المقابل، يشير برنامج جامعة Leiden البريطانية في مجلته السنوية التي تصدر حول النزاعات الدولية إلى تزايد عدد النزاعات الداخلية الناجمة عن غياب الدولة المفضي إلى العنف العرقي والعنف الفصائلي ليصل إلى 114 نزاعا عام 1998 .

الإشكالية:   هل استطاعت النظرية الواقعية تجاوز – ما نسميه - الأزمة الناجمة عن تحول نمط النزاعات الدولية في حقبة ما بعد الحرب الباردة؟
عناصر البحث :

 التراث الواقعي منذ Thucydides: مقاربة تاريخية- تراكمية
1- جذور المنظور الواقعي في العلاقات الدولية
2- الواقعية الكلاسيكية
3- الواقعية الكلاسيكية الجديدة
4- الواقعية الجديدة/البنيوية
5- تقييم المنظور الواقعي لحل النزاعات.
خاتمة.
رابط التحميل :

 
تعليقات